خاص العهد
المضائف الحسينية.."التكافل" ينتصر على الحصار
فاطمة سلامة
عندما بدأ الحصار الاقتصادي يشتدّ حول لبنان أواخر عام 2019، كان من الواضح أن المقصود من هذا الحصار البيئة الشيعية تحديدًا. لجأت الولايات المتحدة الأميركية ومن يلف لفها الى هذا الخيار بعد استنفاد كافة خياراتها لتأليب هذه البيئة على المقاومة. جرّبت الكثير من الطرق ولم تُفلح الى أن اقتنعت واهمة بأنّ سياسة "التجويع" تُجدي نفعًا وتُحقّق ما لم تستطع الخيارات الأخرى تحقيقه. تلك القناعة برزت جلية في ما توصل اليه خبراء وضباط في "البنتاغون" ومدرسة القوات البحرية الأميركية للدراسات العليا ونظراؤهم في مركز دراسات "الأمن القومي" في تل أبيب. توصل هؤلاء ــ بعد تحليل رياضي رقمي لسيناريوهات مفترضة حال المواجهة بين حزب الله وحلفائه من جهة وبين أميركا وحلفائها من جهة أخرى ــ إلى أنّ حزب الله سوف ينتصر في أي حرب عسكرية مباشرة لكن احتمال خسارته وارد في حروب ومواجهات غير عسكرية كأن يتم إفشال مشروعه وإضعاف جاذبيته وهزيمة فكرة المقاومة وروحيتها لدى قيادته وجمهوره وبيئته الحاضنة.
أما الأساليب من وجهة نظر أولئك الخبراء فمتنوعة منها الحصار الاقتصادي الذي ظهرت معالمه في تشرين الأول 2019، رغم أنّ الحبكة لهذا الحصار كانت قد بدأت قبل هذا التاريخ الى أن وجدت زمانها المناسب للتنفيذ. السيناريو المرسوم كان الآتي: سحق العملة الوطنية وتدمير القدرة الشرائية للمواطنين، ضرب قطاعات تجارية وصناعية بأمها وأبيها وصرف عمّال بالجملة صرفًا تعسفيًا، المساهمة في احتكار مواد أساسية ومنعها عن الناس ما يُسهم في ابتزازهم، احتجاز ودائع اللبنانيين ما يُسهم بإغلاق المنافذ المالية للناس، منع أي حلّ سياسي أو اقتصادي عن لبنان والأمثلة في هذا الصدد كثيرة منها هبة الفيول الإيراني، تجنيد وسائل إعلام فاعلة على خطّ تحميل حزب الله مسؤولية الأزمة المعيشية ونشر سرديات من صنع الخيال و"التطبيل" لهذه "البروباغندا" على مدار الساعة.
ما سبق كان السيناريو المرسوم لحبك الأزمة أما السيناريو المرسوم للنتيجة فكان الآتي: يومًا بعد يوم ستمتلئ الشاشات التلفزيونية بأفراد وجماعات من بيئة المقاومة لكنها مُنتفضة ضدها تشكو الجوع والعوز وتُحمّل حزب الله المسؤولية. ستضجّ وسائل الإعلام بالسرديات والقصص، هنا أب "شيعي" لا يملك قوت عياله يُحمّل حزب الله المسؤولية، وهنا رجل "شيعي" مصروف من عمله يُردّد ما سمعه على الشاشات المعادية للمقاومة، وهناك مُسنّ "شيعي أيضًا" باءت محاولاته بالبحث عن علبة دواء بالفشل فأتى يشكو قيادة المقاومة الى الرأي العام اللبناني والعالمي.
لكنّ حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر، ولم تجد كل تلك السرديات الواهية مكانًا لها في بيئة المقاومة. الأخيرة لم تتّخذ من الصبر على هذا الحصار الاقتصادي سبيلًا للمواجهة فقط، لا بل ذهبت بعيدًا في ذلك، وحوّلت المنصات التي كان من المفترض في عقل الأميركي أن تحارب المقاومة الى منصات داعمة لها لتذهب مليارات الدولارات التي صُرفت في هذا الحصار على المنظمات غير الحكومية وغيرها ــ لتأليب الرأي العام على المقاومة ــ هباء منثورًا.
إلا أنّ الصفعة الكبرى التي تلقّاها الأميركي ومن يلف لفه لم تكن فقط بفشل الدعاية المعادية والتفاف البيئة حول مقاومتها، بل في مستوى "التكافل الاجتماعي" الذي قدّمته تلك البيئة طيلة سنوات الأزمة. طبعًا، لا خلاف على أنّ حزب الله سعى سعيه وبكل ما أوتي من قوّة لتخفيف الأزمة عن كاهل الناس وعبر عدّة مشاريع معروفة، فكان دائمًا ما يقدّم البدائل، لكنّ المُساندة والتكافل بين أبناء هذه البيئة أنفسهم كانت واسعة.
ظاهرة الإطعام و"العدد الكبير للمضائف الحسينية" برزا في السنوات الأخيرة كأحد أبرز وجوه التكافل والمساندة. الأخيرة ورغم انتشارها منذ سنوات عديدة إلا أنها فاقت ــ في سنوات الأزمة ــ كل التوقعات. ثمّة عدد ضخم لهذه المضائف يُقارب 850 مضيفًا على طول الأراضي اللبنانية. 99 بالمئة من تكلفة تلك المضائف من جيوب الناس. أولئك الفقراء الذين استُهدفوا من بيئة المقاومة لوضعهم في دائرة "التجويع" يُطعمون الأغنياء في ظاهرة تقضي على حلم الأميركي بأي نتائج من الحصار الاقتصادي، وتُغضب العدو كما قال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله.
عتريسي: ثقافة المضائف وجّهت رسالة للعدو
أستاذ علم الاجتماع الدكتور طلال عتريسي يقرأ في حديث لموقع "العهد" الإخباري في ظاهرة الإطعام والمضائف فيرى أنّ هذه الظاهرة نَمَت بشكل متدرّج وتوسّعت وتحسّنت فيها نوعية الطعام بغضّ النظر عن الأزمة والضغوط الاقتصادية. قبل 6 سنوات لم نكن نشاهد ما نشاهده اليوم حيث باتت هذه المضائف ثقافة وتغلّبت على الأزمة وباتت أقوى منها. وفق قناعات عتريسي كان من المتوقّع أن تتراجع هذه الظاهرة خلال الأزمة لكن تبيّن العكس، فالناس قد تُقلّص من نفقاتها في مكان ما لإقامة مضيف في أبهى صُور التكافل الاجتماعي بين الناس.
يشدّد عتريسي على أنّ لظاهرة المضائف أبعادًا كثيرة أهمها بعدان؛ إرساء ثقافة إطعام الناس، وإعلان الانتماء للتوجه العاشورائي. من وجهة نظره، حيّرت هذه الظاهرة العدو الذي خطّط لتفكيك البنية الاجتماعية ليتفاجأ أنها متماسكة. كما وجّهت هذه الظاهرة رسالة لهذا العدو سواء قصد أصحابها أم لم يقصدوا وبشكل عفوي أنّه لا يمكن فصل البيئة عن المقاومة. الاثنان ليسا غُرباء بل شيء واحد لا يمكن تفكيكه ما أفشل مخططات العدو، يختم المتحدّث.
الحرب الناعمةالعقوبات الاقتصادية