معركة أولي البأس

خاص العهد

"نزع الدولرة".. هل ولّى عهد الدولار؟
02/05/2023

"نزع الدولرة".. هل ولّى عهد الدولار؟

فاطمة سلامة

تكرّ سُبحة الدول التي بدأت عملية "نزع الدولرة" عن اقتصاداتها. يومًا تلو آخر، تنضم دول جديدة الى هذا النهج متخلية عن العملة الخضراء التي هيمنت على الأسواق العالمية لنحو ستة عقود. روسيا، الصين، الهند، إيران، أندونيسيا، البرازيل وغيرها، كلها دول تحدّت الهيمنة الأميركية ونظام القطب الواحد وقالت "لا للدولار"، تلك العملة التي أوهمت صاحبتها أي الولايات المتحدة الأميركية العالم بأنه لا يستطيع الاستغناء عنها مطلقًا. وعلى قاعدة "ربّ ضارة نافعة" دفع سيف العقوبات الأميركية الذي استخدمته واشنطن تعسفيًا دولًا عدّة لتحويل التهديد الى فرصة، وفرض أساليب جديدة للتعاملات بين الدول قائمة على التسعير بالعملات الوطنية، وابتداع نظام مشابه لـ"سويفت" المالي للتحويلات المالية. 

الخبير الاقتصادي الدكتور حسن مقلد يقرأ في حديث لموقع "العهد" الإخباري في التحول الحاصل اليوم وظاهرة "نزع الدولرة" التي شهدناها في أكثر من دولة. وفق حساباته، نحن أمام تطور غير بسيط. وقبل الدخول في الأسباب التي دفعت العالم الى هذا الخيار يعرّف مقلّد من الناحية الاقتصادية مفهوم "نزع الدولرة" فيلفت الى أنّ تسعير السلع في الماضي كان يحتاج الى مقاييس محددة لتثمينها من فضّة وذهب وما شابه، ومنذ حوالى 60 عامًا باتت عملة التسعير العالمية بالدولار، أي تبادلات تجارية بين أي دولتين خارج حدودهما الوطنية يتم بالدولار. على سبيل المثال، اذا أردات روسيا بيع النفط أو القمح للسعودية فلا يمكن ذلك الا بالدولار. 

ولدى سؤال مقلّد: بناء على أي سند فرضت الولايات المتحدة الأميركية هذا النظام؟ يجيب بالإشارة الى أنه بعد الحرب العالمية الثانية والاتفاقات التي نتجت بإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي انقسم العالم الى كتلتين: الاشتراكية مع الاتحاد السوفيتي، وكتلة العالم (الحر) مع أميركا وكانت الاقتصادات الأوروبية في حينها "بالأرض" واليابان مهزومة وكانت القوة الصاعدة هي أميركا، فبقيت مرجعية التسعير من عام 1945 الى 1972  بالذهب. ولكن بما أن الذهب لا يُصرف كل يوم كان الاعتماد على الدولار كعملة "مسنودة" على الذهب. وعليه، يتم تقدير الموجودات من الذهب وطباعة كميات من الدولار توازيها، فكان الذهب هو العملة المرجعية والدولار هو عملة التداول.

في عام 1972 أعلن الرئيس الأميركي في حينها ريتشارد نيكسون أنّ أميركا قوة عظمى لدرجة أنها لم تعد تحتاج للتغطية الذهبية. وعليه، أُلغي الاعتماد على الذهب وبدأت واشنطن بطباعة كميات من الدولارات دون أي سند له قيمة حقيقية الا قوة العسكر والاقتصاد الأميركية. عامل آخر زاد من هذه الهيمنة الأميركية تمثل بانهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية في التسعينيات ما أعطى دفعة جديدة للولايات المتحدة الأميركية ليسود الدولار أكثر فأكثر. وأيضًا، طرأ عامل إضافي تمثل في أن التحويلات المالية تمر عبر نظام خاص يُدعى "سويفت" مركزه بروكسل ولكنه شركة أميركية. هذا النظام تمنع بموجبه الولايات المتحدة الأميركية أي فرد أو مواطن أو جهات مصرفية من نقل المال من مكان الى آخر عبر أي نظام مصرفي دون استخدام "سويفت" ومن يُحرم من هذا النظام لا يتمكن من التحويل. 

اليوم نحن أمام تطور جديد وغير قليل ــ يقول مقلّد ــ تمثل بعملية نزع عدة دول للدولرة بحيث باتت عملة التسعير بعملة تلك الدول الوطنية، مثال اليوان الصيني مقابل التومان الإيراني، والأخير مقابل الروبل الروسي. تمامًا كما أننا لم نعد نشهد تحايلًا على التحاويل فقط بل بناء نظام حقيقي جديد مواز ومشابه لنظام "سويفت" ومن الآن حتى أيلول المقبل من المفترض أن تظهر معالمه أكثر فأكثر.  

"نزع الدولرة".. هل ولّى عهد الدولار؟

العقوبات على رأس الأسباب 

يغوص مقلّد في الأسباب التي دفعت العالم الى خيار "نزع الدولرة" فيشدّد على أنّ  الأميركيين استخدموا سلاح العقوبات على الدول والشركات والأفراد بشكل تعسفي لدرجة أن وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين نفسها قالت في أحد التصاريح أنّ "استخدام العقوبات بهذه الطريقة دفع الناس دفعًا للتفكير في كيفية الخروج من النظام المالي الأميركي"، وهذه حقيقة ــ يضيف مقلّد ــ الذي يستشهد بإشارة رئيس البرازيل لولا دا سيلفا الى أنه "من المستحيل المضي في استخدام الدولار وهم يستخدمونه عشوائيًا للعقوبات (واشنطن)" ما يعني وفق المتحدّث أنّ شيئًا ما تغيّر في التعاطي مع الدولار. 

لماذا يحصل هذا الأمر؟ 

يعزو مقلّد أسباب التخلي عن الدولار الى أنّ الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية كانت قوة اقتصادية وعسكرية ضخمة جدًا، وعندما أخذت قرارًا بأن تتخلى عن الذهب كمرجعية ــ في بداية السبعينيات ــ كان لديها قوة عسكرية واقتصادية قوية سمحت لها بهذا التخلي. لكن بعد عام 2003 وحرب العراق تراجعت القوة العسكرية الأميركية كثيرًا. وبعد أزمة عام 2008 الاقتصادية لم تعد حصة الاقتصاد الأميركي في اقتصاد العالم كما كانت في الماضي، وبدأت أميركا بالتراجع كقوة اقتصادية رغم أنها تلقت عشرات العوامل التي ساعدتها. وعليه، لم يعد لدى أميركا لا قوة اقتصادية ولا قوة عسكرية ولا تغطية من الذهب. وبالموازاة ثمّة دول عدّة كالصين وروسيا والهند وإيران وجنوب أفريقيا والبرازيل باتت تشكل قاطرة اقتصادية للعالم أكبر من الولايات المتحدة الأميركية. وعليه لم يعد باستطاعة أميركا اليوم وضع عقوبات على روسيا والصين وإيران وبالمقابل تكمل بالتعامل بالدولار بشكل طبيعي!.

التحول نحو "نزع الدولرة" بدأ فعليًا ــ وفق مقلّد ــ  منذ اللحظة التي وضع فيها الرئيس السابق دونالد ترامب عقوبات على الصين. حينها اتخذت الأخيرة قرارًا ببدء نزع الدولرة مهما كانت خسائرها بالخروج الجزئي من تحت مظلة الدولار. هذه نقطة التحول الأساسية، وفق مقلّد، الذي يشير الى حرب أوكرانيا والعقوبات التي أدرجت على روسيا كنقطة تحول ثانية جعلت الدول تفكر لأول مرة بطريقة مختلفة. 

يُعطي مقلّد أمثلة عن كيفية البدء بالتخلي التدريجي عن الدولرة. كان لدى الصين 3200 مليار دولار كاستثمارات في أميركا. كانت تدرك بكين أنها اذا خرجت من الدولار ستتكبد خسائر كبيرة. اليوم وبعد 4 سنوات من العقوبات خفّضت الصين هذا الرصيد الى 900 مليار دولار. تمامًا كما كان لدى الصين 2400 مليار دولار كدائن ومودع في البنوك الأميركية، اليوم جرى تخفيض هذا الرقم الى 1000 مليار دولار. وفي سياق حديثه عن العقوبات التي غيّرت عقلية التعاطي مع الدولار، يلفت الخبير الاقتصادي الى أنّ روسيا حُجز لها تعسفًا 350 مليار دولار كثروات وعقارات لمواطنين روس في الخارج. حينها، قررت موسكو أن تعمل بنمط آخر وطريقة ثانية. 

العالم انتقل الى نمط مختلف 

كل ما سبق جعل العالم يتغير اقتصاديًا وماليًا وبدأنا نشهد أدوات تحويلات مالية جديدة واتفاقات كبرى استراتيجية بين الصين وروسيا وبالعملات الوطنية، وأيضًا، اتفاقات استراتيجية بين إيران والصين من جهة وإيران وروسيا من جهة أخرى وبالعملات الوطنية. اليوم بدأنا نشهد أيضًا اتفاقات  بين الهند وروسيا والهند وإيران والهند والبرازيل وبالعملات الوطنية وهذا مؤشر كبير جدًا حول بدء انتقال التجارة العالمية من عملة تسعير مرجعية اسمها الدولار ونمط تحويلات مالية يمر بنظام "سويفت" والنظام المالي الغربي الى نمط مختلف تمامًا. هل ستكرّ سبحة الدول أكثر فأكثر؟ يجيب مقلّد عن هذا السؤال بالإشارة الى أن العد العكسي بدأ والمهم أننا بدأنا وهذا سيكون له انعكاس هائل على كل شيء لأن الولايات المتحدة الأميركية ليست قائمة لا بالقوة العسكرية ولا الاقتصادية بل بقوة التسعير بالدولار وقوة التحويلات المالية لـ"سويفت" وعندما تخسر هذه الميزة نكون أمام تبدلات ليست بسيطة. 

وفي ختام مقاربته، يذكر مقلّد حادثة للدلالة على سرعة تغير العالم مع الدولار، فيقول "منذ عام، وبالتحديد في حزيران 2022 كنت في موسكو وقابلت مسؤولًا ماليًا كبيرًا جدًا، وتحدثت معه عن إمكانية إنشاء نظام آخر شبيه بـ"سويفت" فقال إننا لا نفكر بالخروج من هذا النظام المالي. قبل أيام كنت في موسكو وقابلت المسؤول نفسه وسألته السؤال نفسه فكان جوابه أن روسيا والصين وإيران والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وباكستان والأرجنتين كلها دول مستعدة للدخول جزئيًا في نزع الدولرة".

الدولار

إقرأ المزيد في: خاص العهد