خاص العهد
هل ستتمكّن "منصة الصرافة" من ضبط سعر صرف الدولار؟
فاطمة سلامة
لشهور طويلة، أدار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الظهر لأي حل يضبط سعر صرف الدولار. في كل مرة كان يُطلب منه التدخل، كان يسارع للقول: "لا دولارات لدي". منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها انهيار الليرة، كان باستطاعة الحاكم التدخل لكبح جماح ارتفاع سعر صرف الدولار. إلا أنّ سلامة لم يكتف بالوقوف موقف "المتفرّج" على الأزمة، بل أصدر تعاميم زادت "الطين" بلة، هذا عدا عن الاتهامات التي وجّهت لسلامة بالدخول في لعبة "المضاربة" وتزويد المصارف بكميات من الليرة اللبنانية لاستخدامها في السوق السوداء، لتكون النتيجة سعر صرف فالتا من عقاله وانهيارا دراماتيكيا وغير مسبوق لليرة اللبنانية.
إلا أنّ الحاكم الذي لطالما تسلّح بمقولة "لا دولارات لدي"، هبط عليه فجأة الحل، ليعلن قبل أيام عن إنشاء منصة الكترونية جديدة للصرف يقول إنها كفيلة بضبط السعر في السوق. فهل فعلاً ستتمكّن هذه المنصة من ضبط سعر الصرف؟ وهل ستتمكّن من الغاء السوق الموازي؟ أم أنّ هذه المنصة ستولد ميتة؟
جباعي: تجربة لبنان مع المنصة أثبتت فشلها في كل المقاييس
قبل الغوص في الحديث عن المنصة الجديدة، يُفضّل الكاتب والخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي التطرق الى تجربة لبنان مع المنصات. يستهل حديثه لموقع "العهد" الإخباري بالإشارة الى أنّ فكرة المنصة ليست جديدة، ففي السابق شهدنا منصة الـ 3900 ليرة التابعة للصرافين، ومنصة سعر الصرف لسحوبات المودعين في المصارف. يتطرق جباعي الى تجربة لبنان السابقة للبناء عليها بعد أن أثبتت المنصة فشلها في كل المقاييس الاقتصادية والنقدية والاجتماعية.
من الناحية النقدية، ساهمت المنصات في المزيد من التدهور بسعر الصرف؛ فالمصارف كانت تُرجع أموال المودعين بالليرة اللبنانية ما زاد من حجم الكتلة النقدية في السوق لتصل الى 35 ألف مليار ليرة مقابل وجود 4 الى 5 مليارات دولار فقط. هذا الأمر أدى الى تراكم ضعف الليرة مقابل الدولار 7 أضعاف، وهذا كان سبباً رئيسياً -برأي جباعي- للتدهور الحاد بسعر صرف الدولار على اعتبار أننا لم نتمكن علميا ونقديا من مقاومة سعر الصرف نظراً لحجم الكتلة النقدية الكبير جداً، وهذا من أسباب فشل المنصة الأولى. ومن الناحية الاقتصادية، سجلت هذه المنصة فشلها أيضاً لأنها كانت تمول المؤسسات والشركات المستوردة من الخارج، وقد رأينا الاستغلال الذي شهده هذا الملف والاحتكار الكبير، وحتى أن السلعة التي جرى تمويلها لم تصل الى المواطن ما يعني أن هذه المنصة فشلت اجتماعيا أيضاً.
طالما أن المنصة ستضع سعراً أدنى من السوق لن يصرف أحد "دولاراته" فيها
وبناء على ما تقدم، أثبتت المنصات فشلها -يقول جباعي- خاصة أن سعر صرف الدولار وصل الى 15 ألف ليرة. لا يريد جباعي الحكم على المنصة الجديدة -التي يُروج على أنها ستكون سبباً لخفض سعر صرف الدولار- لكنه يرى ضرورة مناقشة المعايير التي تتحدث عنها لتكوين صورة عن عملها. وفق جباعي، يقول القائمون على المنصة إنها ستحدد سعر صرف قريبا من سعر الصرف في السوق، ولكن تعميم مصرف لبنان أمس الثلاثاء يشير الى أنّ فترة تدريبية ستخضع لها المصارف والصرافون، ما يعني حكماً أننا أمام فترة شهر تقريباً حتى تبدأ هذه المنصة بعملها. خلال هذا الشهر كم سيتفلّت سعر الصرف في السوق وسط عدم وجود حكومة وغياب الأفق السياسي والمضاربات النقدية الهائلة على الليرة؟ وفي حال وصل سعر الصرف حتى الـ20 ألف ليرة هل ستتبنى المنصة الموعودة هذا السعر؟ يسأل جباعي الذي يرى أن هذا الأمر صعب جداً، فطالما أن المنصة ستضع سعراً أدنى من سعر السوق بمراحل، فلا أحد سيصرف "دولاراته" في هذه المنصة.
تأخير مصرف لبنان العمل بالمنصة مقصود ومتعمد
ويؤكّد جباعي أنّ تأخير مصرف لبنان العمل بالمنصة مقصود ومتعمد، وهدفه انتظار المفاوضات السياسية في لبنان. من وجهة نظره، عندما كان هناك أمل بالحكومة كان مصرف لبنان متحمّسا للعمل بها، وبعدما فشلت المساعي الحكومية تذرع بالتدريب.
ستموّل حكماً من أموال المودعين
بتقدير جباعي، ستكون مهمة هذه المنصة ضخ الدولارات لمجموعة من الناس، وهذه الدولارات ستُقتطع حكما من أموال المودعين. لم يبق سوى 16 مليار دولار كاحتياطي الزامي في مصرف لبنان بعدما بددنا 14 مليار دولار خلال عام في سياسة الدعم الخاطئة. اذاً، سيتم المساس بأموال المودعين -يضيف المتحدّث- وهذا ما أكده وزير المالية غازي وزني، اللهم الا اذا تمكن سلامة من إجبار المصارف على إعادة رسملة موجوداتها بنسبة 3.6 مليار دولار على أن يتم استخدام جزء من هذا المبلغ للمنصة، وأنا أشك بهذا الأمر لأن هذا البند وضع كضمانة للودائع الخارجية وحسابات الأصول الخارجية، وبالتالي سيكون هناك مساس بأموال المودعين من جديد.
لو قدّر للمودع أن يسترجع "دولاراته" بنسب معينة لانخفض سعر الصرف
ويرى جباعي أن المضحك المبكي في هذه المنصة، أن المودع الذي "يبكي" أمام أبواب المصارف للحصول على أمواله، لن يحصل على شيء منها الا اذا اشترى "دولاراته" التي يملكها بسعر مضاعف عن الدولار الموجود على منصة الـ3900 ليرة. وفق جباعي، فإن هذا الأمر مخالف للقانون والمنطق والعقل. ليست بهذه الطريقة تدار الأمور وتُستنبط الحلول. المطلوب حلول جذرية، فلو قدّر للمودع أن يسترجع "دولاراته" بنسب معينة لانخفض سعر الصرف.
اذا ذهبت الأموال للمستوردين فقط لن تجدي هذه المنصة نفعاً
وبحسب جباعي، فإنّ السوق يحتاج يومياً ما بين 6 الى 7 مليون دولار، فيما ستتدخّل المنصة بحوالى 3.5 الى 4 مليون دولار يومياً، أي أنها ستتدخل بحوالى مليار الى مليار و200 مليون دولار سنوياً. هذه المنصة لو تدخلت بنصف حاجات السوق بالدولار فبالتأكيد قد تساهم بانخفاض سعر الصرف. لكنّ هذا الأمر مشروط بأن تذهب "الدولارات" الى من يستحقها والى من يعود بالفائدة على الاقتصاد اللبناني. أما اذا ذهبت الى المستوردين فقط، فهذه الدولارات ستخرج من لبنان. وهنا يشدد جباعي على أن الحل الجذري يكون بإعطاء هذه الأموال للمودعين. بعض هؤلاء المودعين تجار وقد يستعملون جزءاً من هذه الأموال في التجارة الداخلية والخارجية. بهذه الطريقة يساهم جزء من المبلغ الذي يُضخ في السوق بارتفاع حجم الكتلة النقدية بالدولار ما يساهم بامتصاص السيولة النقدية بالليرة. وفق جباعي، فإنّ هذا الحل الوحيد الذي سيساعد في خفض سعر صرف الدولار. ولكن اذا ذهبت الدولارات للتجار الذين يستوردون من الخارج، فلن يستفيد السوق المحلي سوى بجزء ضئيل منها. وفق قناعات جباعي، لن تجدي هذه المنصة نفعاً بتخفيض سعر صرف الدولار في ظل وجود المضاربات والتفلت السياسي، بل على العكس ستساهم في المزيد من الضغط بالسوق السوداء، حيث سيستعمل التجار الأموال للاستيراد وستبقى الدولارات في الخارج لتظل السوق السوداء سوق مضاربة وسط شح في الدولار، لأن المنصة لن تضخ العملة الصعبة للسوق مباشرة.
الحل الأمثل هو ضخ السيولة النقدية بالدولار مباشرة في السوق
يكرر جباعي: " اذا لم تضخ هذه المنصة الدولار للسوق مباشرة لا إمكانية لانخفاض سعر صرف الدولار". لا ينكر أنها قد "تريح" سعر الصرف قليلا، ولكن الحل الأمثل هو ضخ السيولة النقدية بالدولار مباشرة في السوق. وهنا يلفت جباعي الانتباه الى أن السبب الرئيسي لتدهور سعر الصرف هو العجز الحاصل في ميزان المدفوعات والذي وصل الى 12.5 مليار دولار وهو عجز كبير يؤكد أن لا سيولة نقدية للدولار موجودة لدى المصارف ومصرف لبنان. وبالتالي، مشكلتنا الأساسية هي كيف نحرك السوق المحلي خاصة في ظل العقوبات غير المعلنة وقلة التحويلات بالدولار من الدول الخارجية ومنها العربية. المشكلة الرئيسية تتلخص بعدم وجود سيولة نقدية للدولار ما يجعلنا بحاجة لضخ الدولار في السوق.
المنصة ستضعف الثقة بالاقتصاد اللبناني
وحول إدخال المصارف في عمل المنصة، يقول جباعي :"لا يوجد دولة في العالم تلعب فيها المصارف دور الصرافين. هذه بدعة جديدة في لبنان، فمهمة المصارف هي تسليم الايداعات للمودعين". وهنا يشدد على ضرورة أن تلعب المصارف دورها الطبيعي في إعادة حقوق المودعين بالعملة الاجنبية لخفض سعر صرف الدولار. برأي جباعي، لا مصلحة كبيرة للمصارف اللبنانية في المنصة التي تخرجها عن دورها الاقتصادي والمنطقي. بتقدير جباعي، فإن المنصة ستضر بالقطاع المصرفي وستضعف الثقة بالاقتصاد اللبناني.
المنصة لن تلغي السوق الموازي الا اذا..
وفي الختام، يشدّد جباعي على أنّ هذه المنصة لن تلغي السوق الموازي. بتقديره، لا شيء بإمكانه الغاء السوق الموازي الا اذا تمكنا من إرساء حلول جذرية ووضع دفعات مالية بالدولار تتراوح بين 10 و12 مليار دولار في المصرف المركزي، تكون مهمة هذه الأموال التدخل لضبط سعر صرف الدولار، مشدداً على ضرورة أن يكون لدينا حكومة تقوم بالإصلاحات وتحول الاقتصاد من ريعي الى إنتاجي.