خاص العهد
موازنة التقاط الانفاس و"أفضل الممكن"
فاطمة سلامة
من يُشاهدِ الجلسات البرلمانية التي تُعقد على الهواء مباشرة لمناقشة الموازنة، يعِ حجم "اللارضى" الذي يُحاصر تلك المسماة موازنة. كُثر من النواب سجّلوا اعتراضاتهم في الشكل والمضمون. بعضهم نفض كفيه من كل ما ورد فيها، على اعتبار أنها موازنة وضعت المواطنين في خدمة الأرقام، لا العكس. بعضهم الآخر أفصح عن الثغرات التي احتضنتها الموازنة لكنّه قال صراحةً إنها "أفضل الممكن" في بلد يتخبّط بالأزمات الاقتصادية.
والجدير ذكره أنّ المطالعات التي أجريت على "شرف" تلك الموازنة، والانتقادات التي وُجّهت اليها لا تُلغي حقيقة حصولها على الأكثرية التي تُمكّنها من الإقرار لدى التصويت عليها. إلا أنّه إقرار تُغلّفه الكثير من الأصوات التي تتهمها باللادستورية في ظل عدم إقرار قطع حسابات الأعوام الماضية. الدستور اللبناني ينص صراحةً في المادة 87 على وجوب إقرار قطع الحساب قبل نشر قانون الموازنة العامة. وبالتالي يؤخذ على الحكومة والبرلمان "قلب" القاعدة الدستورية والعمل بطريقة "عكسية"، ما يُعرّض الموازنة لاحقاً لخطر "الطعن" في المجلس الدستوري.
هذا الواقع اللادستوري للموازنة لا يُنكره أصحاب السعادة والمعالي، حتى أنّه جاء وبعبارة واضحة وصريحة على لسان رئيس مجلس النواب نبيه بري "تحت الهواء" عندما طلب مساء الخميس من وسائل الإعلام قطع البث. عام 2017 وجدت الحكومة نفسها في المأزق ذاته. حينها، وفي سياق "تخريجة" أُعطيت الحكومة ضمن اقتراح مهلة عام لإنجاز قطع الحساب. منذ ذلك الحين لم يتم إقرار قطع الحساب ولا من يحزنون. اليوم، يعود الحديث عن مخرج جديد، عبر اقتراح قانون معجّل مكرّر أعده النائب آلان عون يتعلّق بنشر الموازنة عن سنة 2019، وإنجاز قطوعات الحسابات. الاقتراح ينص أيضاً على تأمين الموارد اللازمة لديوان المحاسبة لينجز مهمته المطلوبة منه. فكيف ينظر القانون الى هذا المخرج؟ وما مدى دستوريته؟.
جابر: ليست المخالفة الأولى
قبل استطلاع رأي الدستور، يؤكّد عضو كتلة "التنمية والتحرير" النائب ياسين جابر لموقع "العهد" الإخباري أنّ مجلس النواب "مغلوب على أمره" ولا حل أمام الموازنة في الوقت الحاضر سوى بالاقتراح الذي أعده عون. لا يمجّد جابر الاقتراح المذكور، لكنّه يقول إننا أمام سيئ وأسوأ. السيئ يتمثل بالاقتراح والأسوأ هو أن نبقى بلا موازنة. أمام هذين الخيارين لا بد من اللجوء الى أي مخرج يؤمّن إقرار الموازنة، بالنسبة لجابر الذي لا يُنكر أنّنا أمام مخالفة دستورية، لكن لا يجوز أن نعطّل البلد ومالية الدولة، خصوصاً أننا بحاجة الى إقرار الموازنة لتحصيل الضرائب والمستحقات التي تنص عليها، وخصوصاً أنّ الموازنة إصلاحية وفيها بعض القرارات التي تحد من الهدر.
ويلفت جابر الى أنها ليست المرّة الأولى التي يتم فيها مخالفة الدستور. سبق أن حصل ذلك عامي 1991، و2017. كما يلفت الى أننا نشهد يومياً مخالفات دستورية بالجملة. يكفي أن نتأمل المادة 65 من الدستور التي تنص على أن مهمة الحكومة تطبيق القوانين بينما يجري التغاضي عن تطبيق هذه المادة ويضرب بعشرات القوانين عرض الحائط.
اسماعيل: حالة غير دستورية
الخبير الدستوري الدكتور عصام اسماعيل يستهل حديثه بالتشديد على أهمية "قطع الحساب" الذي يُشكّل براءة ذمة توضح أن كل أوجه الانفاق التي جرت تمّت وفق الأصول. بالنسبة اليه، فإنّ قطع الحساب يعبر عن واقع تنفيذ الموازنة، تحديداً لجهة أرقام الواردات والنفقات. وبالتالي لا يُمكن اعتبار "قطع الحساب" محطة ثانوية، على العكس تماماً، إنّه استحقاق مهم جداً لعودة المالية العامة إلى الانتظام، ووضع حدّ لتسيّب المال العام. ومن هذا المنطلق ألزم الدستور الدولة إقرار قطع الحساب وتبرئة ذمتها المالية قبل إقرار الموازنة اللاحقة. وفي هذا السياق يُشدّد اسماعيل على أنّ ما نشهده اليوم هو مخالفة دستورية واضحة وصريحة ولا تحتاج الى رأيين. لا يجوز دستورياً إقرار الموازنة ومن ثم اقرار قطع الحساب.
وفيما يُشدّد الخبير الدستوري على أنّ المادة 118 من النظام الداخلي لمجلس النواب تنص على أن "يصدق المجلس أولاً على قانون قطع الحساب، ثم على موازنة النفقات ثم قانون الموازنة وفي النهاية على موازنة الواردات"، يؤكّد اسماعيل أنّ مجلس النواب يقف اليوم أمام مخالفتين:
ـ مخالفة المادة 87 التي توجب إقرار قطع الحساب قبل الموازنة
ـ مخالفة اجتهاد المجلس الدستوري الذي ألزم مجلس النواب بعدم التصويت على الموازنة قبل الانتهاء من قطوع الحسابات الماضية، أو على الأقل قطع حساب العام 2018، مع التذكير أنّ المجلس الدستوري أقرّ على "مضض" موازنة عام 2018، وقبلها رغم تشديده على أنّ إقرار الموازنة دون قطع حساب هو مخالفة دستورية.
صالح: جريمة مالية
مدير المحاسبة الأسبق في وزارة المال الأستاذ أمين صالح يرى في الاقتراح المذكور أكبر تشريع لخرق الدستور. بالنسبة اليه، أجاز النواب لأنفسهم خرق الدستور. الأخير لا يُعدّل سوى بمشروع قانون دستوري يتطلّب موافقة الثلثين في مجلس الوزراء، ومجلس النواب.
ويلفت صالح الى أنّ الاقتراح المذكور معرّض للطعن والإبطال أمام المجلس الدستوري انطلاقاً من مخالفته للمادة 118 من النظام الداخلي التي توجب تصديق قطع الحساب قبل إقرار الموازنة. يسأل صالح: أين قطوع الحسابات التي وُعد بإنجازها؟. للأسف من 3 تشرين الثاني 2017، حتى تاريخه وقد مضى أكثر من عام ونصف لم تُنجز تلك الحسابات الموعودة. يُقال إنها أنجزت وأودعت ديوان المحاسبة، لماذا لم يتم إيداعها في مجلس النواب؟ يستغرب صالح.
ويختم حديثه بالتشديد على أن لا شيء يُبرّر خرق الدستور، وما يحصل اليوم هو جريمة مالية يعاقب عليها القانون.