خاص العهد
انتفاضة الجزيرة العربية: توهّجٌ رغم الطغيان والشطط
لطيفة الحسيني
لم يكونوا قلّة لكن ظلم السلطة طغى. في القطيف والأحساء، جوْر ثابت مع تعاقب ملوك وأمراء آل سعود على حكم الجزيرة العربية. 2011، مفصل الحراك في المنطقة الشرقية. أهل البلد يهبّون كي يرفعوا غبنًا مستشريًا، ويحقّقوا عيشًا كريمًا، مساواةً مفقودة، حرية مسلوبة وعدالة ضائعة. أجهزة النظام تُقابلهم بضيْمٍ أشدّ وتعسّف أقسى.
وكأنّ قدر أبناء القطيف والأحساء الزنازين والقبور. أحوالهم تحاصرها المشقّات والحرمان، ولا يبدو أن انفراجها وشيك. معركة إنصافهم تتطلّب وقتًا وإصرارًا لا يخبوان.
في شارع الثورة وسط القطيف، خرج مئات الأحرار سلميًا رافضين التمييز الطائفي الذي تنتهجه السلطة، وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين ولا سيّما المنسيين المُحتجزين منذ عام 1996. الهدوء استُقبل بالاستنفار العسكري الذي سرعان ما بدأ يتضاعف، مع كلّ مظاهرة تشهدها مناطق المحافظة، الى أن راح الشهداء يتساقطون تباعًا والمُعتقلون يُوزّعون على السجون.
بعد انقضاء كلّ هذه الأعوام، أضحى البحث عن مسيرة واحدة حُلمًا. لا وجود لأية احتجاج شعبي. أهل الجزيرة العربية على الرغم من معرفتهم بخطورة الخطوة وتداعياتها على حياتهم، إلّا أنهم يحفظون غضبهم، سخطهم، نقمتهم لأجل مسمّى، فما هو الثابت والمتغيّر في عمر الحراك الشعبي وكيف يستمرّ؟
عضو لقاء المعارضة في الجزيرة العربية الشيخ جاسم المحمد علي يُقارب في حديث لموقع "العهد الإخباري" ما أنجزته انتفاضة القطيف والأحساء بعد مضيّ 11 سنة على انطلاقتها.
تحوّلات بنيوية ضخمة في الساحة السعودية
برأيه، تشريح مساحات الهبّة مرتبط بتطوّرات الواقع السياسي الدراماتيكية والمتسارعة، وعليه يمكن القول إن الساحة السعودية في العشر السنوات الأخيرة دخلت في تحوّلات بنيوية ضخمة وكبيرة، أخرجت بعض العناصر من دائرة القوّة إلى دائرة الضعف والتهديد، حتى بات بعض المقربين من دوائر الأمن القومي يطرح سؤالا عريضا: "هل حان سؤال انهيار المملكة؟" كما صار آخرون مثل جون حنا، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي الأسبق يسأل "هل ستقدم الولايات المتحدة المساعدة إذا بدأت السعودية بالتفكّك؟". هذا السؤال حضر في الدوائر الأمريكية المقربة من النظام السعودي عام 2015، مع اعتلاء الملك سلمان العرش السلطوي، أي عندما كانت مؤشرات الانهيار لدى القارئ للمشهد السعودي تعيش بدايتها البسيطة.
الاعتراضات الشعبية بارزة الكترونيًا
يشير المحمد الى أن "الحراك الشعبي عندما انبعثت موجته في المنطقة الشرقية، كان المكوّن الاجتماعي المتصدّر للمشهد الاحتجاجي، هو المكون الشيعي، لأنه يعاني منذ نشأة السلطة السعودية من السياستيْن التمييزية والطائفية اللتيْن كانتا الوسيلتيْن الأساسيتيْن للظلم والقهر والاستبداد، فجاءت التطورات الثورية الجارية في المنطقة لتصنع من الأزمات المتراكمة التي يعيشها المجتمع الداخلي مقدحًا فجّر الزلزال الشعبي الكبير في المنطقة الشرقية. لكن الأوضاع والظروف في هذه المرحلة وسّعت من نطاق الاحتجاج الشعبي على السياسات الجائرة لتشمل الكثير من المكونات المجتمعية.
يُدرك المحمد جيّدًا أن "هذه الاعتراضات الشعبية قد لا تكون ظاهرة في المسيرات الجماهيرية، بسبب القمع الأمني الشرس الذي لاقاه كل من رفع صوته عاليًا بالمطالبة بحقوقه وحرياته وكرامته"، لكنه يجزم بأنها "بارزة في قنوات التواصل الاجتماعي، حتى أن بعضهم يؤكد أن المملكة تعيش ثورة الكترونية مُنقطعة النظير".
الظلم ثابت
بحسب عضو لقاء المعارضة في الجزيرة العربية، الثابت في كلّ هذه السنوات هو ظلم النظام السعودي وقمعه واستبداده والديكتاتورية التي تعمل مكثّفًا على إسكات الحناجر الحرّة، والأقلام النقدية المتميزة، لأنه نظام وراثي أسري، يعتقد بأن المجتمع بكل ما فيه من بشر وموارد وإمكانات هي ملك مُطلق له، خاضعة لمنطق الاستعباد القائم على علاقة السيد بعبيده، ولا يقبل بأدنى هامش للحرية السياسية والاجتماعية.
على الرغم من هذا الوضع المتدهور، يتوقّف المحمد عند ما هو متغّير، فيقول إن "رقعة الاحتجاج الشعبي، التي بدأت خفيفة، اتسعت في الفترة الأخيرة وتزايدت، حتى بات عدد المعارضين في الخارج ضخمًا وكبيرًا، إلى جانب الاستياء الداخلي من سياسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والدينية".
معركة كرامة
من وجهة نظر المحمد، "المعركة مع النظام السعودي لا ترتبط بالقضايا الهامشية أو بتحديد نسق الخيارات السياسية أو من أجل استرداد الحقوق الاقتصادية، بل هي قائمة على قيم جوهرية في حياة الإنسان، وتشكّل هوية حقيقية له. هي معركة العزة والوعي والكرامة التي هي من حقوق الله على الإنسان".
ويضيف المحمد في حديثه لـ"العهد": "من حقوق الله ألّا نكون أذلّاء، ولا مُهانين، ولا ظالمين لبعضنا بعضًا... هذه الحقوق مُقدّسة، ليس للإنسان أن يتنازل عنها، او يتخلص منها، لأن الله يأبى لنا أن نكون مستسملين ومستعبَدين".
المعركة الشعبية مستمرة. الأمر محسوم بالنسبة للشيخ جاسم، وذلك حتى تستردّ الناس كرامتها وعزّتها وحريّتها، وتكون الدولة هي الإطار الناظم الذي يحفظ هذه الخصوصيات، ويحقق المصالح ويدرأ المفاسد.
المواجهة مع النظام الظالم
ولأنّ فعاليات إحياء ذكرى انتفاضة القطيف والأحساء تجري تحت عنوان "نداء الكرامة"، يُبيّن المحمد لـ"العهد" أن "النداء الذي احتضنه الشعار هو تأكيد أنه لم يكن نداءً موجّهًا ومُصطنعًا، بل يُعبّر عن استجابة الناس العفوية والتلقائية مع خطاب الصحوة الإسلامية المعاصرة الذي غمر المنطقة وحرّك مجتمعاتها نحو العزة والحرية والاستقلال، لأنه ينسجم مع ذاتها وهويّتها وتطلّعها لدولة الكرامة والعدالة، فالحراك كان صورة معبّرة بشكل أمين وصادق عن حاجة الناس إلى الاصلاح والتغيير لمنظومتها السياسية القائمة"، ويتابع أن "الكرامة هي الصدى الأبرز حضورًا في حركة الجماهير وشعاراتها، لذلك كانت حركة الشيخ الشهيد نمر باقر النمر الذي يمثل روح الحراك وقلبه النابض تدور حول محور الكرامة تنظيرًا وتأسيسًا وتفعيلًا".
المسؤولية تقتضي اذًا الاستمرار في ساحة المواجهة مع النظام الظالم إلى أن نظفر بالكرامة الشعبية بصورة تامة وكاملة، هكذا يختصر المحمد جوهر الحراك المتواصل.
ديمومة الحراك حتى الظفر
أمام الواقع الصعب داخل المملكة، ما الحافز للصمود ومتابعة المسير؟ يُجيب محدّثنا "لا یمكن لأيّ حراك ثوري أن يقف عند مرحلة مُعيّنة، بسبب عدم تحقق أهدافه الكبرى، لأن تحقيق الأهداف في ساحة الصراع مع الظلم والطغيان ليس له مَدَيات زمنية محددة، بل يحتاج إلى الاستمرار والديمومة والمراكمة إلى أن يظفر بغاياته وقيمه، خصوصًا في الثورات الجماهيرية والمجتمعية، كما يقول الإمام الخامنئي إن الحراك الجماهيري قد يتأخر في الوصول إلى نصره النهائي، لكنه هو الأصل والأساس في عملية النضال والتغيير والمواجهة، لأن الحركة الجماهيرية في مواجهتها لسياسات الجور، تعني أن كل فرد منها يشعر بانتمائه إلى المشروع الثوري، ويحرص بكل وجوده على نجاحه وانتصاره، ويمتد هذا الحسّ إلى ما بعد الانتصار، إذ يعني أن المجتمع بكل مكوّناته سيدخل في إعادة البناء والتأسيس لواقعه المجتمعي والسياسي.
الوعي والنضوج لدى الشعب
وفق المحمد، الحركة الجماهيرية في صراعها مع ساحة الاستبداد والقهر والديكتاتورية ستمرّ اذًا بمراحل متنوّعة ومتعدّدة ومعقّدة، الأمر الذي يعني أن المكوّنات الشعبية ستتدفّق في مصنع الوعي والتجربة والنضوج، وهذا هو الضمانة الأساسية لتحقيق قدرة المجتمع على إدارة تجربته السياسية والنضالية تحت عناوين الحرية والاستقلال والسيادة.
الثورة متوهّجة
ينبّه المحمد في الوقت نفسه الى عدم جواز محاكمة أيّة تجربة ثورية في مستوى وصولها إلى الأهداف وهي ما زالت متوهّجة لم تعلن التوقف والانسحاب، فالانتفاضة في الجزيرة العربية لم تضع أوزارها بعد، ولا زالت حاضرة، ولديها الكثير من الوقت حتى تُراكم طاقاتها وإمكاناتها على سبيل الوصول إلى الغايات.
السلطة لا تُبادر الى علاج جذري
ماذا عن الإفراجات المتواترة مؤخرًا داخل المملكة، هل يمكن اعتبارها إشارة إيجابية على صعيد ملفّ المعتقلين؟ يوضح المحمد هنا أن "الإفراجات الأخيرة بالقياس إلى عدد المعتقلين لا تُعتبر واسعة وكبيرة، كما أنها لم تكن وفق خطة سياسية تهدف إلى تحسين الأوضاع السياسية والحقوقية، بل جاءت بعد انتهاء محكومية الكثير منهم، والنظام السلطوي في السعودية لا زال لا يعترف بضرورة تغيير الأوضاع الشعبية، ويتعامل مع هذه الإفراجات من موقع الاستمرار في الامساك بمفاصل القوّة والسيطرة في المجتمع".
كما يشرح أنه "في الكثير من الأحيان يُفرج عن أعدادٍ وتُعتقل أخرى وفقًا لمؤشرات داخلية واقليمية تستدعي تدوير الملفات والأوراق، من دون أن تقترب من عملية الإصلاح البنيوية للسياسة والاجتماع".
بناءً على ما سلف، يرى المحمد أن "من يفهم تركيبة السلطة السعودية وعقليّتها الأمنية والسياسية، يعرف أنها لا يمكن أن تُبادر من تلقاء ذاتها في العلاج الجذري للمشكلات، لذلك من يريد جديًا أن يعيش العزّة والكرامة والإنسانية في ساحة الجزيرة العربية، لا يمكن له أن يقبل بوجود هذا النظام واستمراره، لأنه نظام يأبى التنازل عن شبرٍ واحد من هيمنته وملكيته المطلقة، ويرفض المشاركة الشعبية في صياغة القرار ورسم الاستراتيجيات".
التغيير من الشعب
التعويل اذًا على الرغبة الشعبية في التغيير. هنا يخلص المحمد الى أن "على من يعتقد بمنهج الواقعية ومنطق الأشياء في فهم الأمور بشكل صادق وموضوعي، أن "يشمّر" عن ساعديْه لمواجهة النظام الملكي والوراثي، ويعمل على تبديله، وإلّا سيبقى يدور في فلكه من دون تطوّر وتقدم".
القطيفالجزيرة العربيةتجمع المعارضة في الجزيرة العربية