خاص العهد
خان الخياطين في طرابلس: شاهد على حضارة المدينة
محمد ملص
تتنوع الآثار في مدينة طرابلس، التي تضم العديد من المواقع التاريخية، الا أن ما يميزها عن غيرها، هو كثرة الخانات فيها: كـ"خان العسكر، خان المصريين، خان الخياطين، خان العطَّارين، وخان الصابون...". وكلمة خان في اللغة العربية تعني "موضع ومكان نزول المسافر الى بلاد المسلمين"، حيث كانت تستخدم الطوابق العليا منه لاستقبال المسافرين والطوابق السفلية للتجارة.
يمتلك خان الخياطين حضوراً متميزاً في طرابلس، فهو عبارة عن سوق كبير، متخصص بالخياطة والأزياء الطرابلسية والوطنية والعربية. وما يميزه عن تصاميم الخانات الأخرى، شارعه الطويل المسقوف، والذي تتوزع على جانبيه الدكاكين والحوانيت التي تعنى بكل ما يتعلق بمهنة الخياطة تقليداً وتراثاً.
رغم أن آثار طرابلس حازت مجالاً واسعاً في البحث العلمي، الا أنه لا يوجد أية وثيقة تاريخية تحدد تاريخ بناء هذا الخان، لكن وبحسب مديرية الآثار، وعدد من المؤرخين الطرابلسيين، فإن بناءه يعود الى القرون الوسطى. وقد وجد المؤرخون عند المدخل الغربي "عمودين وتاجين"، يعودان إلى العصر البيزنطي، أو ما يعرف بالعصور القديمة، أي أكثر من ألف سنة تقريباً. كما تذكر الروايات، عن بعض المؤرخين الصليبيين أن "طرابلس عندما سقطت في أيدي الصليبيين، كان فيها أكثر من أربعة آلاف عامل يعملون فقط في حياكة النسيج الذي يستخرجونه من دودة القز، والذي اشتهرت المدينة في صناعته". ومع دخول المماليك الى طرابلس، في القرن الرابع عشر الميلادي، حرصوا على إيجاد خان خاص للخياطين في المدينة بهدف الحفاظ على الصناعة، لما وجدوا في مهنة الخياطة وصناعة النسيج من أهمية على الصعيد التجاري والاقتصادي، وهم أرادوا، أي المماليك، أن يكون خان الخياطين مكاناً لممارسة الخياطة والتجارة، فتركزت أعمال الخياطة وعرض الأقمشة والألبسة العربية في الطابق الأرضي، بينما كان يستخدم الطابق العلوي كفندق للنزلاء.
صمم خان الخياطين ليتسع ويستوعب أكبر عدد ممكن من التجار والزوار، فأنشئ له مدخلان رئيسيان لهما بابان من الخشب، وتعلوهما قناطر بيضاء اللون. ولا تزال الأبواب الخشبية تزين كل محلاته وحوانيته، التي تصطف بطريقة منتظمة داخل ممر طويل من الحجر الأثري. وهو لا يزال حتى اليوم يجمع بين حرفة الخياطة، وبيع الأقمشة والملابس العربية القديمة (كالشراويل - والطرابيش - والزنانير). ونظراً لجودة أنواع الأقمشة والألبسة المميزة التي نادراً ما تجدها خارج هذا الخان، أصبح يحتل مركزاً ممتازاً ورئيسياً في جولات السائحين والباحثين الذين يتوافدون الى طرابلس للتعرف إلى تاريخها وتراثها وحضارتها.
في الوقت نفسه، يصرّ أصحاب المحلات في الخان، على الحفاظ على مهنتهم وتوريثها لأبنائهم، رغم أنها لم تعد كالسابق، ولا تؤمّن قوت العيش، بحسب محمود الحموي المعروف بـ"أبو علي"، الذي يروي لـ"العهد" كيف واكب خان الخياطين مختلف الأحداث والأزمنة "وهو كما العديد من خانات طرابلس فقد الكثير من خصوصيته، بعد أن شهد دخول التكنولوجيا الحديثة، وبعض الصناعات التي أفقدته ميزته القديمة".
يتابع أبو علي "لخان الخياطين فضل كبير في شهرة طرابلس العربية والعالمية، فهو شكل عامل جذب لمختلف التجار العرب والأوروبيين الذين كانوا يقصدون الخان ويحملون الى بلادهم الأقمشة والألبسة العربية التقليدية، مما ساهم في ازدهار هذه المهنة التي استمرت منذ ذاك التاريخ حتى السبعينيات من القرن الماضي، ومن ثم بدأت هذه المهنة بالتراجع، مقابل المصانع المعدة لبيع الألبسة الجاهزة والمستوردة، ما أدى الى تراجع عملنا بشكل كبير، لذلك نلجأ الى وضع ألبسة ذات طابع أثري لبيعها الى جانب عملنا في الخياطة لكي نستطيع أن نوفر لقمة عيشنا".
منذ إنشاء خان الخياطين وحتى اليوم، بقي هذا الكنز الأثري شاهداً على معظم تفاصيل الحياة اليومية لأهالي مدينة طرابلس ومعلماً من معالمها الأثرية والتراثية، لكن يُخشى عليه اليوم من الاندثار أكثر من أي وقت مضى، حيث باتت التكنولجيا والمصانع الحديثة أقوى من القذائف الصاروخية التي أدت الى تصدع عقوده وجدرانه، جراء الأحداث الأمنية الاخيرة، وقد بادرت بلدية طرابلس الى إعادة تأهيله، عبر هبات محلية ودولية.