خاص العهد
معركة مارون الراس: يوم حبس رجال الله جنود "ماغلان" في الأقبية والجحور
يوسف الشيخ
تعتبر معركة مارون الراس التي بدأت تتبلور في عقل قادة العدو فعلياً في 16-7-2006 واحدة من أشرس المعارك وأكثرها فعالية ودروساً في حرب تموز/ يوليو 2006، والتي لا زال جيش العدو مسكوناً بهاجسها حتى اليوم. وسنبين في هذا المقال أن جيش العدو كان مستعداً جيداً لكل معاركه على الحافة الامامية للحرب بما فيها قرية مارون الراس، وأن كل كلام عن مفاجآت تكتيكية أو تعبوية تعرض لها العدو في القرية الصغيرة التي أذلته هو كلام غير دقيق، وبأن سر انتصار المقاومة ورجالها في مارون الراس هو كفاءة وعقل رجال الله المدموج والمتكئ على الثقة بالنصر وعشق الشهادة.
في البداية ينبغي التنويه إلى أن معركة مارون الراس بدأت في 23-11-2005 أي في اليوم الثاني لعملية الغجر النوعية وتتابعت فصولاً في 29-5-2006 وانتهت بفضيحة كاملة لنخبة النخب في جيش العدو في 27-7-2006.
كيف ذلك؟ إليكم القصة من البداية:
صبيحة الثلاثاء 22-11-2005 قام تشكيل من المقاومة الاسلامية بتنفيذ عملية اقتحام واحتلال لقرية الغجر اللبنانية استهدفوا خلالها 3 مواقع عسكرية صهيونية رئيسية في البلدة وجوارها (العباسية)، واستطاع رجال الله تحقيق معظم أهداف العملية بعدما قدموا 4 شهداء.
الرد الصهيوني المباشر على العملية التي استمرت عدة ساعات كان الانتقام من البلدات والقرى المحيطة بالقصف الجوي والمدفعي، ووسع العدو عمليته في اليومين التاليين مستهدفاً عشرات النقاط وابراج المراقبة العلنية التابعة للمقاومة والجيش اللبناني، والمنتشرة على طول الجبهة الممتدة من الناقورة إلى تخوم العديسة ــ كفركلا. واستهدف العدو خلالها عدة نقاط علنية في مارون الراس كانت تستعمل للرصد كما دمر "كونتينير" للاستراحة والمنامة في نقطة "الباط" المتاخمة، والتي تقع على الطرف الجنوبي الغربي لغابة عيترون والمشرفة على عدة مستعمرات في فلسطين المحتلة.
كان ذلك الاختبار الأول بطائرات الاباتشي المروحية لمارون الراس وعدد كبير من النقاط العلنية المنتشرة على الحدود اللبنانية - الفلسطينية، واعتبره بعض الخبراء العسكريون استطلاعاً بالنار من قبل العدو، فيما كانت حقيقته هي محاولة تخريب عسكري لاستعدادات المقاومة المعلوماتية التي تؤمنها شبكة المراصد العلنية المنتشرة على طول الحدود، باستثناء منطقة العمليات الممتدة من تل النحاس إلى تخوم مزارع شبعا حيث كانت معظم مراصد المقاومة سرية وغير ظاهرة كما في القطاع الغربي.
إذاً كانت المحاولة الصهيونية هي العبث بجهوزية المقاومة الاستعلامية وهو أمر أعاد جيش العدو تنفيذه ثانية يوم الأحد في 28 أيار/ مايو 2006، قبل 44 يوماً من عملية الأسر في 12 تموز/ يوليو 2006. حيث قام تشكيل من طائرات الأباتشي وخلال أقل من 40 دقيقة باستهداف 16 نقطة مراقبة ومراكز ملحقة بها أعيد ترميمها بعد استهداف تشرين ثاني/ نوفمبر 2005.
مع الاستهداف الثاني أصبحت قيادة المقاومة واثقة بأن العدو ينفذ من خلال ضرباته السريعة والخاطفة لمراصدها كل عدة شهور محاولة إعماء لها لهدف كبير كان يعد له في القريب العاجل.
رجح التقدير الأولي احتمالين متناقضين:
الأول: أن استخبارات العدو رصدت من خلال قرائن معينة تحضير المقاومة لعملية أسر في أي نقطة من الناقورة إلى شبعا.
الثاني: أن جيش العدو يحضر لعدوان هجومي كبير خلال الصيف، وأن ضربه للمراصد هو تخلص من ميزة فورية كانت تتمتع بها المقاومة، وهي رصد تحولات الميدان في الجهة المقابلة التابعة للعدو في الوقت الحقيقي، واستثمار تلك المعلومات الحيوية في مجال الدفاع.
كانت الوقائع الميدانية تفيد بأن التوتر المتصاعد على الحدود كان سيؤدي إلى معركة أو حرب في القريب العاجل، وكان هذا ما تريد المقاومة أن توهم به العدو للتغطية على عملية الاسر التي تحدد مكانها وبقي وقتها مرتبطاً بتحقق وجود هدف مهم يمكن الانقضاض عليه وإنجازه.
كانت المقاومة استبقت ذلك بعملية تعديل داخلية ضخمة "سرية وصامتة" لمواردها (السلاح – الأفراد)، حيث أجرت عملية نقل لمعظم مخازن صواريخها النوعية إلى مخازن جديدة، كما أجرت عمليات سحب لعشرات الأفراد من ذوي الاختصاصات من نقاطهم ومحاورهم إلى وحدة خاصة شكلت لتنفيذ عملية الأسر، وتم تعزيز المحاور بعشرات الأفراد "القدامى" ذوي الخبرة نقلوا من وحداتهم من بيروت والبقاع والجنوب بموجب مأموريات عملياتية لمدة سنة قابلة للتجديد.
كل هذه العملية الضخمة أدارها بسرية وابداع الشهيد القائد الحاج عماد مغنية "الحاج رضوان"، وكان اللافت أن محاور محددة تم ادماج العناصر المكلفين بمأموريات فيها وأهمها محوري بنت جبيل ومحور الساحل الممتد من عيتا الشعب حتى الناقورة. حيث تولى هؤلاء بسرعة بفعل خبرتهم السابقة ملء فراغ الذين سحبوا إلى الوحدة التي تقرر أن تنفذ عملية الأسر، كما كان من اللافت أيضاً أن معظم الملتحقين بموجب مأموريات كانوا من العناصر المنتمية لسرايا الاستشهاديين.
بعد عملية الأسر في 12 تموز/ يوليو 2006
عند الساعة التاسعة من صبيحة يوم الأربعاء 12 تموز/ يوليو 2006، ومع بدء عملية الأسر عممت وحدة الإشارة في غرفة عمليات المقاومة على جميع المحاور والنقاط عبارات مشفرة تطلب من الجسم الجهادي كله أخذ وضعية جهوزية الحرب، وهي وضعية تدرب عليها كل الجسم المقاوم في الجبهة لعشرات المرات في الأشهر التي سبقت حتى أصبحت تطبق بسلاسة وسرعة واحترافية.
كان من ضمن هذه الاجراءات إجراء يعني الملتحقين في نقاط غير نقاطهم سيما أصحاب الاختصاصات، إلا أنها في اختصاص المشاة وبنسبة تتراوح بين (10 و 20%) كانت تعني الالتحاق باختصاص جديد كان سيغير مجرى حرب تموز 2006 تغييراً مذهلاً.
كان العشرات من أفراد المشاة في محاور المقاومة الاسلامية قد أخضعوا منذ أشهر لدورات اختصاص في سلاح الكورنيت، وتعهدوا في نهاية الدورات بكتمان السر.. وصدق رجال الله وعدهم فقد ظل هذا السر مكتوماً حتى ظهر إلى العلن في 19 تموز/ يوليو 2006 وكان من أعظم مفاجآت الحرب.
كما أن أفراداً آخرين من المشاة أخضعوا كذلك لدورات تخصصية على أسلحة نوعية لم تسمح مجريات حرب تموز بظهورها، ولو أن الصهاينة جربوا وارتكبوا حماقة شن حرب برية حقيقية في العمق لكنت أكتب لكم مقالي هذا من فلسطين المحتلة الحبيبة.
طبقت محاور ونقاط المقاومة مضمون البرقية المشفرة في زمن قياسي وبعد أقل من ساعة كانت الجبهة كلها على استعداد.
مارون الراس (ميدون الثانية)
شكلت مارون الراس للعدو صداعاً منذ انسحابه في أيار/ مايو 2000 فهي تتمتع بكافة الخصائص والمميزات التي تجعلها منطقة اطباق معلوماتي على جيش العدو.
فقرية مارون الراس التي لا تتعدى مساحتها 9.2 كيلومتر مربع، تشرف من على ارتفاع 945 متراً على كل محيطها بنسبة رؤيا تبلغ 360 درجة، ولأجل ذلك تعتبر كنزاً معلوماتياً في المجال العسكري، حيث أنها تشرف بالرؤيا والنار من جهة الجنوب على مساحة كبيرة من شمال فلسطين المحتلة التي لا تبعد عنها في بعض المناطق (كنقطتي الباط والشحل) إلى 1500 متراً، كما أنها تشرف على مدينة بنت جبيل وقرية يارون غرباً وعلى عيترون (المنخفضة) شرقاً وعيناتا مع مشاعها ذي المساحة الشاسعة شمالاً، والذي يمتد حتى أطراف بيت ياحون وكونين وتبنين.
بلغ عدد بيوت مارون الراس في ذلك الوقت أقل من 400، وتعتبر نصف مهجورة في معظم أيام السنة حيث لا يتعدى عدد المقيمين الدائمين فيها 700 من أصل 4000 هم مجمل عدد سكان القرية.
كانت خصائص ومميزات مارون الراس مشابهة تماماً لقرية ميدون من الناحية التعبوية والتكتيكية وذلك من خلال العناصر التالية:
1ـ تعتبر القرية مانعاً طبيعياً لكونها تتربع على مرتفع مشرف يمتلك زاوية رؤيا واسعة (360 درجة).
2ـ قليلة السكان فنسبة إشغالها السكني أقل من 0.175 % حيث أن معظم سكانها يقطنون في بيروت.
3ـ تخدم كمنطقة رصد تأميني (هجومي ودفاعي) يحصي على العدو أنفاسه.
4ـ نسبة انحدارها قوية من الجهة الجنوبية المتجهة باتجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة إلا أنها تتمتع بحرية في الحركة مع المحيط الشمالي والغربي والشرقي ( عيناتا ــ عيترون ــ بنت جبيل).
5ـ تحيطها عدد من الاراضي المنخفضة والوديان التي يمكن استخدامها لنشر عشرات الكمائن في مناطق محمية طبيعياً بشكل جيد كالغابات والبساتين والتي تمكن المدافعين عنها من الحركة والمناورة بشكل ممتاز.
6ـ يمكن مراقبتها من المحيط والتواصل معها وامدادها بالتعزيزات البشرية والمادية في أشد الظروف العسكرية والمناخية صعوبة (أيام تكاثف الثلج المتهاطل في جبل عامل).
7ـ تؤمن غطاءاً وساتراً مهماً للمحيط يحجب رؤيا العدو المباشرة عن أقسام كبيرة من بنت جبيل وكامل عيناتا فضلاً عن كونين وبيت ياحون وتبنين.
8ـ يمكن الدفاع عنها من داخلها ومن خارجها في نفس الوقت مما يحد من الاكتظاظ فيها ويسمح بتوزيع الجهد على المحيط.
9ـ تعتبر نقطة هداية نيران ممتازة للمدفعية المنحنية ( الهاون) وهو ما يؤمن للمقاومة عنصر المناورة بالنار بشكل ممتاز ومؤثر بالعدو.
10ـ تتميز بإشرافها داخلياً وخارجياً على أربع مناطق قتل واسعة وممتازة باتجاهات القرية الاربعة.
11ـ تؤمن للمقاومة إدامة الاشتباك مع القوى الغازية من خلال الدفاع، وحرمان هذه القوة الغازية في حال انخرطت في عملية هجومية من أي محاولة لقطع الاشتباك أو الانسحاب فيما لو تعرضت لخسائر من خلال الاستهداف المباشر.
الوظيفة التكتيكية والتعبوية لمارون الراس
كانت المقاومة ترى في قرية مارون الراس عائقاً مؤقتاً مثالياً في مواجهة أي قوة عسكرية صهيونية ستسعى للتقدم باتجاه بنت جبيل أو تطويقها.
ففي الفن العملياتي، تعتبر مدن وقرى الحافة الامامية للحرب بحكم الساقطة عسكرياً من الناحية الفنية منذ اللحظة التي تدخل فيها جحافل العدو، الذي غالباً ما يتجاوز المناطق "المضرة" له تكتيكياً بعد عزلها، لكي لا يبذل جهداً عسكرياً مضاعفاً ومحبطاً بملاحقة مجموعات حرب عصابات صغيرة، وفي منطقة عمليات كبنت جبيل، وتفضل القوى الغازية غالباً أن يكون الاصطدام الاول عملياً بين القوى المدافعة والقوى المهاجمة على تخوم تبنين.
ولا ينقص ذلك من المدافع الحاذق شيئاً، حيث أن هكذا وضعية تسمح له بمجابهة العدو مباشرة عند تبنين وبرعشيت وياطر، ومشاغلته ومباغتته خلفياً في كونين وبنت جبيل وعيناتا وغيرهما.
إلا أن المقاومة التي فهمت منذ اللحظة الأولى أن العدو لا زال يخطئ في حسابات قوتها، وضعت في المرحلة الافتتاحية لردها خطة إنهاك العدو على الحدود ومراكمة ذلك في المرحلة التي تلي لإجهاضها.
كان أمر العمليات لكل البقع المقاومة المتاخمة للحدود تفريغ كل طاقة وقدرات العدو المعنوية في الحافة الامامية وهنا جاء دور مارون الراس.
كانت القرية قبل 12 تموز/ يوليو 2006 عبارة عن منطقة مراصد يحميها مرصد تأميني استعداده حوالي فصيل معزز، أي أن معظم من أذل نخب العدو في القرية الجبلية الوادعة لم يتعد عددهم الـ 30 مجاهداً.
أظهرت المرحلة الافتتاحية للحرب أن الصهاينة يريدون السيطرة على مارون الراس من أجل الاستفادة من مميزاتها التكتيكية والتعبوية لمحاصرة بنت جبيل ثم احتلالها. وكان الدليل على ذلك أن العدو استعان بوحدة "ماغلان 212" وهي وحدة خاصّة مضادة للدروع، متحرّكة وسريعة الانتشار لمواكبة ومؤازرة القوّات البريّة المندفعة في أرض العدوّ، إحدى مهامها العديدة مهمة التسديد اللايزري لصالح سلاح الجوّ.
كما استعان لاحقاً بكتيبة من "لواء المظليين 35"، وهي أكفأ وحدات المظليين وأكثرها نخبوية في جيش العدو، وذلك من أجل تأمين الانتشار السريع في قرية مارون الراس والبدء سريعاً في مهمتها الأساسية وهي تطويق بنت جبيل تمهيداً لاحتلالها.
تحركت قوة "ماغلان" (التي كانت قد نفذت منذ تأسيسها عام 1984 عشرات المهمات المشابهة بنجاح) قبيل فجر الأربعاء 19 تموز/ يوليو عند الساعة 3:30 بقوة يوزاي استعدادها "فصيلين" بعدما اجتازت من مقرها (خلال الحرب) في مستعمرة أفيفيم بوابة المستعمرة باتجاه أطراف يارون، ومنها تحركت شرقاً باتجاه أطراف عيترون الجنوبية الغربية، ثم انعطفت شمالاً لتتقدم صعوداً باتجاه منطقة جل الدير ومرتفع الباط القريبين، ولدى وصول القوة إلى منطقة الحافور والغابة شرق منطقة مارون الراس وقعت في الكمين الأول، وتكفلت ثلاث عبوات وعشرات القنابل بإخراج السرية كاملة من الحرب نظرياً، متكبدة 3 قتلى و11 جريحاً في كمين لم يتعد منفذوه من رجال الله أصابع اليد الواحدة، قاموا وعن سبق اصرار وتصميم بعدم إطلاق رصاصة واحدة على جنود ماغلان..، وذلك لهدف احترافي عسكري حيث أن هكذا كمين لو كان بالرصاص لكان يلزمه استعمال نيران حاصدة كثيفة، وهذا يعني انكشاف عدد وأمكنة المنفذين للكمين في القسم الأخير من الليل، والذي يعتبر في ذلك الوقت مظلماً كونه في الليلة الثانية من الاسبوع الاخير من الشهر القمري (جمادي الآخرة) وكلما اقترب آخر الليل كلما كان الظلام أشد.
ساهم ذلك بتحقيق مفاجأة معنوية كبيرة حيث سمع صراخ وعويل جنود الماغلان إلى مسافة بعيدة لمدة طويلة من الوقت حتى شروق الشمس، قبل أن يلتحم معهم رجال الله الذين أتتهم بعض التعزيزات في اشتباك شرس استمر لأكثر من ساعتين، كان هدفه أسر ما أمكن من جنود أحياء أو أموات، وجرى سباق مرير بين مروحيات الإخلاء التابعة للوحدة 669 وبين المجاهدين الذين استمروا بالاشتباك مع القوة الغازية رغم تعرضهم لغارات مكثفة بطيران الاباتشي المروحي وتعرض خلفيتهم لغارات حربية أقسى.
قبيل الظهيرة تم إجلاء القوة جميعها بطائرات الاخلاء، وقدمت المقاومة جريحا ًواحداً أصيب إصابة بالغة في بطنه بقي يتعالج منها حتى شهر كانون الاول/ ديسمبر 2006 حيث شافاه الله. (لم يتكلم تقرير فينوغراد عن كمين الباط أبداً في نسختيه الأولى التي جرى فيها عرض معركة بنت جبيل وتحليلها، ولا في النسخة الثانية والنهائية الشاملة التي تحدثت عن معظم مجريات الحرب، ويبدو أنه من المؤكد أنها أدرجت في التقرير المصنف سري الذي لم يكشف عن محتواه حتى اليوم).
ظهر نفس اليوم تم استهداف جيب هامر كان يهم بالخروج من بوابة أفيفيم باتجاه يارون بصاروخ "آر بي جي 29"، فقتل السائق وضابط كان إلى جانبه كما أصيب رقيب كان يرافق الضابط إصابة بليغة.
ولم يكد الصهاينة يستريحون من صدمة الهامر وكمين الباط حتى انغمس الاستشهادي علي الوزواز بقوة من المظليين كانت تستريح قرب بوابة مستعمرة أفيفيم بانتظار زجها في معركة مارون الراس، واشتبك الاستشهادي الوزواز لمدة 15 دقيقة مع القوة فأوقع بها قتيلاً قيل أنه قائد السرية برتبة نقيب، وأصاب عدداً من عناصر السرية بجروح مختلفة بلغوا حسب مصادر خاصة 8 جرحى معظمهم إصاباتهم خطرة قبل أن يستشهد ويرتقي إلى الرضوان.
وصلت الأخبار المزلزلة إلى الكيرياه "مبنى وزارة الحرب"، لتزيد من الخلاف حول إطلاق عملية برية محدودة باتجاه بنت جبيل، أو بالاكتفاء بما جرى في عيتا الشعب وأطراف مارون الراس، اللتين تكبد الجيش فيهما حتى اللحظة 15 قتيلاً وعشرات الجرحى في أماكن لا تبعد أكثر من كيلومتر عن الحدود اللبنانية الفلسطينية.
كان المتضرر الأول من هذا الحال هو رئيس أركان الجيش الجنرال دان حالوتس، الذي يؤمن بأن العمليات الجوية هي الحاسمة في الحروب، وأنها تؤمن نسبة %90 من النصر، لذا فهو خالف حتى اللحظة 19-7-2006 كل الاقتراحات بالقيام بعملية برية محدودة تهدف إلى تطويق بنت جبيل قدمتها له على التوالي كل من الاستخبارات العسكرية "الامان" وشعبة العمليات وقسم الابحاث في الجيش، فضلاً عن الموساد والشاباك ومدير عام وزارة الحرب غابي أشكينازي.
كان في بال حالوتس إعطاء ورقة لا تكلفه كثيراً للحكومة التي استطاعت الولايات المتحدة بشخص وزيرة خارجيتها كونداليزا رايس أن تكثف الجهد والضغط على رئيسها أيهود اولمرت ليدخل في المفاوضات التي رعتها واشنطن.
إذاً حتى اليوم التاسع للحرب لم يكن بيد حالوتس شيء يمكن أن يقدمه لرئيسه.
الاستعانة بـ"طال روسو" تكشف الخلافات في جيش العدو
عندها قرر العمل خارج "الصندوق"، استدعى العميد "طال روسو" قائد الفرقة 168 مدرعات لجلسة خاصة، كشفت التحقيقات بعد الحرب أنها كانت من أجل توحيد مهام القيادة والسيطرة والاشراف والتخطيط للعمليات الخاصة في يد خبيرة، وشرح حالوتس نظريته التي تعتبر أن التفاعل والتنسيق الجيد بين قوات خاصة نخبوية حسنة الادارة والتشغيل تعمل باحترافية مع سلاح جو متعاون يطبق نفس المنهج، ويمكن بتناغم السلاحين أن يتحقق ما لا يمكن أن يحققه جيش بأكمله لا زال يتخبط على أطراف بنت جبيل وعيتا الشعب.
أبدى "روسو" ترحيبه بهذا الاتجاه وطلب تحويل جزء من عمليات سلاح الجو إلى مصلحة خدمة العمليات الخاصة المزمع تنفيذها من الآن فصاعدا، فكان له ما أراد. طلب العميد "روسو" من أجل إنجاح المهمة تشكيل إطار قيادي للعمليات الخاصة يجمع كل الوحدات النخبوية تحت قيادته وبإشراف حالوتس نفسه، فوافق حالوتس بسرعة مبدياً سروره لأن "روسو" يفكر تماماً كما يفكر.
بعد الجلسة تم تكليف العميد "طال روسو" بقيادة مجهود العمليات الخاصة في الجيش وجميع القوى المسلحة في الكيان المؤقت. اختار روسو لمساعدته:
1ــ العقيد رونن والذي كان أوّل من اقترح تفعيل العمليّات الخاصّة خلال الحرب، والذي يعتبر أيضاً من أكفأ ضبّاط شعبة الاستخبارات العسكريّة في المجال الاستخباري المرتبط بالعمليّات الخاصّة.
2ــ العميد ركن "تامير باردو" الذي خلف "مائير داغان" على رأس جهاز الموساد (2011-2016)، والذي كان أنهى عمله قبل الحرب بفترة كنائب لرئيس الموساد، ثم انتقل إلى الجيش الإسرائيلي ليعمل في مجال تطوير الاسلحة ذلت التكنولوجيا العالية قبل الحرب مباشرة للمساعدة في نشاطات تصبّ في مكافحة ما يسمّى "الارهاب العالمي".
كان العميد طال "روسو" في ذلك الوقت قائد الفرقة 162 مدرعات التي تعتبر أهم فرقة بالجيش تضم لوائي مشاة "جفعاتي" و"الناحال" ولوائي "مدرعات القبضة الفولاذية 401" و"الرام 37" الاحتياطي كما كانت تضم الفوج 215 المدفعي (عامود النار)، والذي كان يشرف بالإضافة إلى كتائب المدفعية الثلاث (55-402-403) على كافة عمليات المسيرات في القطاع الغربي. وقد تنقل "روسو" في العديد من المهام والوظائف في الوحدات الخاصّة الرئيسيّة مثل (سييرت متكال، شلداغ وماغلان)، ثم انتقل لقيادة: كلية الأمن القومي، وقاد لواء ناحل، ثم ترأس فرقة المظليين الاحتياطية الخاصة، ثم تولى قيادة فرقة المدرعات النظامية 162 في حرب تموز 2006.
تبين أن تكليف "طال روسو" كان هدفه بناء قوة أخرى رديفة لمهمات عدة منها:
1ـ التدخل في المعركة لإغلاق الفراغات والثغرات الناشئة عن أخطاء في التخطيط او التشغيل.
2ـ تنفيذ عمليات خاصة كبيرة ذات مردود سياسي يمكن للحكومة أن تستفيد منها للضغط وعدم التورط أكثر في الحرب.
3ـ الوقوف بوجه تنفيذ عمليات قد يتواطأ لتنفيذها خارج رغبة هيئة الاركان العامة، الثلاثي المشاكس في الشمال وهم قائد المنطقة الشمالية الجنرال "أودي آدم" وقائد الفرقة 91 العميد "غال هيرش" وقائد فرقة 98 احتياط مظلي العميد "أيال آيزنبرغ".
ورغم أن التكليف جاء متأخراً مما عقد الأمور أكثر في معركتي مارون الراس وبنت جبيل، إلا أنه حد بشكل كبير من اندفاعة قيادة المنطقة الشمالية للبدء بتنفيذ أو توريط الكيان بعملية "مياه الأعالي ــ مي ميروم" التي كانت تهدف إلى تنفيذ اجتياح بري ضخم بأربع فرق إلى الليطاني.
رجال الله يحاصرون "الماغلان" ويطبقون عليها
كانت ضربة الفجر في "الباط" بمارون الراس قد ولدت لدى الجنرال "أودي آدم" قائد المنطقة الشمالية والعميد غال هيرش، قائد الفرقة 91 تصوراً عملانياً بأنه لا يمكن تحقيق شروط ومطالب الحكومة إلا بعملية برية واسعة.
إلا أن "آدم" استمر في إرسال القوات إلى مارون الراس، فظهر اليوم الاول الذي تكبد فيه الجيش حتى الظهيرة 7 قتلى وعشرات الجرحى تقرر تنفيذ المرحلة الثانية للضربة الافتتاحية في قاطع عمليات بنت جبيل ظهر يوم الاربعاء 19-7-2006 . تبين من التحقيقات أن تقديرات قيادة المنطقة الشمالية والفرقة 91 رجحت بقوة أن نفس المجموعة التي نفذت كمين " الباط " جاءت من مارون الراس، وبأن الوجود العسكري للمقاومة متواضع جداً في القرية ويلزم القيام بمناورة هجومية لعزل المجموعات المنتشرة من جهة جبل الباط عن البلدة.
تم تكليف سرية ثانية مدرعة من وحدة مغلان عند الساعة الثانية عصراً بـ:
1ـ اجتياح الجزء الغربي من قرية مارون الراس.
2ـ تأمين متكأ يؤمن استكمال احتلال القرية واستكمال تطويق بنت جبيل.
3ـ تأمين عزل المجموعات التي يعتقد أنها نفذت الكمين وما زالت تنتشر في الجهة الغربية لمارون الراس.
4ـ شطر مارون الراس كمرحلة أولى إلى شطرين ريثما يتم احتلالها بشكل كامل.
ظهور سلاح "الكورنيت" للمرة الأولى في الحرب
اتخذت الدبابات هذه المرة برفقة جرافتين عسكريتين الطريق الجبلي إلى قلب مارون حيث كانت تنتظرهم منذ 7 أيام مجموعة من رجال الله الذين أجرى الله على أيديهم الاشتباك الذي غير مجرى حرب تموز بالكامل فخلال دقائق تمكن المجاهدون من تدمير دبابتين وجرافة عسكرية كبيرة.
لقد كشف الغطاء عن سلاح "الكورنيت" الذي بقي سراً مكتوماً بين عدد من رجال الله من وحدتي ضد الدروع والمشاة لمدة سنة ونيف.
وبعدما كان العدو يهدف إلى احتلال مارون الراس واستكمال تطويق بنت جبيل تحولت مهمة كل القوى النخبوية في القطاع الغربي للجبهة إلى مهمة انقاذ لعشرات من أفراد وحدة مغلان 212 التي علقت بنيران الشهيد القائد جواد عيتا (محمد دمشق) ورفاقه الشهداء (سامر نجم ــ محمد عسيلي ــ علي حرب ــ حسن فحص ــ موسى خنافر) وآخرين مازالوا ينتظرون.
تحولت مهمة رجال الله من الدفاع إلى فرصة لأسر عدد من الجنود الأحياء من أهم الوحدات النخبوية في جيش العدو.
خلال ساعات قليلة تحولت القرية الصغيرة المتربعة على جبل مارون الراس إلى ميدان حرب انقسمت فيها البلدة بين جنود مرعوبين من احتمال الاسر وبين رجال وطدوا أنفسهم على الشهادة وباتت عزيمتهم وصرخاتهم الحسينية سلاحاً معنوياً مرعباً لأشباه الرجال المذعورة المختبئة في بيوت فقراء مارون الراس.
فقدان الغطاء الجوي والمدفعي فرض معركة غير متكافئة لصالح المقاومة هذه المرة بين رجال الله وبين جنود ماغلان وحيث يفتقد الدعم الجوي والمدفعي تبرز كفاءة الرجال الذين تربوا على الفتوة الحيدرية ورضعوا حب الحسين(ع) وتربوا على ثقافة "ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز لنا بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللّئام على مصارع الكرام".
خلاف عامودي بين المنطقة الشمالية وهيئة الاركان
وقعت نتائج تدخل القوة الثانية من وحدة ماغلان ومحاصرتها من قبل رجال الله كالصاعقة على رؤوس معظم قيادات الجيش. فبدأ العميد طال روسو عمله الجديد بالأمر بتجهيز اللواء المظلي 35 وادخال كتيبة منه لإخلاء السرية المحاصرة من قوة مغلان، فصدر أمر مقابل ومناقض من قائد المنطقة الشمالية الجنرال أودي آدم بتجهيز لواء غولاني ووحدة إيغوز التابعة له للتدخل، وبعد نقاش طويل بين روسو وآدم وحلوتس ورئيس شعبة العمليات آيزنكوت تم السماح للمظليين بالعمل لمدة 24 ساعة في مارون الراس لانقاذ القوة المحاصرة.
استباقاً للزج بالمظليين وقبل أن يفقدوا فرصة أسر الجنود قامت مجموعتان من المقاومة بالهجوم على أحد المنازل الذي كانت تختبئ فيه مجموعات من وحدة ماغلان وجرى اشتباك بالرصاص وبالقنابل ومن غرفة إلى غرفة، حتى أن إحدى قذائف الـ"بي 7" أطلقت داخل المنزل وانتهت المعركة كما أسلفنا بمقتل 5 عناصر بينهم ضابط وجرح 9 جنود.
كما انتهت أيضاً باستشهاد قائد الهجوم الشهيد محمد دمشق (جواد) وقائدي المجموعتين المهاجمتين الشهيد سامر نجم (أبو زهراء) والشهيد محمد عسيلي (ذو الفقار) وجرح ثلاثة أفراد من المجموعتين المهاجمتين معظم إصاباتهم في الجهة العليا من الجسم.
تمكن الأخوة الأحياء من إجلاء رفاقهم الجرحى إلا أنهم لم يتمكنوا من إنقاذ الشهداء فقاموا بسحب جثة رقيب أول يدعى "يهونتان فولسيوك" ودفنها في مكان غير بعيد تمهيداً لإخراج إلى المناطق الآمنة.
بعد 17 ساعة تمكنت طلائع المظليين من الوصول إلى تخوم مارون تتقدمهم سرية استطلاع جرى رصدها من أحد مراصد مارون الراس وابلاغ القيادة عنها فتم استهدافها بالمدفعية بشكل مكثف مما أدى إلى فقدانها قتيلين وعدد من الجرحى وجرى رصد قوة ثانية وثالثة ورابعة فجرى استهدافها جميعها.
رد سلاح الجو الصهيوني بغارات هستيرية امتدت من محيط بنت جبيل إلى صور نزولاً باتجاه الغرب ومن عيترون شرقاً وشمالاً وصولاً إلى النبطية وقد نفذت الطائرات الحربية الصهيونية عشرات الغارات خلال ساعات قليلة ورمت المدفعية الصهيونية في نفس الوقت مئات القذائف كما أدخل العدو الطائرات غير المأهولة والمسلحة بصواريخ " الهيل فاير" بكثافة لتصطاد الناس في الشوارع والبيوت دون أن تتمكن كل محاولات الضغط تلك من ثني مدفعية المقاومة وقوتها الصاروخية عن الاستمرار في استهداف السرايا والمجموعات التابعة للمظليين التي كانت تقترب من مارون الراس.
نتائج معركة مارون الراس الأولى
خلال تلك المعركة التي استمرت عدة أيام نفذ رجال الله منذ الساعات الأولى وحققوا المهمات والنتائج التالية:
1ــ منع أي جندي من جنود ماغلان من الظهور وفرض الاختباء عليه.
2ــ قطع التواصل بين قوة ماغلان وقيادتها على بعد 800 متر في مستعمر "آفيفيم"
3ــ منع الميركافا من التجول إلا تحت ساتر ضبابي أو بحماية جوية.
4ـ اسقاط طائرتي آباتشي
5ـ ضرب فصيل كامل من قوة ماغلان كان مختبئاً في أحد البيوت وتحييد معظم جنوده (تسبب الاستهداف بقتل الرائد بنيامين هيلمان واربعة من جنوده وجرح 9 عناصر كانوا يختبؤون ببيت من بيوت مارون)
6ـ ابقاء نقاط الرصد في مارون الراس عاملة بأعلى كفاءة ممكنة.
7ـ تأمين الهداية النارية لمدفعية المقاومة الاسلامية لاستهداف معظم القوى التي حاولت التدخل في المعركة.
8ـ أسر جثة رقيب أول يدعى "يهونتان فولسيوك" ودفنه لفترة من الوقت إلا أن الله لحكمة ما لم يوفق لسحبه إلى منطقة آمنة فاستعاده الصهاينة في اليوم الثالث.
9ـ ارباك خطة العدو العامة وارغامه على الدخول مرغماً في الحرب البرية التي أظهرت نقاط القصور الفاضحة في أدائه.
10ـ التسبب باستقالة 4 جنرالات (أودي آدم ــ طال روسو ــ غال هيرش ــ إيال أيزنبرغ) والإطاحة برئيس الاركان دان حالوتس حيث أن معظم الاتهامات التي طالته كانت مرتبطة بسوء أدائه في محور بنت جبيل وفي معركة مارون الراس.
11ـ رفع المستوى المعنوي لدى جمهور المقاومة وهو الذي كان يتعرض لأبشع وأقسى عملية سحق وراكم حجم الثقة بالمقاومة وقيادتها على صناعة النصر.
12ـ جعل مارون الرس ورجال الله فيها مثلاً وقدوة لحركات المقاومة في العالم بعد ما أظهروه من بأس وكفاءة.
13ـ فضحت العدو وحرمته من مجرد السيطرة على سردية المعركة من خلال تصوير المقاومة لبعض نتائج هذه المعركة وعرض الغنائم التي غنمها رجال الله في المعركة.
حرب تموز 2006عدوان تموز 2006مارون الراس