معركة أولي البأس

خاص العهد

رحيل سماح إدريس عاشق لغتنا العربية وحارسها
26/11/2021

رحيل سماح إدريس عاشق لغتنا العربية وحارسها

فيصل الأشمر

" نعم، إنّ اللغة العربيّة، في زمنِ "الرِّدّة السياسيّة" وتفاقُمِ مشاعر الدونيّة الحضاريّة، لهي في حاجةٍ ماسّةٍ إلى "ناشطين" أو مناضلين لغويين. أوَليس الانحطاطُ اللغويّ، وفسادُ الألسن، جزءًا من الفساد العامّ الذي ينبغي أن نواجهَه، مثلما نواجه السرقةَ وهدْرَ المال العامّ؟" سماح إدريس.

لا يمكن إيفاء الراحل سماح إدريس حقه إذا اكتفينا بكتابة مقالة صغيرة عنه عاشقًا للغة العربية، "هواه الأول" كما وصفها في كلام له. لكن، من الواجب الحديث عنه، وإن باختصار، في يوم رحيله الحزين هذا، مشاركةً منا في الإضاءة على بعض سماح إدريس، بعضه اللغوي الأدبي فقط، لأن سماح إدريس كان أكثر من عاشق للغة العربية، فقد كان له عشق آخر هو فلسطين وقضايا الأمة.

والد سماح هو سهيل إدريس، مؤسس مجلة "الآداب" سنة 1953، التي أصبحت من أهم المجلات الأدبية والفكرية العربية، والتي تولى سماح رئاسة تحريرها بعد رحيل والده في العام 1992.

كان سهيل إدريس -أيضًا- روائيًا وقاصًّا وناقدًا ومترجمًا وأستاذًا جامعيًّا، وكانت "دار الآداب" التي أسسها في العام 1956 مقصد كثير من المثقفين العرب الذي لجؤوا "إلى دار الآداب لينشروا نتاجهم الذي لم يكونوا يستطيعون دائمًا أن ينشروه في بلادهم، وذلك بفضل ما تتمتع به بيروت من جوّ الحريات والابتعاد عن الرقابات الصارمة التي تفرضها كثير من السلطات العربية"، كما ورد في الموقع الإلكتروني للدار.
أما والدة سماح إدريس فهي الكاتبة والمترجمة عايدة مطرجي.

في هذه البيئة الأدبية الثقافية نشأ سماح، الذي درس الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، قبل توجهه للتخصص في اللغة العربيّة وآدابها، في الجامعة نفسها.

في العام 1985 سافر إلى نيويورك، حيث نال الدكتوراه من جامعة كولومبيا، متخصِّصًا في دراسات الشرق الأوسط، وكان عنوان رسالته: المثقف العربيّ والسلطة - بحثٌ في روايات التجرِبة الناصريّة.

ساهم سماح، خلال دراسته في الولايات المتحدة، في فترات الإجازة التي كان يقضيها في لبنان كل عام، في إعداد المعجم (المنهل العربيّ - العربيّ) الذي كان والده والدكتور صبحي الصالح يعملان على تأليفه. وانشغل في جانب من اهتماماته بموضوع قصص الأطفال، بعد أن عرف أن ابنتيه "لم تكونا تُحبّان القصصَ العربيّة، لأنّها في غالبيّتها وعظيّةٌ و"ناشفة،" مقارنةً بالقصص المكتوبة باللغتين الإنجليزيّة والفرنسيّة اللتيْن تتقنانِهما. وهذا شكّل تحدّيًا كبيرًا لي (...) هنا بدأتُ رحلةً مثيرةً، لمّا تنتهِ بعدُ، من أجل كتابة أدبٍ للأطفال، يسلّيهم، ويُمْتعُهم، ويتماهَوْن مع موضوعاتِه، ويستفيدون منه، من دون أن تكون هذه الإفادةُ تقليديّةً تعليميّةً مملّةً (...) وسنةً بعد سنة، تحوّلتْ قصصي القصيرةُ المصوَّرة، الموجَّهةُ إلى الأطفال، إلى رواياتٍ موجَّهةٍ إلى الفتيات والفتيان. وبات في جَعْبتي اليومَ خمسُ رواياتٍ للناشئة (...)، إضافةً إلى إحدى عشْرةَ قصّةً للأطفال". (من الكلمة التي ألقاها الراحل بمناسبة اليوم العالميّ للغة العربيّة، بدعوةٍ من كلّيّة التربية في جامعة العلوم والآداب اللبنانيّة USAL).

كان سماح من حراس اللغة العربية أصحاب الغيرة الكبيرة عليها، رأينا وقرأنا وسمعنا ذلك في مقابلاته وندواته ومقالاته، وفي ما كان يكتبه في صفحته على موقع فايسبوك، ورأينا لمساته أيضًا في ما كان يُنشر من مقالات الكتّاب في مجلة "الآداب" وموقعها الإلكتروني، ولا أنسى إصراره وتأكيده مرة على أن الشدّة يجب أن توضع في مكانها المناسب في الكلمة لأنها تشير إلى حرف منها.

في ورقة ألقيت في ندوة في معرض الشارقة للكتاب، بتاريخ 7/11/2017، تحدث سماح عن أزمة اللغة العربية، التي رأى أنها "جزءٌ من أزمتنا في هذا العالم، الذي نشكِّل فيه، نحن العربَ وشعوبَ العالم الثالث، طرفَه الأضعفَ على كلّ الصعد"، ونحن "لا نستطيعُ أن نتحدّث عن "أزمة اللغة العربيّة" في معزِلٍ عن تدمير حواضرِها الأساسيّة بفعل الحروب الخارجيّة والداخليّة"، مضيفًا أن من أسباب أزمة لغتنا أزمة قسمٍ من دارسيها والمهتمّين بها، منتقدًا الزاعمين تخلّفَ اللغة العربية التي "تطوّرتْ بشكلٍ كبير، واستطاعت استدخالَ مكوِّناتٍ جديدةٍ كثيرةٍ في حقول علوم التكنولوجيا والتواصل والاجتماع والنفس والفلسفة والنقد والفنّ والمسرح، بما يَنقض زعمَ الجُهّال أنّ العربيّة "عاجزةٌ عن مواكبة العصر"". ومن أسباب أزمة اللغة العربيّة أزمة بعضِ المربِّيات والمربّين "الذين يستعذبون التسلّطَ الأبويّ، في المدارس والثانويات، على أطفالنا وناشئتِنا، فينهَرونهم كلّما ارتكبوا "جريمةَ" التلفّظ بكلمةٍ "غريبة" أو يتوهّمون أنّها عامّيّة".

ولا يحيّد سماح إدريس الأهل فيتحدث عن دورهم في أزمة اللغة العربية، لا سيما الذين "يتحدّثون إلى أطفالهم بالإنجليزيّة أو الفرنسيّة، أو بخليطٍ مضطربٍ من اللغات، أو يتركونهم في رعاية عاملاتِ (...) غالبيّتَهنّ لا يتحدّثن العربيّةَ على الإطلاق". وهو لا يستثني الكتّاب من هذه الأزمة، لا سيما عند الكتابة للأطفال والبالغين، خاصةً عند استعمال الوعظ والكلمات العويصة حين الكتابة لهم.

أدب

إقرأ المزيد في: خاص العهد