معركة أولي البأس

خاص العهد

انفجار معسكر عين البنيه: ولادة أفواج المقاومة اللبنانيةـ امل
08/07/2023

انفجار معسكر عين البنيه: ولادة أفواج المقاومة اللبنانيةـ امل

يوسف الشيخ
في بداية تموز/ يوليو 1975 بدأت مجموعات من الشباب اللبناني جاؤوا من الجنوب وبيروت والبقاع تتلقى دروساً على الاسلحة الفردية والمتوسطة الدفاعية ضمن دورة أقامتها حركة فتح للشباب اللبناني في أحد معسكراتها المعروف بمعسكر عين البنية في منطقة قريبة من بعلبك.
 عند الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر يوم السبت 6 تموز، يوليو 1975 وأثناء شرح المدرب الفلسطيني للشباب اللبناني عن لغم الآليات، وبعدما أنهى شرح المواصفات التكتيكية والتعبوية للغم طلب من الشباب أكثر من مرة الابتعاد أمتار عن مكان وجوده والجلوس، وأمرهم بعدم الركوع أو الوقوف موضحاً طريقة انفجار حشوة اللغم المتفجرة التي تنفجر بشكل قمعي شبيه بانفجار قذيفة الهاون لدى ارتطامها بالأرض، ولم يسحب المدرب صاعق تفجير اللغم الذي كان بجيبه إلا بعدما تأكد أن المتدربين قد أصبحوا في الوضعية التأمينية المناسبة مع التنويه بأن (الصاعق والذي يلزمه قوة ضغط توازي أطنان لينفجر إلا في حال انفجر الصاعق نتيجة محرض خارجي كقوة انفجارية أو عصف انفجاري قوي أو إن حصل خطأ في التركيب أو كان الصاعق الحساس تعرض لصدمة جعلت من الصعب إدخاله باللغم).
عند سحب المدرب للصاعق من جيبه سقط أرضاً فتناوله ثم زجه بسرعة حسب شهود العيان في اللغم عندها حدث انفجار كبير سقط على أثره 26 شهيداً بينهم المدرب الذي تناثر وبعض متدربيه أشلاء وسقط 45 جريحاً معظمهم حالاتهم بين المتوسطة والخطرة.

انفجار معسكر عين البنيه: ولادة أفواج المقاومة اللبنانيةـ امل

الإمام المغيب يخرج " أفواج المقاومة اللبنانية"  إلى حيز الوجود

في اليوم التالي الأحد أي 7 تموز/ يوليو 1975 عقد الامام المغيب السيد موسى الصدر مؤتمراً صحفياً في مقر المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى بحضور المفتي الجعفري الممتاز سماحة الشيخ عبد الامير قبلان (رض) ونقيب المحررين الشهيد الاستاذ رياض طه أعلن فيه عن ولادة الكيان المقاوم اللبناني الأول عارضاً ورقة كتب عليها أحد جرحى الانفجار بدمه عبارة " كونوا مؤمنين حسينيين "وكاشفاً أن هذا التنظيم بدأ عمله السري منذ اشهر بعد اندلاع الحرب الأهلية ليعيد توجيه البوصلة إلى العدو الحقيقي "إسرائيل".

استهل الامام المغيب السيد موسى الصدر مؤتمره الصحفي بآيات من القرآن المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما أتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم﴾ [آل عمران، 169-170].

وافتتح مؤتمره الصحفي بنعي الشهداء: "في غمرة الآلام المبرحة وبكلّ اعتزاز أنعي إلى المواطنين عامةً، وإلى أبناء الجنوب الصامد بوجه خاص استشهاد نخبة من الشبان اللبنانيين ﴿رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ [الأحزاب، 23].
ووصف الامام الصدر تلك الثلة بـ: "الباقة الحمراء من زهور الفتوة والفداء هم الطلائع من أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" الذين لبّوا نداء الوطن الجريح الذي تستمرّ إسرائيل في الاعتداء عليه من كلّ جانب وبكلّ وسيلة ".

وأكد الإمام المغيب أعاده الله ورفيقيه بخير :" إن هؤلاء الشباب أرادوا أن يثبتوا أن الوطنية ليست شعارات ولا أرباحًا ومكاسب ولا متاعًا للمساومة وللعرض والطلب، بل إن الوطن هو أبعاد وجود الإنسان وأساس كرامته ومجال رسالته تجب حمايته بالأرواح والدماء حتى مع عدم التكافؤ في القوى، ويجب التهيؤ لذلك بسرعة. إنهم اتخذوا من موقف الحسين(ع) سلوكًا، والتحقوا بقافلته، ووضعوا أنفسهم قربانًا للحقّ والعدل."
 

انفجار معسكر عين البنيه: ولادة أفواج المقاومة اللبنانيةـ امل

وكشف سماحته: "إنهم أرادوا أن يثبتوا أن مكان السلاح في الجنوب وليس في بيروت وضواحيها فشقّوا بجهادهم الصامت، دون إعلام، طريق التضحيات الوطنية ووضعوا الأمور في نصابها الصحيح. إنهم أكدوا ضرورة توجيه الأسلحة، كلّ الأسلحة، إلى صدر العدو، وأن لا خلاص من الفتنة الداخلية والحرب الأهلية إلّا إذا توجه المسلحون إلى الجنوب وإلّا إذا نُقِلَتْ المتاريس والحواجز والأسلحة الخفيفة والثقيلة إلى الحدود. لذلك فقد انتقمت منهم إسرائيل (ولهم الشرف بذلك) فأصبحت إذاعتها بعد ساعة فقط من الحادثة تقهقه وتشمت وتحرِّض وتبالغ وتشجِّع عملاءها في كلّ مكان، وحطمت طائراتها جدار الصوت فوق مكان الحادثة. لكن هذه المحاولات لم تكن ولن تكون يومًا سببًا لتراجع المجاهدين الشرفاء، ولا لترددهم في الاستمرار على الطريق، فكتبوا بدمهم ساعة الاستشهاد على ورقة "كونوا مؤمنين حسينيين"، وأصرّ الجرحى في المستشفيات على العودة فورًا إلى المخيم لمتابعة التدريب، وأعلن ذوو الشهداء رضاهم بما كتب الله لهم صابرين محتسبين مستعدين لتقديم المزيد من التضحيات، وأعلنت الثورة الفلسطينية اعتبارهم شهداء الثورة."

وحيا الامام الصدر الشهداء معلناً ببركة دمائهم التنظيم المقاوم الجديد: "وها أنا بصفتي الداعي أنحني أمام أرواحهم الطاهرة، وأغبطهم على ما شرَّفهم الله تعالى به، وأناشد الشباب اللبنانيين من كلّ منطقة وفي كلّ طائفة، لا سيما المحرومين منهم، أناشدهم جميعًا أن ينخرطوا في أفواج المقاومة اللبنانية، فيلتحق المدربون والمسلحون الشرفاء بها، ويستعدّ الآخرون للتدريب ولتلبية نداء الوطن ساعة الحاجة. وأؤكد للبنانيين جميعًا أن الآلام الدامية التي تنتاب جسم وطننا العزيز إنما هي نتيجة الانحراف عن السلوك الصحيح، وإثر غياب الدفاع الرسمي والشعبي عن الجنوب. وإن العلاج لهما إنما هو بالانتقال إلى الحدود، وبإشعار المواطن أنه يقدم واجبه الوطني في مكانه الطبيعي".

ويتابع الإمام القائد: "وها أنا في هذه اللحظة أعلن ولادة هذه الحركة الوطنية الشريفة التي أخذت على عاتقها تقديم جميع ما يملك أعضاؤها في سبيل صيانة كرامة الوطن ومنع إسرائيل من الاعتداءات السهلة. وكان يودّ الشباب تأخير الإعلان عن هذه الحركة أو عدم الإعلان نهائيًا رغبة منهم في أن تبقى حركتهم تنمو وتكتمل وتعبِّر عن ذاتها بالعمل... ولكن الحادثة المؤلمة وما رافقها من تشويش وافتراء لدى الرأي العام، فرضت عليهم أن يطلبوا مني شخصيًا إبلاغ المواطنين الحقيقة كلّها.

وأختتم سماحته كلمته مخاطبًا البعض بتلاوة هذه الآيات: ﴿يا أيّها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير* ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون﴾ [آل عمران، 156-157].
﴿يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور﴾ صدق الله العظيم [آل عمران، 154].

ثم رفع يديه إلى السماء وقال: " أرفع يدي إلى السماء قائلًا مع بطلة كربلاء زينب بنت عليّ: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان"، وطالبًا منه سبحانه وتعالى أن يربط على قلوب ذويهم، وأن يجزل أجرهم، إنه نعم الوكيل".

انفجار معسكر عين البنيه: ولادة أفواج المقاومة اللبنانيةـ امل

المسار المؤدي إلى ما بعد انفجار عين البنيه

منذ العام 1967 وهو عام تأسيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الهيئة الناظمة لحقوق ومطالب الشيعة الذي يمثل التجمع البشري الأكبر في لبنان. بدأ الامام الصدر ببناء اللبنة الأخرى الموازية للمجلس وهي الجماعة المقاومة للاحتلال رغم أنها تعمل تحت مظلة المجلس الشيعي، فكثف الامام اتصالاته مع المنظمات الفلسطينية اللاجئة راعياً حقوقها ومدافعاً عنها في جميع المحافل الاقليمية والدولية. عام 1968 استحصل من عدد من مراجع الطائفة الشيعية في العالم على إجازة وفتوى بجواز صرف الحقوق الشرعية على المقاومة الفلسطينية.

نتيجة لذلك وفي 16 كانون أول/ ديسمبر 1969  فَتَحَ الامام الصدر باب التبرُّع للثورة الفلسطينية بإقامته حفل إفطار جمع فيه المسلمين والمسيحيين بجميع طوائفهم الذين قدموا تبرعات سخية للمقاومة.

بعد ذلك بشهر تقريباً وفي 29 كانون الثاني/ يناير 1970 : استأنف الإمام حملة تعبوية إعلامية للدفاع عن الجنوب اللبناني في وجه الاعتداءات الإسرائيلية مطالبًا بتسليح المواطنين وتدريبهم للدفاع، ووضع قانون خدمة العلم، وتنفيذ مشاريع إنمائية مع دعوة الناس للصمود في قراهم وعدم النزوح.

في 20 أيار/ مايو 1970 : أسّس "هيئة نصرة الجنوب" بمشاركة رؤساء الطوائف اللبنانية في الجنوب، وذلك لتدارس الأخطار المحدقة بهذه المنطقة، ومواجهتها.

بعدها بأقل من أسبوع وفي الـ 26 من أيار/ مايو 1970 دعا إلى إضراب سلمي وطني عام شمل لبنان بمناطقه كافةً تضامنًا مع فكرته الداعية إلى وقوف كلّ لبنان مع جنوبه. فاجتمع مجلس النواب وأصدر قرارًا بإنشاء "مجلس الجنوب" نتيجة لهذا الإضراب وبهدف تنمية الجنوب ورفع الحرمان عنه.

في 2 نيسان/ أبريل 1971 : زار الإمام جبهة السويس وأمضى فيها عدة أسابيع بين الجنود وأهالي السويس الصامدين على بعد عشرات الامتار من خط التحصينات الصهيونية حيث اجتمع إلى العسكريين، وأمَّ الصلاة في أحد مساجد المدينة، ودعا إلى وجوب التمسك بالدين وإعلان الجهاد المقدس في سبيل تحرير فلسطين، كما اقترح مشروع "سندات الجهاد" لتفعيل المشاركة على المستويات الشعبية كافة في الجهاد لتحرير الأراضي المقدسة.

20 أيلول/ سبتمبر 1972 : إثر عدوان صهيوني على قرى العرقوب الجنوب، طالب بوجوب تأمين وسائل الدفاع الحديثة وتعميم الملاجئ وتحصين القرى.

انفجار معسكر عين البنيه: ولادة أفواج المقاومة اللبنانيةـ امل

أفواج المقاومة اللبنانية في استراتيجية الامام الصدر

بدا واضحاً أن استراتيجية الامام المغيب السيد موسى الصدر منذ بدء تثبيت مشروعه المتكامل للمحرومين في لبنان في منتصف الستينات أن الإمام يعمل على استراتيجيتين متلازمتين أحدهما ترفع الأخرى:

الاستراتيجية الأولى: معالجة الغبن والحرمان الكبير والمزمن الذي كانت تعاني منه الأطراف والذي كان يزحف إلى ضواحي المدن وخصوصاً العاصمة بيروت ليحول هذه الضواحي إلى أحزمة بؤس تتفاوت فيها ظروف العيش بشكل سافر مع الظروف المعيشية المرتاحة التي كانت تتمتع بها قلب المدن وتصادف أن 90 % من المستهدفين باستراتيجيته الاولى كانوا من الطائفة الشيعية الذين عانوا من أكثر من 450 عاماً من التهميش المتعمد الذي انعكس على شكل حرمان في كل الحقوق ( التعليم ــ البنى التحتية ــ الوظائف العامة ــ التنمية ... الخ).

الاستراتيجية الثانية: إعداد العدة لمجتمع مقاوم للأطماع الصهيونية التي كانت تنعكس على شكل استباحة كاملة للقرى الحدودية ونزيف بشري ومعنوي واقتصادي دائم في معظم قرى وبلدات جبل عامل وخاصة القرى والبلدات الحدودية.

وقد أدت نكسة العام 1967 ومن بعدها مجازر أيلول/ سبتمبر 1970 التي ارتكبها النظام الاردني بالمقاومة الفلسطينية إلى جعل لبنان ملاذاً للمقاومة الفلسطينية رغم أن تداعيات نكسة ال 1967 كانت أشد وقعاً بفعل ضعف المناعة العربية على مستوى الدول والمنظمات التي كانت مرتبطة بشكل رئيسي بالقضية الفلسطينية .
ومن يراجع أداء الامام الصدر بين عامي 1967 و 1975 يلاحظ أن الاستراتيجيتين كانتا تسيران في نفس الاتجاه وعلى نفس المسار الذي كان سيؤدي بالنهاية إلى اجتماعهما بمشروع واحد كان يسميه الامام "المجتمع المقاوم"، حيث أن تحصين البيئة المحرومة وانتزاع حقوقها ومطالبها سيجعلها أكثر قوة ومناعة لترفد " المجتمع المقاوم " بالقوة والاقتدار والثبات.

أخيراً : أخرج حادث "معسكر عين البنيه" المفجع بذرة المجتمع المقاوم اللبناني إلى حيز الوجود. ذلك المجتمع الذي كما أسلفنا بقي الامام الصدر يعمل له وينادي به منذ منتصف الستينات وكتبت القدرة الإلهية أن تنبت نواته "أفواج المقاومة اللبنانية – أمل"  كأولى تجليات المقاومة التي قدر لها عام 1982 بعد خروج توأمها " المقاومة الاسلامية" أن تكتبا تاريخ لبنان الحقيقي وتحجزا للبلد الصغير مكاناً فرض هيبته بين الكبار.

الامام موسى الصدرالشيخ عبد الأمير قبلان

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل