خاص العهد
"العهد" يواصل نشر تفاصيل اختراق المقاومة الإسلامية لجهاز الأمن الصهيوني ـ الحلقة الثالثة
مالك يقود الجرّافة العملاقة ويساهم في كشف أسرار "الطشاش"(3)
تجاوز مالك آلة كشف الكذب بجدارة وعُيِّن "ضابطاً محركاً" في جهاز الاستخبارات (الـ504)، أحد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الأساسية العاملة في لبنان والمكلَّفة إدارة عمليات تجنيد الجواسيس.. ثم استُدعي بعد فترة قصيرة من قبل هذا الجهاز إلى دورة تدريبية سرية في فلسطين المحتلة .
لم يكن مالك يحلم يوماً برؤية فلسطين المحتلة، فكيف به يُرسَل بمهمة عسكرية سرية إلى المنطقة التي تمثّل نصف مساحتها "صحراء النقب"، تلك المنطقة المثلثة الشكل التي تمتد قاعدتها من غزة حتى البحر الميت شمالاً، وصولاً إلى رأسها عند خليج العقبة جنوباً..
مالك لم يعد موضع شبهة بالنسبة الى الاستخبارات الإسرائيلية فهو عميل يحمل رتبة متقدمة ويستحق التدرج في العمل داخل الميليشيات التابعة لـ"إسرائيل" في لبنان.
بدأت رحلته الاستكشافية الجديدة، فدخل الى فلسطين المحتلة من بوابة فاطمة - كفركلا.. ركب باصاً اسرائيلياً خاصاً أمضى فيه ثماني ساعات من الزمن قطع خلالها طريقاً طويلة خالية من المناظر الحية على الجانبين، إلا من بعض الرمال التي تلاحظ من حين الى آخر، وعند كل وقفة للاستراحة كان مالك يستمتع ببعض المشاهدات الخلابة لبحيرة طبريا، والبحر الميت من أوله الى آخره يمتد على الطريق الرئيسية المؤدية الى النقب.
كان "الباص" يسير على خط طولي، أدرك مالك أن هذا الخط يكاد يلامس الحدود الفلسطينية مع الأردن، حيث كانت الأعلام الأردنية ترفرف.
ما إن وصل إلى النقب حتى راح يتأمل تضاريسها المتعرجة التي تفاوتت أشكال سطحها ما بين الهضاب والسهول، أحسَّها قضباناً حديدية وهو سجينها، ولمح على صفحة رمالها ظلال المعتقلين الذين امتزجت آهاتهم بالرياح الساخنة.. كان يسمع نبضاتهم الموجوعة في معتقل قلَّ نظيره، معتقل "أنصار 3" ـ المعروف إسرائيلياً باسم "كيتسعوت" ـ الذي ضج العالم منه جرَّاء وسائل الإرهاب التي تعرَّض لها الفلسطينيون عند اعتقالهم بعد أشهر من انتفاضتهم الأولى.
اقشعر بدن مالك لتلك الذكرى، ولاحت له خيام المعتقلين تلفُّها الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة، يتحملون فيها قسوة الجلاد والتغييرات المناخية في آن. سارت القافلة وعيناه ترمقان تجمعات عسكرية إسرائيلية تحت تلك التلال المتجعدة في البقعة المسماة صحراء، يُخيِّم عليها منظرٌ لافت لآلياتٍ مدرَّعة ضخمة مكدَّسة ومتلاصقة بعضها قرب بعض.. وإذ بطلقات نارية تدوي في الفلاة، تحوم فوقها طائرات حربية في جوقة استعراضية، فيما فهم منه مالك أنه مناورة تدريبية.
أخيراً وصل إلى معسكر التدريب الخاص بفوج الهندسة الإسرائيلي.. كان المعسكر الذي تقدر مساحته بحوالى 50 ألف متر مربع محاطاً بحقول الرماية وحقول التدريب على قيادة ناقلات الجند، إضافة الى تجمعات عسكرية أخرى. والمعسكر الذي نزل فيه مالك هو عبارة عن ست عمارات متلاصقة، الواحدة منها مؤلفة من خمس طبقات، تلف قاعدتها الأزهار الملونة وترويها المياه عبر الأنابيب المنتشرة بكثافة، ليس فقط في معسكرات التدريب، وإنما في مختلف الأماكن التي شاهدها أثناء وجوده في صحراء النقب.
ما إن دخل مالك حتى سُلم مفتاح الغرفة التي سيقيم فيها طيلة الدورة.
الصباح في المعسكر سريع جداً.. يقول مالك: "كنت أستيقظ في الصباح وأقوم بالأعمال ذاتها التي يقوم بها عناصر الجيش الاسرائيلي من رياضة الى فطور، ومن ثم أذهب الى المحاضرة المرئية، حيث تُُعطى لنا الدروس على شاشة تلفزيون، وبعدها نأخذ استراحة قصيرة ثم نذهب إلى حقل التدريب على الآليات بشكل عملي.. وأذكر أن فتاتين اسرائيليتين تولّتا عملية تدريبنا.
كان ُيمنع الخروج من المعسكر، فأبقى يومياً من الساعة الثامنة صباحاً الى الثامنة مساءً على الوتيرة نفسها، من دروس مكثفة شفهية وتطبيقية تتخللها عدة استراحات".
خلال الدورة كان مالك لا يترك شاردة أو واردة تمر أمامه إلا ويتوقف عندها ليعرف ويتعلم ويدقق في كل ما يراه ويتلمسه، "تدربت على صيانة الجرافات وكيفية استعمالها، ولحسن حظي كان لي النصيب الأوفر في التدريب على الآلة التي بقيت لغزاً سنوات، وهي من الاجهزة المتطورة عسكرياً، فتعرفت بدقة الى ماهيتها وكيفية إصلاحها، وحتى نهاية الدورة كنت قد اكتشفت أسرارها ونقاط ضعفها.. انها الجرافة العسكرية العملاقة".
أنهى مالك دورته المكثفة بامتياز.. "بعد انتهائي من الدورة التي دامت شهراً تقريباً، منحونا إجازة مدة ثلاثة أيام في إيلات".
في إيلات
قام مالك وفتح خزانته الخشبية ليطال ألبوم الصور، ثم راح يقلِّبه بين يديه: "ها أنا في فلسطين وفي إيلات"، وأشار الى صورته..
"إيلات" كان اسمها "أم رشرش" قبل أن يحاول العدو الاسرائيلي طمس حضارتها العربية وتشويه ذاكرتها، لا ينسى مالك ميناءها الرائع الذي يبدو في الصور التي التُقطت له مع بعض الشخصيات الاسرائيلية.. كانت الرحلة ترفيهية هذه المرة، والمسافة من النقب الى إيلات لا تتجاوز ثلاثة أرباع الساعة بالسيارة.. "ركبنا الباخرة التي راحت تشق خليج العقبة، فشاهدت طابا والفندق الذي تُعقد فيه اجتماعات بعض ممثلي الدول العربية مع الإسرائيليين".
بعد الدورة
انتهت الدورة وفي جعبة مالك صيد جديد، عاد من صحراء النقب إلى جنوب لبنان والتحق بثكنة مرجعيون، "مقر قيادة فوج الهندسة الاسرائيلية التابعة لميليشيا العملاء"، وعُين فيها هذه المرة مسؤولاً مباشراً عن صيانة الآليات العسكرية الثقيلة.
عندما دخل مالك لأول مرة الى ثكنة مرجعيون بتوجيه من المقاومة الاسلامية كان يعمل تحت إمرة الاستخبارات الاسرائيلية مباشرة، مما سهل عليه الدخول الى الثكنة برتبة رقيب: "طلب مني الاخوة الدخول الى قيادة الجيش بثكنة مرجعيون، ومع دخولي بدأت أتنقل كعسكري بفوج الهندسة على كل المواقع العسكرية ضمن الفريق الذي يقوم بإكمالها وتحصينها وبناء مراكز جديدة, وشق وتغيير وفتح طرق لها في محاولة لتجنب العبوات الناسفة التي كانت تزرعها المقاومة على جميع الطرق العسكرية المؤدية إلى المواقع والمراكز الإسرائيلية.. وإلى جانب ذلك كان مالك مكلفاً بأعمال التجريف حول المواقع وعلى جوانب الطرق وسحب مخلفات الآليات والأسلحة.. يعلِّق مالك قائلاً: "لم يمنعني عملي في الهندسة من تنفيذ مهامي في الاستخبارات الاسرائيلية".
كان مالك يُطلع المقاومة الاسلامية على جميع المهمات التي يُكلف بها من جانب الميليشيات والاستخبارات الاسرائيلية..
"كنت أعمل جاهداً لأخرج قبل انتهاء دوام عملي من الثكنة حتى أتدارك أي أمرٍ طارىء وأبلغ عنه الإخوة قبل أن أخطو أي خطوة. في إحدى الليالي وبينما كنت في ثكنة مرجعيون، تلقينا برقية عاجلة عن احتراق دبابة في بلدة "حولا" جرَّاء هجوم للمقاومة الاسلامية، فاضطررت لأبلغ المقاومة من هاتفي الخاص، وهذا أمر نادر الحدوث.. المهم انني أبلغت الاخوة بأنني سأقوم بسحب الدبابة المحروقة حتى يأخذوا احتياطاتهم لأني سأكون في المكان المستهدف من قبلهم (المقاومة الاسلامية).
الطاس شيش*
تمكن مالك خلال فترة عمله في فوج الهندسة من الدخول إلى معظم المواقع التابعة للعدو وعملائه ورصدها من الداخل بدقة .في تلك الفترة كانت عمليات التسلل التي تقوم بها المقاومة الاسلامية إلى داخل المناطق اللبنانية المحتلة في أوجها، وكانت تقلق قيادة الجيش الإسرائيلي.. كما ان عمليات اقتحام المواقع الإسرائيلية ومواقع العملاء والسيطرة عليها كانت ترعب عناصر الميليشيات وتهز معنويات الجيش الاسرائيلي وأجهزته الأمنية.. من هنا كان العدو يسعى بشكل متواصل لجلب آخر الاجهزة المتطورة إلى جنوب لبنان بهدف الحد من عمليات التسلل والاقتحامات.
"بحكم حضوري شبه الدائم في المواقع لفت نظري جهاز يمكن ملاحظته دائماً في المواقع الأمامية كزمريا وكوكبا.. كان يدور ببطء وبشكل دائم.. عملت ما بوسعي للتعرف الى ماهيته.".
إنه جهاز المراقبة الليلية (طشاش)، وترجمتها من العبرية الى العربية تعني الرؤية السادسة، طوله لا يتجاوز 40 سم، وله شاشة, في أسفله قارورة غاز, ويعمل على الأشعة تحت الحمراء، ويتحرك على قاعدة, يقف العسكري خلفه ليلاً ليرصد تحركات المقاومين, فتظهر أشعة بيضاء عند أقل حركة يلتقطها هذا المنظار, إذ انه يعمل على حرارة الدم, ويمكنه تمييز الشيء المتحرك وتحديد ما إذا كان إنساناً أو حيواناً اذا كانت الرؤية جيدة.
"في ليلة ضبابية اقتربت من منظار الطشاش بعدما تركه جندي المراقبة شاغراً، وإذ بي أكتشف أنه لا يعمل، فالرؤية سيئة في الضباب الكثيف، وتأكدت أيضاً أن عمله يتوقف عند الفجر والغروب", وهي الأوقات التي تمر من دون رصد، فالطشاش لا يطالها وكذلك المنظار النهاري، من هنا كانت المقاومة تستفيد من الوقت الضائع للقيام بأعمالها.
الجرافة العملاقة*
إن تطور الأداء الميداني للمقاومة الإسلامية من تراكم خبرات مخططيها ومقاتليها، أدى إلى تركيزها على حرب العبوات الذكية التي أرهقت العدو الاسرائيلي وجعلته يعترف بأنه يخوض يومياً حرب أدمغة، من خلال التفوق الاستخباراتي للمقاومة الذي ساعد على تنفيذ عمليات أمنية في عمق ما سمي بالشريط المحتل، واستهداف مواكب كبار ضباط العدو وتعطيل عمليات قوات النخبة - الإيغوز - لديه، وعلى غرار ما حصل في مقتل غيرشتاين وأنصارية، حيث أبيدت قوة الكوماندوس المتسللة بأكملها تقريباً.
لمواجهة حرب العبوات استقدمت قوات الاحتلال جرافة عسكرية عملاقة متطورة، تستخدم ككاسحة للعبوات الناسفة.
دخلت الجرافة العملاقة لبنان عام 1997م، كانت تقوم بمهمة مسح المنطقة المشبوهة بالألغام والعبوات، ولفتح طرق المواقع التي تستهدفها المقاومة الإسلامية بعملياتها النوعية، ففي كل منطقة كان جيش الاحتلال يضع جرافة لأخذ الاحتياطات اللازمة.. وأكثر العدو من استعمالها في آخر أيامه كدرع واقٍ لجنوده من العبوات.
احتسى مالك القليل من الشاي وراح يصِف تلك الجرافة العملاقة: "تقوم الجرافة بنثر التراب بقوة لتنظيف الأرض من الألغام والعبوات، هي مصفحة تصل سماكة درعها الى حوالى 15سم من الفولاذ، ويجلس السائق في غرفة القيادة خلف سبع طبقات من الزجاج المضاد للرصاص, لا تؤثر فيها العبوات لحظة انفجارها.. كانت تستخدم أيضاً لتبديل العناصر، استعملت كحصن متحرك، تسَعُ في الحد الأدنى لحوالى خمسة جنود، و"هي أشبه بدشمة ماشية".
لم تكن أسرار الجرافة العملاقة بعيدة عن المقاومة الاسلامية، فمالك هو المسؤول عن صيانتها، فتعرّف الى نقاط ضعفها أثناء تدريبه على صيانتها في صحراء النقب.
سرح مالك بصور تمر في ذاكرته المكتنزة، وإذ به يأخذ نفساً عميقاً وفي فمه حكاية لا يمكنه نسيانها أبدا: "قبل حوالى أربعة أيام من الانسحاب انطلقت ثلاث دوريات من ثكنة مرجعيون، واحدة ذهبت الى قلعة الشقيف والثانية إلى الدبشة، وأنا كنت في المجموعة الأخيرة التي ذهبت لسحب مخلفات موقع طلوسة بعد أن أجهزت عليه المقاومة في عملية اقتحام كبيرة، ولسوء حظي حُكم عليّ أن أكون بالجرافة العملاقة المصفحة لسحب المركز.. أخبرت الإخوة في المقاومة الإسلامية بما أنا فيه، فأصروا عليَّ أن لا أذهب, ولكن ما في اليد حيلة، أُجبرت على الذهاب بعد أن نفدت كل حججي واستسلمت لمصيري، علماً بأن المقاومة كانت تخطط لضرب الجرافة وقتها، وكانت ترن في أذنيّ كلماتهم: "انتبه لا تذهب"، لأنهم سيضربون الجرافة في نقاط ضعفها لأول مرة.
أكملنا الى مركبا بانتظار الدورية التي سترافقنا، بقينا في مركبا ونحن داخل الجرافة العملاقة ننتظر من الساعة السابعة مساءً حتى العاشرة ليلاً، كان القلق يسيطر على مجموعة العناصر التي كانت معي، إلا ان مستوى توترهم كان يتراجع مع اقتراب موعد وصول دورية المرافقة.. أما أنا فكنت أحبس مشاعر القلق، وسرعان ما استسلمت للشهادة التي أدركت أنها باتت قريبة جداً مني. كنت أنتظر وحدي الموت الذي عرفت موعده قبل غيري، رحت أعد دقائقي العكسية الأخيرة لأسدل ستار الفصل الأخير من حياتي.
*الجرافة العملاقة :
ـ هي جرافة "بلدوزر" ثلاثية الحركة، وزنها 58 طناً، مصفحة بحوالى 6،5 أطنان من الحديد، اضافة الى تصفيح قمرة القيادة بسبع طبقات من الزجاج المضاد للرصاص .
ـ مزودة بنظام إطلاق قنابل دخانية بمعدل قنبلة كل 15 ثانية، يؤمن لها التغطية والتمويه.
ـ تستخدم هذه الآلية كاسحة ألغام، وكذلك لسحب الآليات وشق الطرق الوعرة وهدم المنازل.
*الطشاش ـ الرؤية السادسة :
ـ "الطشاش" هو عبارة عن منظار ليلي متطور، ذي عدسة كبيرة نسبياً بعين واحدة، يوضع على الساتر مثلاً للرصد، حيث ترسل الصورة سلكياً الى شاشة مشابهة لشاشة التلفاز باللونين الاسود والابيض، التي تنقل ما يشاهده الراصد بشكل مباشر فقط
ـ العدسة مثبتة على ركيزة طولها 40 سم تمكن الطشاش من الحركة في كل الاتجاهات (360 درجة)، وبالامكان تحريكها بشكل كهربائي.
ـ يتزود الطشاش بالطاقة عبر بطارية جافة وقارورة غاز صغيرة 25 سم قابلة للتعبئة، تكفي لعمل الجهاز مدة ساعة من الزمن، ويرافق الجهاز عادة 15شنطة تحوي كل منها ثلاث بطاريات وثلاث قوارير غاز و"شارج" كهربائي لتغذية البطاريات، حيث يشحن كل بطاريتين معاً. مسافة الرؤية في الاحوال العادية تصل من 3 الى 5 كلم، وتتقلص في الاحوال الجوية السيئة الى ما دون 500 متر، وقد تنعدم.
إعداد: كابي جعفر