خاص العهد
عن أيدينا التي "وصلَت" إليهم
حسين خازم
لم يكُن يوم الجمعة، الثّامن من آذار عام ١٩٨٥، يومًا عاديًا في الضاحية الجنوبيّة لبيروت ولا عابرًا فيها، بل عبر بدماء المئات من الأبرياء الذين توزّعوا بين شهيدٍ وجريح على قارعة الطّريق في محلة "بئر العبد". شملَت حصّادة الأرواح التي زُرعَت هناك الجميع، لم تفّرق بين صغيرٍ أو كبير، ذكرٍ أو أُنثى، حتّى الأجنّة في أرحام الأمهات، كان المطلوب هو الإرهاب ردًا على "إرهابٍ" طردَ أمريكا ومن معها قبل سنةٍ من لُبنان.
سُرعان ما كان ردّ المقاومة الإسلاميّة مدويًا عند سهل الخيام، حين اقتحم عامر كلاكش (أبو زينب) بسيّارة مفخخة قافلةً للاحتلال عند سهل الخيام، فاختلطت أشلاؤه بتراب الجنوب، لتثأر من اليهود الصهاينة بعد يومين من الجريمة، ولكن..
في مكانٍ آخر، وفي تلك الأيام التي تلت المجزرة مباشرةً، اتُّخذَ القرار بالثأر لضحايا لم يكن أبسطهم الجنين الشّهيد المرميّ على الرصيف، ولم يكن ذلك ثأرًا على أساس غريزة الانتقام، بل بتر ذراعٍ لطالما عبثت بأرواح الآمنين، كلُّ ذلك كان ببركة النيّة الصّادقة والعمل الجاد لما عُرف لاحقًا باسم "التعبئة الأمنية لحزب الله".
أوراقٌ تتساقط وأسماء تتهاوى في شِباك العدالة، واحدًا تلو آخر، وذلك تحت مظلّة تعاونٍ من بعض المُخلصين لله والأمّة ولشهداء المجزرة. اعترافاتٌ وُثقَت بالصّوت والصّورة لمجرمين امتلكوا من الغشاوة على قلوبهم ما يخوّلهم أن يكونوا على عداءٍ مُطلق مع الله والإسلام والمسلمين.
سارَ التحقيقُ بهدوء ودقّة، فُصلَ المتّهمون عن بعضهم بعضا منذ بداية اعتقال كل واحدٍ منهم وحتّى إتمام التحقيقات التي كانَت على درجةٍ عالية من الاحتراف والإتقان والتي وصلت إلى تفاصيل دقيقة تمّ عرضها مع معلوماتٍ متوفرة مع جهاز التعبئة الأمنيّة، إضافةً إلى تمثيلٍ ميداني أجراهُ المتهمون، فردًا فردًا، شملَ أدوارهم وأكّد تورطهم بالجريمة وما قبلها من جرائم، وإفادات أدلى بها شهودٌ استفاد الجهاز الأمني منهم.
السّيارةُ المفخخة من نوع بيك ـ أب، فُخخت بمئة كيلوغرام من مادة الهيكسوجين الحارقة شديدة الانفجار. كان المطلوب أن يكون المشهد دمويًا إلى ذلك الحدّ، وفقًا لما أطلقه رونالد ريغان من حربٍ على المسلمين اللبنانيين الذين أذلوا دولته عام ١٩٨٣، وما زالوا.
وفي مسار الاعترافات، بدأت تتكشّف خيوط جرائم أخرى، ضلعت بها خلية المعتقلين الـ ١١، إضافةً إلى آخرين بقيت أسماؤهم طيّ الكتمان حتّى يوم صدرَت نتائج التحقيق والحكم إرهابٌ بالجُملة، وزّعته خليّة الإرهاب الأمريكي - الاسرائيلي - الكتائبي وامتدّ من طرابلس إلى بيروت العاصمة وضاحيتها الجنوبيّة، ولم تميّز هداياهم المفخخة بين السنّي والشّيعي والدّرزي، وللفلسطيني بطبيعة الحال نصيبٌ من الحقد الذي زُرعَ انتقامًا من إرادةٍ أصرّت على المقاومة في وجه أمريكا، جاءت نتيجته ٢٧٧ قُتلوا و ١١١١ جريحا و خسائر ماديّة قُدّرَت بملايين الليرات.
لم يهدأ حزبُ الله، لاحقَ بعض المتورّطين حتّى حصونهم داخل الشّريط المحتل، قُتلوا خلال عمليّات للمقاومة الإسلاميّة أُعلن بعدها أن هؤلاء كانوا على صلة بمسؤول الخلية "م. ز." وببعض أعضائها مثل "ع. ح."، وأُعلن عن أدوارهم كذلك. الحزام الأمني الاسرائيلي احتضن هؤلاء القتَلة الذين لجأوا إليه ظنًا أنهم في أمان من حزب الله الذي أتاهُم بالبنادق والرّصاص.
مشاهدُ إنسانية رافقَت التحقيق، بعضها مع مجموعاتٍ قدّمت خدماتها لحزب الله دون مقابل، فقط مقابل العدالة، وبعضها تجلّت حين سمعَت جريحةٌ من الانفجار، مبتورة القدمين أن الحزب في صدد الإفراج عن بعض المتهمين الذين لم تثبت إدانتهم، جرّت نفسها إلى أحد العلماء مطالبةً بحقها أن يُعيد الحزب قدميها المبتورتين في حال أُفرجَ عن متورطين، ولكن من قصدته طمأنها بأن الحزب "لن يفعل كغيره" وسينالُ كل مجرمٍ القصاص العادل، بومضة سيفٍ محمّدي، كانت عيناهُ تحمل لهيب الثّورة والثأر بلمعانهما أثناء التحقيق مع المجرمين، هوَ الذي لهُ في كل حكاياتنا زرعٌ وحصاد، حاملُ راية ثأرنا في كلّ حين، عماد مغنيّة.