خاص العهد
الفساد تابع..توظيفات بـ"الباراشوت" تكبّد الخزينة المليارات
فاطمة سلامة
لا نبالغ إذا قلنا انه ولأول مرة في تاريخ لبنان تُعقد النوايا وتشتد الحملة على محاربة الفساد بعد إعلان حزب الله عنها كبند أساسي ضمن برنامجه الانتخابي. تلك الحملة، وإن أتت متأخرة إلا أنها خير من أن لا تأتي أبداً. فكيفما اتجهنا يُطالعنا الفساد الذي بات ظلاً يرافق الكثير من الأجهزة والإدارات والمؤسسات. يُطالعنا بأوجه مختلفة وبنتيجة واحدة يُقال في رحابها الكثير من المصطلحات من قبيل: سرقة، هدر، محسوبيات، محاصصة، اختلاس (الخ).. يُطالعنا بمليارات الدولارات مديونية ألقيت على ظهر الخزينة، وبالاقتصاد المنحدر، وبالأوضاع المزرية التي يعيشها اللبناني، وفي ذلك حدّث ولا حرج. يُطالعنا بالفوضى المتعمدة هنا وهناك، فكثر من النافذين في الدولة استغلوا تعطيل دور الأجهزة الرقابية، ليتمادوا ويذهبوا بعيداً في العبث بأموال الشعب، وممارسة الفساد بشتى أنواعه.
التوظيفات العشوائية نوع "خطير" من هذا الفساد. كُثر استخدموا ألقابهم من معالي وسعادة وسيادة وحضرة، لإسقاط من يريدون "بالباراشوت" لتوظيفه في أي مكان. لا حرج من استحداث مناصب ووظائف على قياس أشخاص. فيكفي أن يرد اتصال هاتفي يوصي بتوظيف زيد أو عمرو، حتى يكون للمتصل ما يريد، خارج سقف القانون، وخارج مظلة مجلس الخدمة المدنية. ما يُكشف هذه الأيام في هذا الملف يُبيّن بما لا يقبل الشك ضخامة الفساد المستشري في الدولة، بعدما "فُضحت" قصّة توظيف الآلاف عامي 2017 ـ 2018 وبشكل عشوائي، رغم أنّ قانون سلسلة الرتب والرواتب، وبالتحديد المادة 21 منه، لحظت تجميد التوظيف والتعاقد، الا ان القانون لم يردع المخالفين لتتخطى التوظيفات كل الخطوط الحمراء، وهو الأمر الذي أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري أنه "لن يمر مرور الكرام، بلا محاسبة ومساءلة".
وبناء على ذلك، كانت جلسة أولى للجنة المال والموازنة، برئاسة النائب ابراهيم كنعان اليوم الإثنين. الجلسة ناقشت تقريري التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية، وشهدت مداخلات عدة لنواب، قاربوا مسألة معقدة، وفق ما يقول عضو لجنة المال النائب الدكتور علي فياض لموقع العهد الإخباري. برأيه، فإنّ مسألة التوظيف العشوائي أكثر تعقيداً مما يعلن. فالتقرير النهائي للتفتيش المركزي الذي عرض داخل الجلسة يتحدث عن 4695 موظفاً من آب/ أغسطس 2017 وحتى اليوم، رغم أنّ قانون سلسلة الرتب والرواتب نص على تجميد التوظيف والتعاقد، وبحسب فياض، هناك 387 موظفاً دخلوا عبر الخدمة المدنية بقرار من مجلس الوزراء، و453 دخلوا "أوجيرو" عام 2018. وهنا يستطرد فياض بالإشارة الى أنه لا يكفي أبداً أن يتضمّن تقرير مجلس الخدمة المدنية التنويه الى أنّ قسماً من هؤلاء الموظفين جرى توظيفهم بقرار من الحكومة، فحتى مجلس الوزراء عليه أن يراعي القوانين المرعية الإجراء لجهة الآتي:
1ـ المادة 21 من قانون سلسلة الرتب والرواتب نصّت على تجميد التوظيف والتعاقد وإجراء مسح شامل لملاك الدولة لمعرفة الحاجات.
2 ـ موازنة عام 2017 قيّدت أي قرار يصدر عن مجلس الوزراء بضرورة الاستناد الى مراجعة وتدقيق عملية تقوم بها "إدارة الأبحاث والتوجيه"، بمعنى أنّ قرار مجلس الوزراء بالتوظيف ليس مبرراً قانوناً دون اللجوء الى الإدارة المذكورة التي تُحدّد الحاجة من عدمها.
3ـ المادة 13 من قانون الموظفين تنص على أنّ كل توظيف لا تراعى فيه الشروط القانونية فهو غير قانوني وبالتالي غير نافذ.
ويتناول فياض المرسوم الاشتراعي رقم 112 تاريخ 12/6/1959 والذي ينص في إحدى مواده على أن" الوزير يتعاقد مع لبنانيين او أجانب لمدة محددة للقيام بعمل معين يتطلب معارف ومؤهلات خاصة، ضمن حدود الاعتمادات المخصصة لهذه الغاية في الموازنة وفي نطاق العدد المحدد فيها". المادة واضحة بحسب فياض لناحية عدم جواز تمرير أي تعاقد خارج الاعتمادات المخصصة. وعليه، يؤكّد عضو كتلة الوفاء للمقاومة أنّنا أمام مخالفات مضاعفة ارتكبها وزراء وارتكبتها حكومة مجتمعة.
تماماً كما حدّدت الفقرات 1 و2 و3 من المادة الثامنة من المرسوم 10183 أصول التعاقد وأحكامه بالآتي: "تضع الإدارة الراغبة في التعاقد بياناً يحدد حاجتها إلى هذا التعاقد والتعويضات المنوي تخصيصها لكل صفة تعاقدية، ويحال طلب التعاقد (...) إلى مجلس الخدمة المدنية (...)". وبالتالي فإنّ النص القانوني واضح لجهة إسناد الدور الأساسي في التعاقد الوظيفي لمجلس الخدمة المدنية، وهو نص لا يحتمل الشك والاجتهاد.
ويشدد فياض على ضرورة أن يكون الهدف من الاجتماعات المفتوحة للجنة المال والموازنة مع التفتيش المركزي والخدمة المدنية الوصول الى تقرير محدّد يفصّل في المسؤوليات ويحددها بدقة تفادياً لتقاذفها من جهة الى أخرى بناء على معيارين:
1ـ مدى الالتزام بالنصوص القانونية
2ـ تحديد المسؤوليات عن التوظيف غير القانوني في مواضع لا حاجة فيها.
ويكرر عضو لجنة المال والموازنة قبل أن يختم حديثه أنّ ما قُدّم من تقارير يحتاج الى متابعة مذكراً أننا أمام مسألة أكثر تعقيداً مما يجري تناوله في الإعلام.
*أعباء كبيرة على الاقتصاد
الخبير الاقتصادي غازي وزني يُشدّد في حديث لموقع العهد على أنّ التوظيف العشوائي الذي جرى كبّد خزينة الدولة أعباء كبيرة، إذ إن تكلفة الخمسة آلاف تبلغ حوالى 90 الى مئة مليار ليرة، لكن الأدهى يكمن بالتبعات اللاحقة على المالية العامة، والتي ستظهر على المدى البعيد من خلال تكلفة تعويضات نهاية الخدمة ونظام التقاعد.
ويشير وزني الى أنّ بند الرواتب في مشروع الموازنة العامة كان يبلغ حوالى 30 بالمئة من إجمالي الانفاق العام قبل إقرار سلسلة الرتب والرواتب. بعدها، بلغ بند الرواتب وملحقاته ما يقارب 36.5 بالمئة من الانفاق العام عام 2018، وذلك لسببين:
1ـ زيادة الرواتب والأجور أكثر من 80 بالمئة
2ـ تضاعف تعويضات نهاية الخدمة
ويُشدد وزني على أننا بتنا في وضع لم يعد يسمح للمالية العامة بتحمل أي زيادة، سيما وأن الأعباء المستقبلية كبيرة جداً، خاصة لجهة التعويضات. ويوضح أنّ الإجراء الذي اتخذ بتجميد التوظيف إيجابي لتفادي أي تبعات مستقبلية لإصلاح المالية العامة، إلا أنّ خرقه عبر التوظيفات العشوائية يكبّد الخزينة ما لا طاقة به عليها. برأي الخبير الاقتصادي، على القوى السياسية اتخاذ اجراءات حازمة وصارمة عام 2019 وصولاً الى تجميد كلي وشامل للتوظيف بكافة "الملاكات"، والمباشرة بعدها بإصلاح النظام التقاعدي.
يتوقّف وزني عند نسبة موظفي القطاع العام التي بلغت 25 بالمئة من اليد العاملة في لبنان، فيشير الى أنّ نسبة هؤلاء يجب أن تبلغ 15 بالمئة، وهي النسبة المعتمدة عالمياً، لأن المالية العامة لم يعد باستطاعتها التحمل، الأمر الذي يُحتّم على الحكومة عدم التلكؤ لتفادي المخاطر المحتملة، والتي قد تكون عظيمة، يختم وزني.