معركة أولي البأس

خاص العهد

"الشيزوفرينيا" والهذيان السياسي في لبنان
10/02/2024

"الشيزوفرينيا" والهذيان السياسي في لبنان

فاطمة سلامة

ثمّة حالة غريبة عجيبة تُطالعنا منذ زمن في الحياة السياسية والإعلامية في لبنان، وقد ازدادت حدّتها مؤخرًا. تقوم تلك الحالة على قول الشيء ونقيضه في آن معًا. على سبيل المثال، "يُبدع" سياسي عندما يقول إنّ حزب الله يريد جر لبنان إلى حرب مدمّرة مع "إسرائيل"، وعلى النقيض تمامًا، يتّهم الحزب بعدم مناصرة غزّة. والمفارقة، أنّ الفارق الزمني بين الاتّهامين يكاد لا يعدو دقائق أو حتى ثوانيَ معدودة. مُحاججة هؤلاء في أي مقابلة تلفزيونية تكشف هشاشة أفكارهم وسطحيتها. حجّتهم معدومة، وما يقولونه لا يعدو كونه تلفيقة من بنات أفكار مشغليهم. أما ازدواجية المعايير فتكاد تكون سمتهم البارزة. يقول هؤلاء عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه مجرم ويرتكب المجازر في أوكرانيا، والأمر ذاته قيل عن الرئيس السوري بشار الأسد، أما ما تفعله "إسرائيل" في غزّة، فمن وجهة نظرهم دفاع عن النفس بعد أحداث "7 أكتوبر" ليس إلا! وذلك في حالة تُشبه الى حد ما مرضى "الشيزوفرينيا" وإن اختلفت الظروف والدوافع والتوصيفات. 

ولمن لا يعلم، فـ"الشيزوفرينيا" هي في الأساس اضطراب نفسي يؤثّر في طريقة تفكير الشخص، ويعني الفصام. هذا في علم النفس، أما إذا أسقطنا هذا المرض على السياسيين والإعلاميين، فنرى أنّ الانفصام في الآراء والمواقف، يعود بشكل أساسي الى غياب المبادئ الثابتة. لا عقيدة واضحة وراسخة لدى هؤلاء، بل يميلون مع كل ريح وفقًا لأجندات معلّبة سلفًا. تراهم، على سبيل المثال، يرفضون ويعارضون أمرًا محددًا، لكنّهم سُرعان ما يُدافعون عنه لاحقًا ويتمسكون به. يعاني هؤلاء من داء التزعزع والتشتُّت والضياع حتى في صياغة وجهة نظرهم.  

الاختصاصي في طب النفس الدكتور فضل شحيمي يؤكّد أنّ الحالة التي نشهدها وسط السياسيين هي أسوأ من مرض  "الشيزوفرينيا" الذي يعني الانفضام، أي انفصال الشخص عن الواقع. يُجري مقاربة سريعة بين السياسيين الذين ينفصلون عن الواقع، والمرضى الذين يقولون الشيء ونقيضه لاحقًا. يستعير في هذا السياق توصيف "التبعية النفسية"، فالسياسيون أقرب الى هذا الوصف، وإن كان فيهم بعض من صفات المصابين بـ "الشيزوفرينيا". هؤلاء السياسيون لديهم نوع من "الهذيان" ومريض "الشيزوفرينيا"  كذلك، لكن في الحالة الأولى تفرضه الأجندات لا الدماغ كما يحصل في الحالة الثانية. يُعطي مرضى "التبعية النفسية" رأيهم وفقًا للأجندة التي تُفرض عليهم، لكن بالمعنى النفسي يجعل "الهذيان" المريض موهومًا يسمع أصواتًا وهمية ويبني مواقفه تبعًا لها، ليقول كل يوم الشيء ونقيضه. أما الأجندات السياسية فتشغّل المريض المنفصل عن الواقع والذي لا يقوى على التحليل، ما يجعله يصل الى مرحلة يُصدّق فيها الأجندة التي تُفرض عليه ويقتنع بها نظرًا للتبعية النفسية العمياء.

وبحسب شحيمي، تُصبح هذه التبعية مُزمنة نظرًا لتعرض السياسي لعملية غسيل دماغ تُكرّر فيها الأجندة ذاتها ويُحجب عنه أي أجندة أخرى ما يسحب منه القدرة على تكذيبها. وعليه، فإنّ صوت "الهذيان السياسي" قد يصبح جزءًا من حياته، ولهذا نرى أنّ أحد السياسيين يتحدّث في الجملة نفسها عن الشيء ونقيضه، حتى تشعر وكأنه يعيش في عالم آخر. هو في الحقيقة يعيش معنا، لكن غسل الدماغ الذي تعرّض له جعله يقول ذلك. مثال أحد السياسيين الذي يكرّر معزوفة أنّ حزب الله خرق القرار 1701، ولا يأتي على ذكر "إسرائيل" التي تخرقه منذ سنوات وبشكل شبه يومي. بالتأكيد لا تغيب خروقات "إسرائيل" عن بال السياسي المذكور، ولكن الضخّ الذي يتعرّض له من مشغليه يجعله يركّز على هذا الأمر ويُصدّقه تمامًا. 
 
 عقدة التفوق والنظرة الدونية 

الكاتب السياسي حسن الدر يقرأ في ظاهرة هؤلاء السياسيين دون أن يغفل الشق النفسي المتعلّق بالعُقد الموجودة لديهم. يبدو هؤلاء محكومين بتاريخ معيّن، لا تزال عقولهم عالقة في الزمن الماضي، ولا يزالون يحلمون بتغير موازين القوى التي تُعيدهم للتحكم بغيرهم. وفق الدر، نشأ هؤلاء على فكرة "أنّ الدولة لهم"، والباقون مجرد "عتّالين" على المرفأ. لا يتقبّل هؤلاء حقيقة أنّ الزمن تغيّر والآخر سار مع هذا التغير وواكب وتفوّق بكل الميادين. على الصعيد العسكري، ترى هذا الآخر متفوّقًا عالميًا، والعالم كُله يعترف بحزب الله والمقاومة في لبنان التي قدمت نموذجًا فريدًا يُحتذى به. وعلى المستوى الفكري والثقافي والعلمي ثمّة نهضة فكرية حصلت في بيئة هذه المقاومة، وكانت مواكِبة للتطور. الأمر ذاته على المستوى الاقتصادي والسياسي وما إلى هنالك. وعليه، فإنّ السبب الأول لما نراه من انفصام في المواقف السياسية هو سبب نفسي، فهؤلاء لم ولن يستطيعوا الخروج من هذه العقدة وهي عقدة التفوق والنظرة العنصرية والدونية للآخرين. هذه العقدة تجعل الزمن عندهم متوقّفًا عند أفكار معينة ما يجعل تنظيرهم الفكري متناقضًا وغير سوي، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة، منها ادعاؤهم أنّ حزب الله يجر لبنان الى حرب مدمّرة، وفي الوقت نفسه أنه خائف من شن هجمات قوية على "إسرائيل"!. 

سبب آخر يُدرجه الدر لحالة هؤلاء يتمثّل بعدم وجود هدف ورؤية. بالنسبة إليهم، الرؤية هي "التنقير" على الخصم أي المقاومة. من لديه هذه العقدة التاريخية والنفسية لا يقوى على الاعتراف بأي إنجاز للآخر، جُلّ همه التصويب على الخصم، وممارسة سياسة "التهشيم والتحطيم" الخائبة حُكمًا لأنّ من يسجل الإنجازات الميدانية لا تؤثر عليه "التشويشات" التي هي من وجهة نظر الدر "غباء". وهنا، يشير المتحدّث الى أنّ أساليب المواجهة تغيّرت عن السابق، والجانب الأميركي اليوم لا يُراهن في السياسة على هذه النماذج المُنفصمة كما فعل عام 2005، بل بات يُفاوض بطريقة مباشرة سواء عبر الوفود التي يرسلها الى عين التينة للقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري، أو من خلال الوفود الفرنسية والألمانية وغيرها والتي تأتي مباشرة لدارة الحزب. وفق الدر، يملك الغربيون نوعًا من "البراغماتية" السياسية حيث ينظرون الى الأمور بواقعية، ووفقًا لموازين القوى الحالية. وعليه لا حرج  لديهم من الاعتراف بتفوق حزب الله ومفاوضته، بينما الأدوات في لبنان المنفصلة عن الواقع والتي تبدو مشتتة بلا مشروع ولا هدف ولا قوة تستعمل كلامًا غير لائق حتى بوصفها للشهداء وعوائلهم، وتستعمل شعارات فارغة أمثال "ثقافتنا وثقافتكم"، "نحنا وانتو" "بتشبهونا وما بتشبهونا"، وهذا بتقدير الدر إفلاس سياسي وثقافي مع انعدام وطنية وقلّة أخلاق سياسية.

في ختام مقاربته، يُوجّه الدر نصيحة لهؤلاء الذين يعانون من ظاهرة الانفصام من موقع القوي وليس المستقوي: "عليكم أن تطمئنوا، المقاومة تريد التنوع والشراكة ولا تشكّل خطرًا على أحد، لم تكن ذات مرة ضد أحد، وحتى عندما كان البعض ضدها استعملت فائض الحكمة والوطنية والتسامح مع اللبنانيين".
 

السياسة

إقرأ المزيد في: خاص العهد