خاص العهد
عن الدول التي تسلُب كُرسي الرئاسة اللبنانية
فاطمة سلامة
منذ فترة قصيرة، اتصل زعيم لبناني بنائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف. خلال المكالمة الهاتفية التي تطرّقت للشأن الرئاسي، قيل للجانب الروسي أنّ دولتين كبيرتين تمانعان انتخاب رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية هما أميركا والسعودية، فردّ بوغدانوف بما معناه "ما علاقة هاتين الدولتين بالرئاسة اللبنانية التي هي شأن داخلي؟". طبعًا، لم يكشف الزعيم اللبناني سرًّا في ما قاله، فالتدخل السعودي والأميركي والفرنسي ومن يلف لفهم يبدو واضحًا وجليًا وبارزًا في حركات وهمسات هذه الدول وسفرائها ومن ينوب عنها، والشواهد كثيرة في هذا الصدد. منذ انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في 31 تشرين الأول 2022، وما قبل هذا التاريخ ودول عدّة على رأسها الولايات المتحدة الأميركية والسعودية تمنع أي حل لبناني-لبناني يقارب أزمة الرئاسة.
ولسوء الحظ، فقد وجدت هذه الدول -منذ زمن- فريقا لبنانيا يروّج لخياراتها على حساب مصلحة لبنان. والمفارقة أنّ هذا الفريق الذي يدّعي السيادة والاستقلال لا يخجل من أن تُسيّره رياح الدول المذكورة كيفما تشاء. يكفي أن ترسل تلك الدول إشارة حتى يكون لها ما أرادت. والمفارقة الأكثر غرابة أنّ هذا الفريق لا يرى كل تدخلات تلك الدول السافرة، فيصف الإملاء بأنه حرص على مصلحة لبنان. وفي المقابل "يُكذّب الكذبة ويصدّقها" كما يُقال فيتّهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالتدخل في شؤون لبنان زورًا وبهتانًا بينما لا يملك شاهدًا على ما يقول.
أما الشواهد على التدخل السعودي والأميركي فكثيرة. يكفي أن نذكر في هذا الصدد ما سُمي باجتماع باريس الخُماسي الذي انعقد في 6 شباط المنصرم على نيّة لبنان والذي شارك فيه ممثلون عن أميركا، فرنسا، السعودية، مصر وقطر. سمحت هذه الدول لنفسها برسم مواصفات الرئيس المقبل والتي تتماهى مع أجندة أميركا والسعودية في لبنان.
الأمر لم ينته عند هذا الحد، فسفراء الدولِ الخمس التي اجتمعت في باريس زارت عينَ التينة والسراي ولوّحت بأنّ عدم انتخاب رئيسٍ جديد سيرتب إعادة النظر بمجمل العلاقات مع لبنان. ولكي تكتمل جوقة التحريض استغلت واشنطن أدواتها في لبنان، فزارت ــ على سبيل المثال ــ سفيرة الولايات المتحدة الأميركيّة دورثي شيا في 27 شباط المنصرم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في معراب حيث كان ملف الرئاسة الطبق الرئيسي، مع الإشارة طبعًا الى لقاءات كثيرة تعقدها شيا تحت هذا العنوان.
تحرُّك السفيرة الأميركية يقابله تحرُّك مماثل للسفير السعودي في لبنان. وليد البخاري وما إن سمع بنبأ ترشيح فرنجية رسميًا حتى سارع للتحريض من بكركي. قادته الفتنة الى البطريرك الماروني بشارة الراعي لإبلاغه اعتراض بلاده على فرنجية. أكثر من ذلك، بدا الحنق السعودي واضحًا بشدّة في صفحات صحيفة "عكاظ" التي تنضح وتنطق باسم النظام السعودي. وتحت عنوان: "يدعمه "الثنائي الشيعي".. مسيحي يرفضه المسيحيون، ترشيح فرنجية.. لبنان يغرق.. وسيناريو الفوضى يلوح" كتبت تقريرًا بثّت فيه سمومها، وطبعًا يبدو التقرير واضحًا من عنوانه ولا داعيَ للتوسع أكثر في محتواه. ولكي تُكمل جوقة التحريض والكذب والتطاول وضعت الصحيفة صورة للتقرير تطاولت فيها على الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وهي صورة بالتأكيد لا تعكس سوى كذب وافتراء النظام السعودي الذي يُحرق لبنان منذ سنوات بنار الفتنة.
بزي: حركة المملكة في لبنان قائمة دائمًا على التدخل المباشر في الأحداث
الباحث والمحلّل السياسي الدكتور وسيم بزي يقرأ في التدخلات الخارجية بالشأن الرئاسي في لبنان، فيلفت الى "الاجتماع الذي عقدته خمس دول من الهوى ذاته والتي أرادت أن تقدّم نفسها كخماسي له حق الوصاية السياسية على واقع لبنان". وفق بزي، صحيح أن هذه الدول الخمس ليست مجتمعة على قلب واحد لكنها من ضمن مشروع في المنطقة معروف بأنه "أميركي الهوى" وأن كلمة السر لهذا الخماسي هي الولايات المتحدة الأميركية. يتطرّق بزي أكثر لفحوى اللقاء الخماسي، فيشير الى أنّ كل ما قيل من أهل الاجتماع الخماسي يُثبت حجم التدخل الأميركي في لبنان. يكشف أن فرنسا والسعودية قدمتا ورقتين مكتوبتين في ذلك الاجتماع حول لبنان. الجانب السعودي كان حادًا في مقاربته؛ يريد مقاربة شاملة تبدأ بالرئاسة الى الحكومة ومشروعها ورئيسها والإصلاحات الى نوع من قفز محكم على واقع السياسة في البلد كي تقبل السعودية أو تفكّر في التعاطي بموضوع لبنان.
يشدّد بزي على أنّ حركة البخاري والمملكة في لبنان قائمة دائمًا على التدخل المباشر في الأحداث وتحريك الوقائع من الخلف. وليس سرًّا أن سفير السعودية يتصرّف مع قوى سياسية كثيرة من موقع المفوّض السامي والموجّه. ثمّة عشرات الشواهد على هذا الأمر يُدرج منها بزي موقف السعودية من حادثة الطيونة واعتماد جعجع كرأس حربة للقوى التي تديرها المملكة وتبنّي العنوان السيادي ليس بمعناه التعبيري بل السياسي وكأن السيادة لطرف دون طرف آخر. ومن الشواهد أيضًا معاداة الرياض للمقاومة كمشروع وهذا دليل واحد من أوجه التدخل السافر. أما أهم تدخل فهو تمركز الرياض كجزء أساسي من الحصار المُحكم على لبنان. ويشدّد بزي على أنّ لدى السعودية منطقين، أول يدعو لترك لبنان ينهار ثم إعادة بناء لبنان جديد على ركام الانهيار، وثانٍ يدعو الى الاستمرار لدعم المشروع الآخر في البلد علّه بذلك يفوز.
ووفق بزي، فإنّ عقدة السعودية التي عبّر عنها ولي العهد السعودي أمام أكثر من شخصية لبنانية استقبلها أن في لبنان طرفًا أساسيًا "يُقاتل في اليمن هو حزب الله"، وعليه يزعم أنه لن ينخرط في لبنان ما دام هذا الحزب قابضا على الدولة. وهنا يقول بزي، لو أنّ منطق عدم الانخراط اقتصر على المنطق السعودي لكنا قلنا "تحييد"، لكن الانخراط السلبي الذي يتجاوز بكثير منطق عدم الانخراط يساهم في تأجيج الاشتباك في البلد. والغريب -وفق بزي- هنا أن القوى اللبنانية السيادية المحسوبة على المملكة والتي كانت تتشدّق بشعار الدولة والمؤسسات انقلبت على نفسها وعلى مضمون خطابها التاريخي وقرّرت في لحظة عجز بالسياسة أن تنقلب من مستوى الانخراط بعمل المؤسسات والشراكة بإعطاء هذه المؤسسات دورها الى أن تتبنّى منطق التعطيل الذي ما فتئت تتهم حزب الله وحلفاءه به لأكثر من عشر سنوات مضت.
ويرى بزي أنّ هذه القوى السيادية بلغت ذروة الفضائحية والعجز والضعف لأنه عندما يُعلن سمير جعجع والتغييريون وكل من يلف لفهم في المنطق السياسي عن مقاطعة أي جلسة قد تفتح لسليمان فرنجية أفقًا رئاسيًا فذلك دليل على حجم الخيبة والحضيض الذي أصبح بموجبه الخطاب عاجزًا وغير قادر على تقديم مضمون حواري أو إيجابي أو نقاشي حول الخيار وليس أن يكون ملزمًا بالخيار. وهنا يلفت بزي الى أنّ أزمة الفريق الآخر مع اتهام إيران بهتانًا هو أن هناك طرفًا لبنانيًا قويًا وحاضرًا له مسؤولياته وثقله في البلد تتعاطى معه إيران بنديّة وتُعطيه حق الوطن الكامل ويمارس لبنانيته ولا تقبل للحظة أن تمون عليه.
عليهم أن يثبتوا أن سفير إيران أطلق موقفًا تدخلي الطابع لمرة واحدة
وفي هذا الصدد، يتحدّث بزي عن أنّ الخلل الكبير في لبنان هو بين فريق يبدو منطق الوصاية واضحًا عليه ولا يملك أي هامش أو مساحة ليُظهر وطنيته أو ارتباطه بعناوين داخلية وطنية بل هو منفّذ ومأمور وهذا الأمر مُثبت بالإعلام المحلي والعالمي وصيرورة العلاقات والزيارات، وفريق آخر على الضفة الأخرى يبدو هامشه الوطني والداخلي مُطلق الأبعاد وأصل علاقته بإيران علاقة قائمة على الندية والاحترام وترك الموضوع الداخلي لأهله. بمعنى، ثمّة فريقان، أول يُعطي السيادة والاحترام الوطني والمؤسسات حقها الكامل، وآخر يرفع هكذا شعارات ويتشدق بها ويمارس عكسها.
ويشير بزي الى أنّ إيران وسفيرها يتعاطون مع لبنان ضمن المساحة الدبلوماسية المعمول بها في الاتفاقيات الدولية، اذ تدعم إيران كل لبنان. على سبيل المثال دعمها هبة الكهرباء التي تصل شرايينها الى كل مواطن لبناني حيث لا تُميّز بين لبناني ولبناني. لذلك يشدّد بزي على أنّ أي كلام عن أن حركة سفير إيران لها علاقة بالتدخل يوجب على الرؤساء والوزراء والمسؤولين في لبنان أن يُثبتوا ذلك لمرة واحدة. عليهم أن يثبتوا أن سفير إيران عقد اجتماعًا أو قام بزيارة أو أطلق موقفًا تدخلي الطابع أخذت فيه إيران موقفًا من أحداث لها علاقة باللبنانيين أنفسهم. وفي هذا السياق، يتطرّق بزي الى ما ذكرناه في المقدمة حول المكالمة الهاتفية بين الزعيم اللبناني وبوغدانوف وحجم الانزعاج الروسي من خضوع فريق لبناني للتدخلات الأميركية والسعودية، لا بل دعوته اللبنانيين للذهاب لموجباتهم الداخلية لانتخاب رئيس وعدم انتظار الخارج، يختم بزي.