خاص العهد
مفجر الثورة.. حياة مليئة بالعطاء والجهاد
أمة في رجل، تختصر هذه العبارة شخصية مفجرة الثورة في إيران الإمام الخميني "قده". رجل أرسى بعزيمته وإرادته معادلة القوة في وجه الإستكبار، خط بقلمه أنشودة الإنتصار وأذل الإستكبار. حقق الإمام العظيم حلم الأنبياء، اسقط حكومة الظلم، وأعلن حكومة الإسلام، بانياً دولة تعبر بامجادها التاريخ، تصنع بتضحياتها المعجزات، وتؤرق ليل الاستكبار، فكيف كانت سيرة الإمام الراحل الذي كانت حياته مليئة بالعطاء والجهاد؟
ولد الإمام الخميني (قده) في 21 ايلول 1902 بمدينة خُمين جنوب غربي طهران في بيت عُرف بالعلم والفضل والتقوى، درس سماحته في مدينة خُمين حتى سن التاسعة عشر مقدّمات العلوم، لدى أساتذة معروفين. وفي عام 1921 م، إلتحق بالحوزة العلمية في مدينة آراك، وبعد أن مكث فيها عاماً، هاجر الى مدينة قم مع استاذه مؤسسة الحوزة العلمية في قم الشيخ عبد الكريم الحائري لمواصلة الدراسة في حوزتها.
في قم، وفضلاً عن مواصلة دراسته على يد فقهاء ومجتهدي عصره، إهتم بدراسة علم الرياضيات والهيئة والفلسفة. وفي الوقت الذي اهتم فيه بكسب العلوم، حرص علي المشاركة في دروس الأخلاق والعرفان النظري والعملي في أعلى مستوياته لدى المرحوم آية الله الميرزا محمد علي شاه آبادي. إلى أن بدأ عام 1929 م بمزاولة التدريس، أي منذ أن بلغ سن السابعة والعشرين من عمره.
بدأ الإمام الخميني (قده) جهاده في عنفوان شبابه، وواصله طوال فترة الدراسة بأساليب مختلفة، بما فيهما مقارعته للمفاسد الإجتماعية والإنحرافات الفكرية والأخلاقية.
انطلق الإمام الخميني "قدس" في نضاله العلني ضد الشاه عام 1926م. ودفعت مواصلةُ النضالِ الشاهَ لاعتقال الإمام ثم اطلاق سراحه ثم نفيه إلى خارج إيران في العام 1964، فبعد أن رأى نظام الشاه أنّ الإمام يشكل خطراً على حكمه، حاصرت المئات من القوات الخاصة والمظليين منزل الإمام، وذلك في سَحَر يوم الثالث من تشرين الثاني عام 1964 م. وبعد اعتقال سماحته، اقتيد مباشرة الى مطار مهر آباد بطهران، ومن هناك، وطبقاً للإتفاق المسبّق، تم نفيه أولاً الى مدينة أنقرة في تركيا، ومن ثم الى مدينة بورسا التركية.
إستغرقت إقامة الإمام بتركيا أحد عشر شهراً. لكن حول الإمام النفي إلى فرصة ثمينة، اغتنمها في تدوين كتابه المهم (تحرير الوسيله)، حيث تطرّق لأول مرة آنذاك في كتابه هذا - الذي يمثّل الرسالة العملية لسماحته - الى الأحكام المتعلقة بالجهاد، والدفاع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المعاصرة.
في يوم 5 تشرين الأول 1965 نقَل سماحة الإمام برفقة ابنه السيد مصطفى، من تركيا إلى منفاه الثاني بالعراق، ليقيم في مدينة النجف الأشرف التي اغتيل فيها ابنه الشهيد مصطفى. عرض الإمام في النجف الأشرف الأسس النظرية لمبدأ الحكومة الإسلامية التي حملت عنوان ولاية الفقيه، كما كان يتابع بدقة الأحداث السياسية التي تشهدها إيران والعالم الإسلامي رغم كل الصعوبات الموجودة.
وفي 4 تشرين الأول 1978م غادر النجف الأشرف بطلب من نظام صدام حسين قاصداً الكويت، لكن الكويت امتنعت عن استقبال الإمام امتثالاً للضغوط الملكية الإيرانية، فقرر الهجرة إلى باريس، فوصلها يوم 6 تشرين الأول 1978م، وفي اليوم التالي استقر في منـزل أحد الإيرانيين في ضاحية نوفل لوشاتو، وسرعان ما حضر مندوبو قصر الاليزة ليبلغوا الإمام ان الرئيس الفرنسي ديستان يؤكد ضرورة امتناعه عن مزاولة أي نشاط سياسي، ورد الإمام بصراحة وبشدة أن مثل هذه القيود تتعارض مع ادعاء الديمقراطية، وانه حتى لو اضطر إلى التنقل من مطار لآخر، ومن بلد إلى آخر، فإنه سوف لن يتنازل عن أهدافه. وهكذا فإن إقامة الإمام الخميني مدة أربعة أشهر في هذه الضاحية الباريسية جعل منها محط أنظار العالم، وأهم مركز أخبار في العالم.
في هذه الفترة كان الشعب الإيراني يصعّد من تحركه وثورته مع وصول توجيهات الإمام الخميني، فانتشرت المظاهرات، وعمّت الاضرابات التي شلّت المؤسسات الحكومية، وعيّن الإمام الخميني مجلس شورى الثورة، وغادر الشاه ايرن يوم في 16 كانون الثاني 1979 تحت حجة المرض وحاجته للاستراحة.
قرر الإمام (قده) العودة إلى إيران ووصل إليها في الأول من شباط عام 1979 بعد أربعة عشر عاماً من النفي. كان استقبال الشعب الإيراني للإمام الخميني (قدس سره) منقطع النظير، فأعلن عن تشكيل الحكومة المؤقتة رغم وجود حكومة الشاه والتي ما زالت تمارس مهامها. ثم قام بتعيين رئيس الوزراء، ودعا أبناء مدينة طهران للنزول إلى الشوارع وإلغاء الأحكام العرفية عملياً، فنزلت الجموع من النساء والرجال الصغار والكبار إلى الشوارع. وفي فجر الحادي عشر من شباط 1979 أشرقت شمس انتصار الثورة الإسلامية.
لم يكن تحقق وعود الإمام الخميني (قده) وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، مجرّد حادثة داخلية قادت الي تغيير النظام السياسي، بل كانت الثورة الإسلامية زلزالاً مدمراً للعالم الغربي، وخلال عشرة اعوام واربعة اشهر من حياته بعد اقامة نظام الجمهورية الاسلامية في ايران تمكن الامام الخميني من قيادة هذا النظام والشعب الايراني على احسن وجه في مواجهة تحديات كبرى وابرزها الحرب التي فرضها النظام البعثي العراقي على ايران لمدة ثماني سنوات. وعند الساعة 22:20 من يوم السبت في الثالث من حزيران عام 1989م انتلقت روح الإمام الخميني لتتصل بالملكوت الأعلى عن عمر يناهز 87 عاماً، وكان هذا اليوم يوم حزن وألم يعتصر قلوب المحبين للإمام في إيران وخارجها.