خاص العهد
طباعة "الليرات" اللبنانية بين تأمين الحاجات وتجاوز القانون
فاطمة سلامة
عندما نبحث في الأسباب التي أدّت الى الانهيار الدراماتيكي لليرة اللبنانية، يشير أهل الاختصاص الى طباعة العملة الوطنية بكميات كبيرة كأحد الأسباب الرئيسية. وفي هذا الصدد، يُذكّر اقتصاديون بأنّ أحد أبرز الأسباب التي أدت لانهيار الليرة اللبنانية أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات كانت الآلية الخاطئة لتمويل شراء أسلحة للجيش اللبناني من الموازنة العامة. حينها جرت طباعة الليرة بكميات كبيرة، ما أغرق السوق اللبنانية بالعملة الوطنية وأفقدها قيمتها. وقد بيّنت دراسة نشرتها "الدولية للمعلومات" قبل أيام أنّ النقد المصدر ارتفع من 3,284 مليار ليرة في نهاية العام 2011 إلى 29,450 مليار ليرة نهاية العام 2020. نسبة الارتفاع سجّلت 796%، وهي نسبة مرتفعة جداً تركت تداعيات واسعة على الاقتصاد الوطني.
الكيك: قانون "النقد والتسليف" يقيّد امتياز طبع العملة المعطى للمركزي
وفي الوقت الذي ينظر فيه البعض الى طباعة العملة من قبل مصرف لبنان على أنّها الخيار الوحيد وخطوة إلزامية وضرورية لتغطية نفقات الدولة والرواتب والأجور وأموال المودعين، يؤخذ على مصرف لبنان هامش الحرية الذي يتصرّف به في طباعة العملة. يقال إنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تجاوز القانون خاصةً أنه لا يملك احتياطيا خاصا من العملات الأجنبية وما لديه من هذه العملات هي ودائع المصارف. وفي هذا الإطار، تشير الباحثة في الشؤون القانونية المصرفية الدكتورة سابين الكيك في حديث لموقع "العهد" الإخباري الى أن البعض يسوّق الى حاجة لبنان لاعتماد مجلس نقدي يقيّد طباعة العملة بقيمة الاحتياط المُكوّن، وكأن النظام النقدي الحالي يسمح لمصرف المركزي بطباعة العملة دون حسيب أو رقيب، وهذا أمر غير صحيح.
وتشدّد الكيك على أنّ قانون "النقد والتسليف" يقيّد امتياز طبع العملة المعطى للمركزي عندما يلزمه بتغطية ما لا يقل عن 50 بالمئة بموجودات من الذهب واحتياطي العملات الأجنبية. المادة 69 من قانون "النقد والتسليف" تنص على أنّه لا يجب تحت أي ظرف كان أن تتجاوز الكتلة النقدية المطروحة في السوق هذا السقف دون أن تحتسب موجودات مصرف لبنان من العملة الوطنية من ضمنها. أكثر من ذلك، ذهب المشرع في المادة 69 الى ما هو ضمانة إضافية حيث ألزم المصرف المركزي بضمان ودائعه تحت الطلب محسوبة مع حجم الكتلة النقدية وتغطيتها أيضاً من خلال موجوداته من الذهب والعملات الأجنبية بما نسبته 30 بالمئة.
المركزي لم يحترم نسبة التغطية التي لا يجب أن تقل عن 50 بالمئة
وبحسب الكيك، لكي نقول إنّ مصرف لبنان يحترم القانون لا بد من احتساب الكتلة النقدية بما يقابلها من موجودات بالذهب والعملات الأجنبية بحيث لا تقل نسبة التغطية عن 50 بالمئة، ولكن أيضاً علينا احتساب قيمة ودائعه تحت الطلب مع الكتلة النقدية بحيث لا تقل تغطيتهما معاً عن 30 بالمئة من موجودات الذهب والعملات الأجنبية، وهذا النص له طابع إلزامي وتترتب على مخالفته مساءلة المركزي ممثلاً بحاكميته.
وهنا السؤال يوجّه -برأي الكيك- الى مقترحي مجلس النقد عن جدواه طالما أن المركزي لم يحترم نسبة التغطية التي لا يجب أن تقل عن 50 بالمئة. وتتوجه للقائلين بأن تغطية الذهب لا تؤخذ بالاعتبار بعد الغائها بالقول: "كان يمكن من خلال المادة 69 في قانون النقد والتسليف أن تكون التغطية محسوبة فقط باحتياطي العملات الأجنبية وتحديداً الدولار الأميركي في كل ما يتحاوز الـ50 بالمئة وبالتالي لو حصل ذلك فعلاً لكان المركزي حافظ على الاحتياطي لديه وحقق دوره الأول والأهم في تأمين استقرار العملة الوطنية". برأي الكيك، فإن الإشكالية ليست في النصوص ولا في توجيه الرأي العام لانتقاد المنظومة التشريعية وإنما العبرة في التنفيذ والرقابة والمساءلة، تختم الباحثة في الشؤون القانونية المصرفية.
"الدولية للمعلومات": 75,284 مليار ليرة قيمة الودائع تحت الطلب والنقد المصدر
وبحسب أرقام "الدولية للمعلومات"، تبلغ حالياً قيمة الودائع تحت الطلب 45,834 مليار ليرة. وبذلك تصل الودائع تحت الطلب والنقد المصدر إلى 75,284 مليار ليرة. وبما أن مصرف لبنان لا يملك احتياطي خاص من العملات الأجنبية وما لديه من هذه العملات المقدر بـ 16 مليار دولار هي ودائع المصارف، تبقى التغطية الوحيدة للنقد هي الذهب الذي تبلغ قيمته حالياً نحو 24 ألف مليار ليرة أي ما يمثل نسبة 32% من الودائع تحت الطلب ومن النقد المصدر، وبالتالي فإن مصرف لبنان قد تجاوز السقف المحدد (30% على الأقل) وبالتالي لا يمكنه الاستمرار في إصدار النقد.
وتستطرد الدراسة: "في حال اعتبار ودائع المصارف كاحتياطي يضاف إلى الذهب ترتفع النسبة 64% من الودائع والنقد المصدر ما يسمح للمصرف بالاستمرار بإصدار النقد".
عكوش: طباعة العملة أتت كنتيجة وليست سبباً
الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش يلفت في حديث لموقعنا الى أنّ طباعة العملة أتت كنتيجة وليست سبباً. ففي ظل انعدام الثقة بالقطاع المصرفي، يعمد المودعون الى سحب ما يمكنهم من أموال، وبالتالي فإنّ مصرف لبنان ملزم بتلبية هذه الحاجات. ويوضح عكوش أنّ كمية الليرات قدرت بـ5 آلاف مليار ليرة قبل الأزمة، فيما وصلت اليوم الى حدود الـ37 الف مليار ليرة، وذلك نتيجة الطلب الكبير عليها من قبل أصحاب الودائع، كما أن ارتفاع سعر صرف الدولار ساهم في زيادة الكمية، أضف الى عامل العجز بالموازنة والذي فاقمته الأزمتان الاقتصادية والصحية.
ويشدّد عكوش على أنّ مصرف لبنان ولكي يلبّي حاجات الدولة سواء من ناحية الرواتب أو السلفات التي يعطيها، ألزم بطباعة الليرات. برأي عكوش، فإنّ مصرف لبنان ملزم بتلبية طلبات المصارف لناحية سحب الودائع أو طلبات الحكومة لناحية دفع الرواتب ومستحقات الدولة. الأخيرة لديها عجز كبير في الموازنة اذ لا يوجد توزان بين النفقات والإيرادات ما يضطر مصرف لبنان لتغطية هذا العجز عبر طبع الليرات.
الحل الوحيد بمعالجة القطاع المصرفي
ويرى عكوش أنّ الحل الوحيد لوقف طبع الليرات، يكون عبر معالجة القطاع المصرفي لإعادة الثقة به. وعليه، كي يوقف مصرف لبنان طباعة الليرات يجب أن نستعيد الثقة بالقطاع المصرفي ليستعيد الكتلة النقدية الموجودة بأيدي الناس. عندها تعود هذه الكتلة الى المصارف ويعود جزء أساسي منها الى مصرف لبنان. وعندما يكون لدى مصرف لبنان هذه السيولة لا يضطر لطباعة الليرة بل يستخدم هذه الكتلة الموجودة بين يديه.
ويضيف عكوش: "مضطرون أن نكمل بطباعة الليرة طالما أنّ المصارف لا تقوم بوظيفتها". وفي المقابل، يشدّد المتحدّث على ضرورة إقرار القوانين والخطط التي من المفترض أن تستعيد الثقة بالاقتصاد وعلى رأسها قانون "الكابيتال كونترول" والخطة الاقتصادية وإعادة هيكلة المصارف. وهنا يطرح عكوش إمكانية اعتماد العملات الرقمية التي تكون على شكل بطاقة اذا ما تم اقرار "الكابيتال كونترول". برأيه، يخفف هذا الأمر من طباعة العملة، اذ يصبح بإمكان أصحاب الودائع سحب جزء من ودائعهم "كاش" وجزء آخر يستخدمونه من خلال البطاقة لشراء الحاجيات. وهنا يحذّر عكوش، ففي حال لم تقر هذه الخطط والقوانين ولم يتخذ قرار جريء بتفعيل هذه القوانين والخطط فنحن ذاهبون بصراحة نحو المزيد من الطبع الذي لا مهرب منه.
مصرف لبنان من المفترض أن يكون الضابط الأساسي لسعر الصرف لكنه لا يتدخل
وفي معرض حديثه، لا يخفي عكوش التداعيات السلبية لطباعة العملة، فعندما تزيد الكتلة النقدية لأي عملة وطنية تنخفض قيمتها ويزداد التضخم ما يسهم في ارتفاع سعر صرف الدولار نتيجة زيادة الكمية المعروضة والمضاربة، خاصة أن مصرف لبنان لا يتدخل بهذا الموضوع، ونحن نرى "التذبذبات" الكبيرة في سعر الصرف نتيجة أن مصرف لبنان الذي من المفترض أن يكون الضابط الأساسي في هذا الموضوع لا يتدخل تاركاً السوق تعمل بمفردها.
وفي الختام، يوضح عكوش أنّ العوامل المساعدة لاستقرار سعر الصرف باتت معروفة والمطلوب اتخاذ قرار جريء في هذا الموضوع، فطالما أن القوى السياسية لا تتخذ القرار فإن الوضع سيبقى على حاله.