معركة أولي البأس

خاص العهد

حرب على العِلم.. وانتقادات بلا منهجية
24/02/2024

حرب على العِلم.. وانتقادات بلا منهجية

فاطمة سلامة

لا يخفى على أي مُطّلع على منهجية البحث العلمي أنّ التعامل بنظام العينات هو الأساس في الدراسات العلمية. يلجأ الباحث أو أي مؤسسة بحثية إلى اختيار عدد محدود من المفردات تكون ممثلة في خصائصها وسماتها للمجموع من أفراد الجمهور. الباحث هنا يتعامل مع قاعدة معرفية عريضة أساسها جمهور كبير الحجم، وهذا ما يحول دون التعامل مع هذه القاعدة المعرفية بأسلوب الرصد الشامل لكل مفرداتها. ما سبق هو مقدّمة تمهيدية تعتبر الأساس في التعريف بنظام العينات، يتحدّث عنها الدكتور محمد عبد الحميد في كتابه "البحث العلمي في الدراسات الإعلامية" وهو من المراجع في هذا المجال. وبطبيعة الحال لهذه العينة خصائص متعدّدة منها الشمول، والكمال والكفاية. 

إلا أنّه وكما يخضع كلّ شيء في هذا البلد للانتقادات ووجهات النظر بعيدًا عن أي مقياس أو منطق علمي، لم يسلم حتّى العِلم من "القيل والقال" وميول البعض السياسية، فخضع استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق مؤخرًا، والذي حمّل فيه 90 % من اللبنانيين أميركا مسؤولية استمرار العدوان على غزة ولبنان، وأظهر أن 60% يرون أن المقاومة تردع العدو، إلى "هجمة" للتصويب عليه واتهامه زورًا وبهتانًا بعدم تمثيله المجتمع اللبناني، لا لشيء، إلا لأنّ نتائج الاستطلاع لم تُطابق الأجندة السياسية التي يحملها هؤلاء. وعليه، لا مانع بنظر البعض من نسف نظريات وأسس الدراسات العلمية التي حكمت الباحثين على مرّ التاريخ، وابتداع نظريات جديدة تُراعي قضاياهم وتوجهاتهم السياسية أولًا. 

ولأنّ الردّ على منتقدي العلم لا يكون بوجهات النظر بل بالعلم، من المفيد إدراج بعض الخصائص العلمية التي حكمت اختيار العينة في بحث المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق. لكن من المفيد قبلًا استعراض بعض الحجج والبراهين التي استند إليها البعض في حكمه المذكور والذي يُقلّل فيه من علمية الاستطلاع. يقول أحدهم في حديث لصحيفة "نداء الوطن": "حزب الله، الذي يملك المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، قد يخرج بنتيجة أنّ 70 في المئة من اللبنانيين مع الحرب. هنا، لا يمكن التعاطي مع هذه النسبة وكأنها حقيقة دامغة. مصدر النتيجة ومدى ملاءمتها لطرف أصدرها مهم جدًا، يفترض التيقظ كي لا يكون الهدف من رقم معين التأثير على تقييم الرأي العام".

 حسنًا، وفقًا لمنطق المتحدّث لـ"نداء الوطن"، لا يُمكن التعاطي مع وجهة نظره بجديّة، لأنها قيلت عبر وسيلة إعلامية معروفة الهدف والانتماء والتوجّه السياسي.   ثانيًا من المهم الإشارة الى أن نتيجة الـ 70٪ المُشار إليها ليست دقيقة، بل على العكس من ذلك فقد أظهرت نتائج استطلاع سابق أجراه المركز في بداية عملية طوفان الأقصى أن غالبية اللبنانيين لا يؤيدون فتح جبهة شاملة من الجنوب.

شخصية أخرى تتحدّث للصحيفة معلنةً عن مبدأ جديد من مبادئ خصائص العينة، فتقول: "استطلاع الرأي يجب أن يشمل بين 800 و1200 مستطلع". وفقًا لهذا المنطق فإنّ كلّ نتائج الاستطلاعات السابقة التي مرّت عبر التاريخ مضلّلة وتفتقر للمصداقية والشفافية، مع العلم أنّ أي باحث لديه على سبيل المثال 1000 مستجوب يتشابهون في الخصائص، يكفيه الاستناد إلى فرد واحد كمثل للألف بسبب انتفاء التباين بينهم لناحية الخصائص. وبالتالي فإنّ العامل المميِّز الحقيقي هو التباين بين خصائص أفراد المجتمع. 

صحيفة "النهار" على سبيل المثال تقول في إحدى مقالاتها "من يُدقق في البيئات المسيحية يلمس أن الشريحة الكبرى منها لا تؤيد المواجهات المفتوحة على أرض الجنوب، ولو أنّ العونيين لا يلتقون مئة بالمئة في هذه النقطة مع بكركي والقوات والكتائب". وفي هذا السياق، لم تذكر الصحيفة المذكورة ما هي الأسس العلمية التي بنت عليها هذه النتيجة. كيف دقّقت في البيئات؟ وكيف لمست ذلك؟. 

وعليه، إذا أردنا أن نقيس مدى مطابقة عينة المركز الاستشاري الذي أجرى عشرات استطلاعات الرأي - منها السياسي وغير السياسي ــ للمواصفات العلمية، لا بد من تسجيل الآتي: 

أولًا: تختلف خصائص المجتمع الإحصائي وفقًا لطبيعة الموضوع، فمثلًا في استطلاع الرأي السياسي، من المفيد تحديد المجتمع الإحصائي من الفرد اللبناني المميّز سياسيًا والذي يبلغ 18 عامًا وما فوق بالإضافة الى انتمائه الطائفي والمناطقي أحيانًا، كي نضمن قدرته على الإجابة عن أي سؤال سياسي من دون أي تحيز، وهذا ما اعتمد عليه الاستطلاع. 

ثانيًا: لكي تتمثل مختلف الفئات اللبنانية يجب أن يكون هناك إطار إحصائي شامل يتضمن خصائص معينة، بشكل مؤهل لسحب عينة منه. ولا يخفى أنّ في لبنان ثمة مشكلة إحصائية حيث لا يوجد تعداد سكاني شامل أو دراسات إحصائية يمكن البناء عليها لفهم خصائص المجتمع بشكل دقيق، لكن لا يخلو الأمر من وجود بعض الأطر الإحصائية التي يمكن الاستناد إليها لناحية شمولية معظم المجتمع اللبناني كشبكات الهاتف "الخليوية" نظرًا لتوفّر الهواتف في أيدي غالبية اللبنانيين. بناء عليه، عمد المركز الاستشاري إلى اجراء الاستطلاع بطريقة المقابلة المباشرة عبر الهاتف الخليوي، وتم سؤال المستجوبين وأخذ إجاباتهم بشكل دقيق بالإضافة الى المعطيات الخاصة بهم لناحية العمر والمذهب والإقامة.

ثالثًا: لكل من ينتقد حجم العينة، من المفيد التنويه أنّ تحديد حجم العينة يخضع لقواعد إحصائية علمية تأخذ بعين الاعتبار حجم المجتمع ومستوى التباين بين أفراده، بالإضافة إلى هامش الخطأ المقبول ومستوى الثقة المطلوبة، وعليه فإنه لا يمكن لأحد انتقاد حجم العينة التي اعتمدها المركز الاستشاري دون تقديم مرتكز علمي لذلك.

رابعًا: اعتمدت الدراسة على عينة طبقية عشوائية تعكس التوزع المذهبي للمجتمع اللبناني باعتبار أن المذهب هو من أهم العوامل في تشكيل الرأي السياسي للجمهور اللبناني، حيث توزّعت العينة مذهبيًا على الشكل الآتي: 29.5% سنّة، 29.5% شيعة، 34% مسيحيون، و7% دروز. وقد راعت العينة التوزيع بين الجنسين والفئات العمرية والتوزع المناطقي.

بعد كل ما تقدم، ثمّة العديد من الأسئلة التي تستحق التوقف عندها: هل يجب استجواب كل اللبنانيين على كافة الأراضي اللبنانية ليكون البحث علميًا؟ ماذا لو أتت دراسة المركز الاستشاري وفقًا لأهواء المنتقدين؟ هل كان سيُحكم عليها بـ"اللاعلمية"، أم ستُعتبر "أم استطلاعات الرأي"؟ من نصّب البعض في الحكم على الدراسات؟ وإذا كان ثمّة التباس معيّن لدى البعض لماذا لا يُبادر هؤلاء الى الاتصال بالمركز الاستشاري والاستفسار حول المنهجية العلمية التي اتُّبعت ومحاججة العلم بالعلم؟ لماذا يعتبر البعض أنّ دراساته منزّهة عن النقد، ويحكم ساعة ما يشاء على دراسة بأنها "مطابقة للمواصفات العلمية"، وعندما تخالف الأهواء والأمزجة السياسية تُصبح غير مطابقة؟.
 

إقرأ المزيد في: خاص العهد