معركة أولي البأس

خاص العهد

رفع "السرية المصرفية".. فرصة إصلاحية، فهل يقتنصها لبنان؟
30/07/2022

رفع "السرية المصرفية".. فرصة إصلاحية، فهل يقتنصها لبنان؟

فاطمة سلامة

اعتبارًا من العام 1956، اعتمد لبنان قانون "السرية المصرفية". الحجّة كانت حينها جذب رؤوس الأموال والودائع وتوفير الاستقرار الاقتصادي. لأكثر من ستة عقود خضع النظام المصرفي في لبنان لهذا القانون، ليتبيّن بعد كل هذه الفترة كيف تحوّلت "السرية المصرفية" الى عائق اسمتني يمنع مكافحة الفساد، لا بل بالأحرى باتت طريقًا سالكًا أمام الفساد بعينه. صحيح أنّ هذه السريّة جذبت رؤوس الأموال من الخارج، لكن عندما نبحث في نوعية هذه الرؤوس يتبيّن أنها رؤوس خالية من هدف الاستثمار وتنمية الاقتصاد والانتاج. إنها أموال بأغلبها تبحث عن ملجأ آمن لتبييض الأموال والتهرب الضريبي وما الى ذلك من أنواع فساد.

والجدير ذكره أنّ التداعيات السلبية للسرية المصرفية بدت جليّة وواضحة بعد أزمة 17 تشرين الأول 2019. حينها، كُشف اللثام عن الوجه الحقيقي والهش للنظام المصرفي. سمح التلطي وراء شمّاعة "السرية المصرفية" بتهريب الأموال وتحويلها الى الخارج ما عمّق الأزمة الاقتصادية والمالية الأكبر في تاريخ لبنان. واللافت أنّه في كل مرة كان يطلب فيها القضاء من هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان تزويده بالمعلومات الضرروية عن حسابات أشخاص يُشتبه بأمرهم في عمليات فساد وما شابه كانت تمتنع بذريعة "السرية المصرفية" التي باتت شمّاعة جاهزة على الرف للتغطية على قضايا عدّة. 

ولا شك أنّ رفع السرية المصرفية لطالما كانت مطلبًا لبعض القوى على رأسها حزب الله الذي طالب مرارًا وتكرارًا بضرورة رفع هذه السرية كمنطلق لمكافحة الفساد. إلا أنّ هذا المطلب لطالما جرى التهرب منه من قبل قوى نافذة الى أن بات شرطًا من شروط "صندوق النقد الدولي" ما مهّد الطريق أمام إقراره. وعلى قاعدة "كل شي فرنجي برنجي" أقرّ مجلس النواب قبل أيام مشروع القانون المعجّل المكرر والرامي الى تعديل بعض مواد قانون رفع السرية المصرفية، وذلك بهدف تحفيز النمو وتوفير فرص العمل ووضع لبنان على سكة التعافي والنهوض، وفق ما أوضحت فقرة الأسباب الموجبة المرفقة بمشروع القانون. 

فماذا يعني رفع "السرية المصرفية"؟ وما أهمية هذه الخطوة في مكافحة الفساد؟.   

ما هي "السرية المصرفية"؟

قبل الغوص في أهمية رفع "السرية المصرفية"، يُقدّم الخبير الدستوري والقانوني الدكتور عادل يمين قراءة قانونية لمفهوم "السرية المصرفية"، فيوضح أنّها نظام تم اعتماده منذ الخمسينيات في لبنان بموجب قانون "السرية المصرفية" وبهدف تحفيز العرب والأجانب واللبنانيين على وضع إيداعاتهم وودائعهم في المصارف اللبنانية ما يُسهم في تعزيزها بالعملات سواء الأجنبية أو المحلية. وبموجب هذا القانون، لا يجوز لأي كان من العاملين في المصارف ومديريها وموظفيها -وكل من وردت لديه أية معلومة حول حسابات العميل المصرفي- أن يفشيها لأي كان حتى بأمر من المراجع الإدارية والقضائية الا في حالات استثنائية وضيّقة جدًا. 

رفع "السرية المصرفية".. فرصة إصلاحية، فهل يقتنصها لبنان؟

وفي حديث لموقع "العهد" الإخباري، يشدّد يمين على أنّ "هذا القانون شكّل في بعض الأحيان عائقًا أمام مكافحة الفساد والتهرب الضريبي لأنّ الإدارة المعنية والقضاء المعني لا يكون بإمكانه -بموجب القانون وفي معظم الحالات- تعقُّب المرتكبين أو المشتبه بهم لأنّ التعقُّب يصطدم بقانون "السرية المصرفية"، في حين أن كشف الحسابات أمام القضاء أو الإدارة المعنية كان من شأنه أن يعطي صورة أوضح حول احتمالات التهرب الضريبي أو الإثراء غير المشروع أو أعمال الفساد.

ويلفت يمين الى أنّه حصلت محاولات بموجب قوانين تتعلّق بمكافحة تبييض الأموال والإثراء غير المشروع للحد من وطأة قانون "السرية المصرفية" وتوسيع الحالات التي من شأنها رفع هذه السرية، ولكنها لم تكن كافية، لذلك جاءت المحاولة الأخيرة لتوسيع الحالات والمراجع القادرة على رفع "السرية المصرفية" في دعاوى الفساد والتهرب الضريبي والإثراء غير المشروع وسواها، الأمر الذي يفترض أن يعزّز احتمالات وحظوظ مكافحة الجرائم المالية المتصلة على الأخص بالمال العام. 

فضل الله: خطوة إصلاحية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

يتوسّع رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله في الحديث عن التداعيات السلبية للسرية المصرفية. يشير بداية الى أنّ ما أقر في الجلسة التشريعية يشكّل خطوة إصلاحية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن في الحدود المُمكنة. بتقديره، يجب الذهاب أبعد من ذلك، لكن ما حصل هو الممكن في الظروف القائمة. هي خطوة إصلاحية لا لأنّها كانت مطلبًا لصندوق النقد، لكنها خطوة إصلاحية فرضتها الأزمة ونوعية الحلول المطلوبة. وفق فضل الله، كان يجب أن يتم التفكير برفع السرية قبل الأزمة لأنها وبشكلها الراهن -أي قبل التعديلات التي طرحت- شكّلت عائقًا وسببًا للأزمة على أكثر من صعيد: 

-على الصعيد الإداري ومكافحة الفساد؛ حيث حوّلت "السرية المصرفية" القطاع المصرفي اللبناني الى بؤرة لتبييض الأموال في حدود كبيرة واستقطاب الأموال غير معروفة وواضحة المصادر، واستقطاب شكل من أشكال المال السياسي المرتبط بأزمات المنطقة وبالفساد الموجود في دول وأنظمة أخرى. 

رفع "السرية المصرفية".. فرصة إصلاحية، فهل يقتنصها لبنان؟

- على صعيد وظيفة القطاع المصرفي؛ حيث أعادت "السرية" تشكيل هذه الوظيفة، وبدل أن يكون هذا القطاع وسيطًا في استقطاب الأموال لتمويل الاقتصاد ورفع معدلات النمو وتمويل الاستثمارات، بحثت رؤوس الأموال المُستقطبة عن ملاذات آمنة لتبييض الأموال والتهرب الضريبي وما الى هنالك من طرق للفساد.

-على الصعيد الاقتصادي، أدى اجتذاب الأموال بهذه الكثافة الى إعاقة الاقتصاد لأنّ هذه الأموال غير مستقرة وجاءت بهدف البحث عن ملاذات آمنة، فهي وإن كانت تأتي بدفق قوي لكنها تذهب دفعة واحدة وهي في هذا السياق وكما ذكرنا ليست أموالًا لدعم الإنتاج. وفق فضل الله، فإنّ اجتذاب الأموال بهذه الكثافة أدى الى إعاقة الاقتصاد ورفع الأسعار والتسبب بما نسميه بظاهرة "المرض الهولندي" حيث إن استقطاب الأموال يؤدي الى ارتفاع أسعار العقارات والسلع غير القابلة للتبادل الدولي والتضخم وهذا أعاق الاقتصاد، والدليل أننا استقطبنا بين عامي 2007-2010 كمية هائلة من الأموال ما أحدث نموًا مؤقتًا وقصير الأمد على حساب تنافسية الاقتصاد وقدرته على النمو الفعلي طويل الأمد. وفق فضل الله، صحيح أننا أنجزنا نموًا لكن زاد استيرادنا وقلّت صادراتنا وبات لدينا عجز في الميزان التجاري. وعليه، يرفض رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق نظرية التذرع بأن "السرية المصرفية" تجعل لبنان مركزًا للأموال، لأنّ هذا النوع من المال لا يسهم بالتنمية. 

ازدواجية في التطبيق 

وفي خضم حديثه لموقعنا، يشير فضل الله الى ازدواجية المعايير في التعاطي مع قضية "السرية المصرفية". يلفت الى أنّ هذه "السرية" في لبنان كانت مرفوعة، ولكن أمام الغير فكل من يحمل الجنسية الأميركية كان حسابه مكشوفًا أمام الإدارة الضريبية الأميركية. كما فرضت قوانين الإرهاب الأميركية على القطاع المصرفي رفع سريته بما نعلم وبما لا نعلم، لتبقى "السرية" حصرًا أمام القضاء اللبناني والدولة اللبنانية. 

أبرز التعديلات 

ويلفت فضل الله الى أبرز التعديلات التي أقرّت في الجلسة التشريعية، بحيث جرى توسعة مروحة الجهات التي يحق لها طلب رفع السرية المصرفية، ونصّت المادة السابعة الجديدة على أنه لا يجوز للمصارف التذرع بالسرية المصرفية وعليها أن تقدّم جميع المعلومات المطلوبة في حال تلقيها طلبًا من السلطات القضائية، هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والسلطات الضريبية (..). 

ووفق فضل الله، كان هناك نقاش حول نقطة مهمّة كان لكتلة الوفاء للمقاومة دور في البت بها، ففي المسودة الأساسية للقانون كان هناك ما يسمى بـ" فتح الحسابات المرقمة وتأجير الصناديق المرمزة". أحدهم طرح أن لا يكون هناك حظر شامل في هذه النقطة وأن يُسمح بهذا الأمر بشروط معينة، لكن الكتلة أصرّت على الحظر ونجحت في البت به لأن الحسابات المرقمة والصناديق المرمزة هي الوصفة السحرية لتبييض الأموال والتهرب الضريبي.

كما جرى التشدد بالعقوبات بعد أن كانت بسيطة في القانون السابق رغم أن المبلغ حاليًا ليس كبيرًا. وبحسب المادة الثامنة الجديدة، تتراوح الغرامة ما بين 50 الى 500 مليون ليرة، كما أدرج السجن كعقوبة. 

لا داعيَ لـ"السرية المصرفية"

وفي ختام مقاربته، يشّدد فضل الله على أنّه لا داعيَ لـ"السرية المصرفية" أبدًا ليس من باب مكافحة الفساد فقط. طبعًا مكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي وتمويل الإرهاب كلها جرائم ينبغي مكافحتها لكن يجب الذهاب أبعد من ذلك. لا داعيَ للسرية لأننا اذا أردنا أن نعيد بناء النظام المصرفي اللبناني على قواعد جديدة ومنتجة وتمول الاقتصاد فإننا بحاجة لنوعية جديدة من الأموال يكون لديها أهداف اقتصادية واضحة. لا نريد  للقطاع المصرفي اللبناني أن يكون ملاذًا آمنًا للأموال "الهائمة" في العالم والباحثة عن التهرب الضريبي وتبييض الأموال. لسنا بحاجة لذلك، بل نريد قطاعًا مصرفيًا -حتى ولو كان صغير أو متوسط الحجم- ينعكس على الاقتصاد، وبدل أن يكون حجمه 250 مليار دولار كما كان حجمه الاسمي، يكفي أن يكون 50 مليار دولار لكن منتجًا.

 عجاقة: رفع السرية غير مفيد

يبدو أن للخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة رأيًا مختلفًا. أنا من الأشخاص الذين يعارضون رفع "السرية المصرفية"، يقول عجاقة، الذي يلفت الى أنّه وقبل تعديل قانون "السرية المصرفية" ثمّة آلية لمكافحة الفساد. هذه الآلية تتولاها حُكمًا هيئة التحقيق الخاصة، وقد أعطى القانون 44/2015 صلاحية مطلقة لهذه الهيئة لمكافحة الفساد والتهرب الضريبي. المادة الأولى منه عرّفت مجموعة النشاطات التي توصل الى الأموال غير المشروعة، وبالتالي فإنّ هذه الهيئة قادرة على تجميد الأموال المشتبه فيها في لبنان وخارجه عملًا بمعاهدة مكافحة الفساد التي وقّع عليها لبنان في 22 نيسان 2009. 

رفع "السرية المصرفية".. فرصة إصلاحية، فهل يقتنصها لبنان؟

يقول عجاقة ما تقدّم ليخلص الى أنّ الآلية كانت موجودة لكنّ الرغبة بمكافحة الفساد غير موجودة، ورفع "السرية المصرفية" كانت شمّاعة، فلو أرادوا مكافحة الفساد لفعلوا، فالقانون المذكور سلاح فتّاك ضد الفاسدين، لكنهم لا يريدون.  

ويلفت عجاقة الى معارضته لرفع "السرية" انطلاقًا من فكرة أنّ رفع السرية "يفرمل" وضع رؤوس الأموال في المصارف وهذا يؤذي الاقتصاد. وفق قناعاته، فإنّ الأموال التي يجري وضعها في البنوك تذهب الى الاقتصاد، واليوم لا أحد يضع أمواله بسبب غياب الثبات السياسي والأمني وتهم الفساد المتبادلة. أما سابقًا، فمنذ زمن النكبة وحتى السنوات القليلة الماضية وضع مغتربون وعرب وأجانب الأموال في المصارف اللبنانية طمعًا بـ"السرية المصرفية" ما يعني أهمية بقائها، يختم عجاقة.
 

مصرف لبنانالسرية المصرفيةالمصارف

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة