معركة أولي البأس

خاص العهد

التعلم عن بعد خيار الضرورة.. فهل يعود؟
03/12/2021

التعلم عن بعد خيار الضرورة.. فهل يعود؟

فاطمة سلامة

رغم حداثة استخدام مصطلح التعلم عن بعد إلا أنّ هذا المنهج ليس جديدًا. خوض غمار هذه التجربة يعود لعقود مضت وإن لم يكن بالشكل الذي يبدو عليه اليوم. أولى بوادر التعلم عن بعد ظهرت على هيئة التعلم بالمراسلة بعدما تطورت الخدمات البريدية فبانت ملامحه لأول مرة في جامعة بوسطن عام 1728، وقد قام هذا النوع من التعلم عن بعد على المراسلات المطبوعة وسط غياب التفاعل بين الطلبة والمؤسسة. عقب ذلك ساهم أول بث إذاعي عام 1901 في استخدامه لأغراض التدريب والتأهيل قبل أن يتم إنشاء الجامعة اللاسلكية عن بعد عام 1920.وساهم التطور الاتصالي والتكنولوجي في ظهور المؤتمرات السمعية عن بعد عام 1960 في جامعة ويسكونسن الأميركية باستخدام الهاتف. 

ويرى عدد من التربويين أنّه وعلى الرغم من ظهور التعلم عن بعد منذ أكثر من قرن ونصف، إلا أنّ هذا المنهج برز أكثر في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين نظرًا للتطور الهائل في التكنولوجيا والاتصالات وظهور الشبكة العنكبوتية ما جعل تجربة التعلم عن بعد تتوسّع وتتبلور أكثر في مطلع التسعينيات مع توافر وسائل الكترونية واتصالية ذات فعالية كبيرة تمكّن مجموعة من الدارسين من اكتساب المهارات والمعارف التي تقدّم عبر البرامج الدراسية بغض النظر عن أماكن تواجدهم. 

في عام 2019، كانت المرّة الأولى التي يخوض فيها لبنان تجربة التعلم عن بعد على مستوى الوطن. بطبيعة الحال التجربة لم تكن سهلة في بلد يعاني ما يعانيه من ضعف في الإمكانيات والوسائل. ولأنّ الحاجة تبرّر الوسيلة كان لا بد من اعتماد التعلم "أونلاين" بعدما بات النظام التربوي في لبنان أمام خيارين؛ إما التوقف الكلّي عن التدريس بسبب جائحة كورونا أو التعلم عن بعد. الخيار الأخير كان أهون الشرور مع ما ينطوي عليه من سلبيات رافقت العملية التعليمية.

طبعًا، لا يمكن إنكار إيجابيات هذا النمط التعليمي من توفير الوقت والجهد وإيصال أهداف العملية التعليمية قدر الإمكان، ولكن بطبيعة الحال فإنّ تحقيق هذه الإيجابيات يتفاوت بين مدرسة وأخرى، وفئة عمرية وأخرى، ومنزل وآخر، وبين بلد وآخر، فلا يمكن قياس تجربة لبنان مثلًا حيث الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي والإنترنت البطيء مع ما يصاحب ذلك من حرق "أعصاب" للأهالي بتجربة دول أخرى يعتبر فيها تأمين التغذية الكهربائية 24/24 من البديهيات، طبعًا بالإضافة الى التحديات التي واجهت الأهالي الذين وجدوا أنفسهم مضطرين للتواجد مع أبنائهم في المنازل، ومن لم يستطع منهم سجّل أولاده تراجعًا في المستوى التعليمي. 

وقد أعدّ حزب الله سابقًا ورقة عمل موسّعة بعد دراسة أُجريت لمناقشة قضيّة التعلم عن بعد. وفق الدراسة برزت لائحة كبيرة من التحدّيات لهذا النّوع من التعلّم في لبنان قاربت الـ25 تحدّياً وجميعها شكّلت عوائق في درب التعلّم "أونلاين"، منها على سبيل المثال عدم توافر البنية التحتيّة الكافية لهذا النمط التعليمي من انترنت وكهرباء وأجهزة كمبيوتر لحوالى مليون و150 ألف طالب، فضلًا عن التحديات التي واجهت الكادر التعليمي الذي لم يكن مؤهلًا كما يجب للتعامل مع هذا النمط التعليمي سواء على المستوى التقني أو الأسلوب. كما أنّ نجاح العملية التعليمية في "الأونلاين" يتوقّف على نوع الاختصاصات اذ ثمّة اختصاصات تتطلّب التطبيق المباشر كالطب وغيره من الميادين العلمية. أمّا عقبة المناهج التربوية المصمّمة الكترونيًا فكانت تحديًا لهذا المنهج التعليمي، فالمؤسسات التربوية لم تكن محضّرة مسبقًا لخوض هذه التجربة.  

اليوم ومع ارتفاع عداد الإصابات بفيروس كورونا ومنها في المدراس، تتسلّل فكرة "الأونلاين" من جديد. يُقال إنّ هناك إصابات عدّة في صفوف التلامذة بعضها لم يعلن عنه، وبعضها لم يتم اكتشافه أصلًا. ثمّة إصابات بلا عوارض في صفوف الأطفال من التلامذة. هذه الحالات هي أخطر ما يُسجّل نظرًا لنقلها العدوى لمن حولها بسهولة. وعليه، تعود التحديات لتلقي بثقلها على الواقع التعليمي الذي لم يلبث أن نهض من سنة من أصعب السنوات التعليمية وخاض تجربة "الأونلاين" بكل تعقيداتها وتحدياتها. تلك التحديات تزداد هذا العام بشكل كبير وسط شبه انعدام للتغذية الكهربائية وضعف الإنترنت والإمكانيات المطلوب توافرها لهذا النهج التعليمي.

الأزمة تفاقمت كثيرًا وباتت عشرة أضعاف عما كانت عليه العام الماضي

الحقيقة أعلاه يؤكّدها الأهالي الذين يشكون على الدوام ضعف الإنترنت وغياب الكهرباء، ويؤكّدها الكادر التعليمي الذي لا يرى ظروفًا مؤاتية لنهج التعلم عن بعد هذا العام. رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي نزيه جباوي يرى أنّ كل الوقائع أثبتت أنّ "الأونلاين" لم يكن ناجحًا لاعتبارات عديدة أولها عدم توفر الكهرباء والإنترنت "التعيس" جدًا. أما اليوم، فالأزمة تفاقمت كثيرًا وباتت عشرة أضعاف عما كانت عليه العام الماضي. وعليه، كيف سيتمكّن الطالب من الجلوس لثلاث ساعات والإنترنت غير متوفر عدا عن الأجهزة غير المتوفرة، وفي الوقت نفسه ثمّة إصابات في المدارس لا تقتصر على التلميذ بل ينقلها الى الأهل ما يجعل التعلم الحضوري في خطر. يعتبر جباوي أنّه اذا لم تتوفّر المستلزمات للتعلم "أونلاين" لن ينجح هذا الخيار، وهو يغوص في مشكلات الكادر التعليمي التي يجب أن تأخذها الدولة بعين الاعتبار وإلا لن يكون هنك حظوظ لا للتعلم الحضوري ولا "الأونلاين". 

حظوظ التعليم المدمج مرتفعة

ولا شك أنّ ظروف وإمكانيات التعلم عن بعد تفاوتت كما أسلفنا بين مدرسة وأخرى. الدكتور غالب العلي مدير مديريّة الإشراف التربوي في المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم - مدارس المهدي(ع) يرى في تجربة التعلم عن بعد العام الماضي تجربة لها ظروفها الخاصة كمشروع لا بديل له. وبناء على هذا الواقع، جهّزت الكوادر التعليمية لخوض غمار "الأونلاين" وكانت المستلزمات من كهرباء وإنترنت موجودة الى حد كبير، وعليه كانت ظروف تجربة "الأونلاين" مقبولة العام الماضي ما جعل الناتج التعليمي مقبولًا نسبةً الى المدارس المقفلة اذ كان ثمّة مكتسبات جيدة الى حد ما ولكن لا يمكن مقارنتها بمكتسبات التعلم الحضوري.

ويلفت العلي الى أنّ تجربة "الأونلاين" كانت كخيار ضرورة جرى اعتمادها العام الماضي، ولكن ظروف هذا العام مختلفة، فالتلامذة عادوا الى المدارس، ونحن ككادر تعليمي كنا نرتقب هذه اللحظة للاجتماع بالسياق الطبيعي الرسمي نظرًا لأن الناتج التعليمي الحضوري كان أفضل بكثير من "الأونلاين"، وعليه بدأنا بشكل فعلي في المدرسة لإكمال التعليم بشكل طبيعي ولردم الفجوة التي حصلت لدى التلامذة في مكتسباتهم ومهاراتهم ما جعل ارتياحا عاما يسود لدى كافة الأطراف التعليمية في الشهرين اللذين مرا من التعلم الحضوري الى أن بدأت الآن تلوح في الأفق فكرة الذهاب نحو تعليم مدمج أو تعليم عن بعد بالكامل. وهنا يستبعد العلي أن تذهب المؤسسات التعليمية الى خيار "الأونلاين" بالكامل لسببين أساسيين؛ أولًا؛  غياب القناعة للعودة اليه في ظل التجربة السابقة، وثانيًا عدم توفر مستلزمات هذه العودة من انترنت وكهرباء ما يحول دون عودة فكرة "الأونلاين" بالكامل، لترتفع حظوظ التعليم المدمج. 

في الخلاصة، لا يمكن وضع تقييم سلبي بحت لتجربة التعلم عن بعد في لبنان التي كانت لها سلبيات وإيجابيات تفاوتت بين مؤسسة تعليمية وأخرى. بمكان ما كانت فرصة لبعض المؤسسات التعليمية لتنهض وتفكّر وتغيّر من طابع الروتين المتعارف عليه للبحث عن أفكار ومبتكرات تحاكي حاجة التعلم عن بعد. لكن في المقابل،  لا يمكن تقييم تجربة التعلم عن بعد بمعزل عن البيئة المحيطة، ولبنان يتخبّط في سلسلة أزمات تمنع عنه الحاجات الأساسية البديهية، وهي للأسف تزداد اليوم ما يجعل ربما عملية التعلم عن بعد أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
 

التعلم عن بعد

إقرأ المزيد في: خاص العهد