خاص العهد
في ذكرى القادة الشهداء: طرابلس والسيد... فلسطين والمقاومة والوحدة
محمد ملص
هو سيد شهداء المقاومة الإسلامية.. هو القيادي والنموذج، هو ذاك القائد المتواضع، ممن قلَّ نظيرهم، جمعت شخصيته المجد والعزة والكرامة... وأبى الا ان تكون ساحات الوغى ملعبه ودربه الى لقاء ربه في الفردوس الاعلى.. مكرماً ومستجاب الدعوة، ففاز بالشهادة.
في السادس عشر من شهر شباط/ فبراير لعام إثنين وتسعين.. ارتقى الأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة الإسلاميّة السيّد عبّاس الموسوي.. شهيداً.
لم يكن الشهيد السيد عباس الموسوي، فئوياً أو طائفياً، أو طالب مناصب وزعامة، كل من عاصره وجالسه، يجمع أنه كان القائد الوطني الذي شكّل نموذج يقتضى به في كل المراحل والساحات. وتكشف التفاصيل التي سنحاول الإضاءة عليها في هذا التقرير، عن علاقة قوية ربطت السيد عباس الموسوي بأبناء طرابلس والشمال، فهو لم يتغيب يوماً عن زيارة المدينة التي أحبها لدرجة العشق، وكان يرى فيها أرضية إسلامية جهادية تحتضن المقاومة ومشروعها، وهو زارها ما يزيد عن عشرات المرات، وبات فيها أكثر من مرة، ولعدة أيام في منزل العلامة الراحل الشيخ سعيد شعبان رحمه الله، وغيرهم من معارفه واصحابه.
وفي ما يكشف للمرة الأولى، عن علاقة السيد عباس بطرابلس، هو قبل استشهاده بأيام، إذ اتفق على لقاء والذي كان من المفترض أن يعقد مع الداعية الراحل فتحي يكن في طرابلس، وحدد موعد اللقاء في السابع عشر من شباط/ فبراير، الا أن الشهادة كانت أسبق الى السيد، ومنعت تلك الزيارة من أن تتم او يحصل ذلك اللقاء.
علاقة السيد عباس والشيخ سعيد شعبان... بساطة وأخوة ووحدة ومقاومة
في إحدى الليالي وبينما ساءت الأحوال بين رئيس حركة التوحيد الإسلامي الشيخ سعيد شعبان والسلطات السورية إبان أحداث طرابلس، حاول عدد من المسؤولين السوريين اعادة وصل ما انقطع مع الشيخ شعبان، وأوفدوا اليه إحدى الشخصيات السياسية المرموقة، لتسليمه بطاقة عسكرية تخوله الدخول والخروج من وإلى الأراضي السورية، وكانت تتضمن تقديم كامل التسهيلات له هناك، الا أن الشيخ شعبان رفض استلامها بشكل نهائي، معلناً أن موقفه لن يتغير ولن يتنازل.
إبان هذه الحادثة، لم يكن متاحاً لأي من الفريقين (الشيخ شعبان والسوريين) التواصل، حينها لجأ السوريين الى سماحة السيد عباس الموسوي، ليتوسط لهم لدى الشيخ سعيد شعبان لقبوله الهدية، ولعلمهم مدى المكانة التي كانت تربط بين الرجلين، حينها زار السيد عباس منزل الشيخ شعبان في طرابلس وقدم له تلك البطاقة، فرد شعبان قائلاً:" وهل يرد حبيب القلب، عن مطلبه". فما كان من السيد عباس الا ان رسم ضحكة عريضة على محياه، معبراً عن رضاه.
يروي نجل الشيخ سعيد شعبان، فضيلة الشيخ بلال شعبان، لموقع "العهد" الإخباري عن تلك الصداقة التي جمعت بين الرجلين، عنوانها "علاقة أخوة ومقاومة وجهاد" ويقول شعبان" لم نشعر يومأ ان العلاقة التي جمعت سماحة السيد عباس بالوالد (رحمهما الله) أنها كانت علاقة شخصية، أو علاقة بروتوكولية بين زعيمي تنظيمين، بل كانت علاقة أخوة عميقة، تخطت كل التفاصيل، ولطالما كانت السهرات واللقاءات التي جمعت بين الرجلين، مسرحاً كبيراً للنقاشات والمناقشات في شتى المواضيع والأحداث الإسلامية والوطنية بشكل معمق، وكان جل همهم "الوحدة الإسلامية والمقاومة، وفلسطين".
ويروي الشخ بلال شعبان عن الزيارات المتبادلة بين السيد والشيخ، والزيارات التي كانت لطرابلس وبعلبك، وعن اللقاءات في بيروت والبقاع وصيدا، يقول شعبان:" كنت مرافقاً لوالدي والسيد عباس (رحمهما الله)، وكان لي شرف خدمتهما، وفي احدى المرات كان هناك دورة جهادية لحركة التوحيد في صيدا، وكانت الطريق الساحل مقطوعة، حينها نقلني السيد عباس من طرابلس الى البقاع ، قضيت ليلتين مع سماحته، أحسست حينها بما جمع السيد من فكر وتواضع، فكان ذاك القائد المقدام، الذي مزج بين الشخصيّة القياديّة المقاومة دون أن ينزع عنه رداء الأبويّة الرؤوفة، فكان مثالاً حقيقياً لنموذج الإنسان والقائد.. كان مسكوباً بالهمّ الجهادي المقاوم، لسانه كما عقله، يخططان في كيفية توسيع المقاومة لتشمل كافة الخطوط، من جنوب لبنان الى فلسطين والجولان وصولاً الى أفغانستان، وفتح كل خطوط المواجهة مع الاستكبار والغطرسة الصهيونية والأمريكية".
يُجمِع كل من عرف وعاصر السيد عباس الموسوي والشيخ سعيد شعبان، أنهما لم يكونا بطاشين جبارين، أو كما يحاول الإعلام نقل تلك الصورة عنهما، كقائدين عسكريين، ولم يكونا طلاب مناصب وزعامات، لا بل كانت البساطة وطيب القلب والوجه الباسم، ترافقهما أين ما حلا، فلا تشعر معهم بالتكلف أو التعب، فكان السيد عباس يخدم نفسه بنفسه، ويصر ان يتواجد كل الأشخاص المرافقين له على مائدة طعامه. التي يفرشها بابتسامة لا تفارق وجه، رغم كل ما كان يتحمله من مشقات الطريق والسفر والتعب.
طرابلس... حاضنة المقاومة
لم تكن زيارات السيد عباس الى طرابلس، زيارات بروتوكلية أو صورية، بل كانت في سبيل دعم وتمكين مشروع المقاومة، ولما كانت، ومازالت، تمثله طرابلس كداعم لخط المقاومة ومشروعها من جنوب لبنان حتى فلسطين.
يروي الشيخ بلال شعبان عن تلك الزيارات، وكيف كانت المقاومة في أوج انطلاقتها، وعن استقبال أبناء طرابلس لسماحة السيد، حينها، لم تكن الدول العالمية، وبعض العرب قد نجحوا، في شيطنة مشروع المقاومة، فالكل كان يجتمع حولها، وينادي بمقاومة وطنية تجمع شمل كل اللبنانيين، دون أي فصل طائفي أو مذهبي".
يذكر شعبان على سبيل المثال، احتفالاً أقيم في المسجد المنصوري الكبير لمناسبة يوم الشهيد، وتحدث خلاله سماحة السيد عباس الموسوي والشيخ سعيد شعبان، والشهيد خليل عكاوي (أبو عربي)، وكيف بدا حينها التأثر واضحاً على الحضور بخطاب سماحة السيد عباس، والعاطفة الكبيرة التي كانت تظهر مع كل كلمة وحرف يبعث في النفس العزة والكرامة..
يتابع شعبان: "حينها لم يتخوف السيد عباس والشيخ شعبان، من أن يؤدي الانشطار الطائفي الى فصل طرابلس عن تاريخها، ولكن كان السيد عباس يدرك أن أعداء المقاومة، يخططون و يرسمون لها المخطاطات لتفشيلها، فإما "ان تكسر عسكرياً" وهم لم ولن يفلحوا، أو عبر تحويلها الى مقاومة فئوية طائفية، أي مقاومة فلسطينة او لبنانية وحتى شيعية.
عرفت شخصيّة السيّد عبّاس الموسوي أنها ذات أبعادٍ ومعانٍ مختلفة.. حيث كان يعرف أنّ الإسلام يجب أن يكون قريباً من الناس ويخدمهم مهما كانت الظروف.
السيد عباس.. ومساجد طرابلس
مما اشتهر فيه السيد عباس الموسوي، أنه كان صلة الوصل بين مختلف المذاهب الإسلامية، لا بل هو المحرك الوحدوي والأساسي لها، فلم يتمسك بالتعصّب المذهبي أو الطائفي، بل سخر حياته وجهده وكل طاقاته لإقامة حوار بين كافّة المذاهب والقوى. وبحسب ما يروي العارفون، أن السيد تنقل بين جميع مساجد طرابلس وكان خطيباً ومصليّاً فيها، عايش الهموم المتعلّقة بالناس في حياتهم العامّة والخاصّة وسعى الى رفع الضيم والفقر عن المعوزين.
وفيما ينقل عن السيد عباس الموسوي، تلك الخطبة التي لا يزال أبناء طرابلس يتخذوا منها دافعاً وشاهداً الى نفي كل ما يشاع عن العلاقة (السيئة) بين الشيعة والسنة، حيث حرم سماحة السيد عباس الموسوي التطرق أو الذكر بالسوء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه واله. وشرّح يومها في احد مساجد طرابلس كيفية تحويل القضية الفلسطينية، من قضية فئوية، الى قضية عربية ومركزية لكل أبناء الجزيرة العربية.
علاقة السيد عباس بالسلفيين في طرابلس
يروي عضو تجمع العلماء المسلمين الشيخ مصطفى ملص، عن شخصية السيد عباس، وكيف كان (أبو ياسر رحمة الله عليه) شخصية فذة متميزة بالانفتاح والحوار والمرونة، وكيف كانت علاقته مع من عرفهم من أهل السنة والجماعة من علماء وشخصيات قائمة على الاحترام والتقدير.
يقول الشيخ ملص: " زار سماحد السيد الشمال مرات عديدة، وساهم في أنشطة عامة ولقاءات سياسية ودينية في طرابلس وفي مخيم نهر البارد حضرها جمهور واسع وحاز سماحته على إعجاب الناس ومحبتهم... ولقد كان لي شرف مرافقته في بعض تلك الأنشطة والزيارات لاسيما الى دارة الشيخ سعيد شعبان (رحمة الله عليه) والشيخ ابراهيم غنيم في مخيم البارد. ويذكر الشيخ ملص احدى المواقف المميزة التي قام بها سماحة السيد عباس الى طرابلس، حين زار المرحوم الشيخ سالم الشهال، مؤسس التيار السلفي في لبنان، في بيته في ابي سمراء وكان الشيخ الشهال حينها، كثير الانتقاد للطائفة الشيعية عموما وحزب الله بشكل خاص، معتبراً أن لديه مآخذ عليهم، وقد تفاجأ الشيخ الشهال بتلك الزيارة، حينها جرى نقاش صريح بين الطرفين، وجرى حديث طويل بينهما استمر الى ساعات متأخرة من الليل.
وحسب ما تروي التفاصيل، فقد كان حديث السيد عباس مؤثراً للغاية، حيث دار الحديث عن الإسلام والجهاد ومواجهة العدو الصهيوني، وكيف انهارت دموع الشيخ الشهال لانبهاره بحديث السيد ومدى انفتاحه، مما كون لديه انطباعا إيجابيا ودفع بالمرحوم الشهال الى الحد من انتقاداته المعهودة للطائفة الشيعية، لا بل توقف عنها بشكل نهائي وكلي.
ويذكر الشيخ مصطفى ملص، تلك العلاقة الجيدة التي كانت تربط سماحة السيد عباس الموسوي بتجمع العلماء المسلمين في لبنان والتي كانت علاقة تعاون وتضامن، وهي من هيأت لأرضية صلبة وبناءة لحوار جامع بين علماء السنة والشيعة في أحدى أهم المؤسسات الدينية في لبنان والعالم العربي، ويقول الشيخ ملص: " كنّا نحن كسنّة لا نشعر بأيّ مسافةٍ مع ذلك العالم الشيعي الذي وجدناه مسلماً حقيقيّاً يعيش في كنف الدعوة إلى وحدة المسلمين وتماسكهم وترابطهم، ونحن اليوم نحفظ في قلوبنا وعقولنا ذلك النموذج الصادق للوحدة بين المسلمين التي جسّدها السيّد عبّاس الموسوي في الميدان، لقد كان رحمه الله رجل الوحدة والحوار والانفتاح، بكل ما للكلمة من معنى".
أربعون عاماً هي مسيرة السيّد والقائد، مسيرة رجل احب وطنه ودينه، لم يختلف مع كل من عاشرهم، نادى بالحوار والمحبة والوحدة الإسلامية والوطنية، ولم يتخلف يوماً عن تلبية نداءات الواجب الجهادي والوطني، إلى أن تحقّقت له أمنيته في السادس عشر من شباط.. ونال شرف الشهادة كما تمنى يومها حين قال: "أسأل الله أن يرزقنا الشهادة كما رزقها للشيخ راغب حرب".
(*) الصور خاصة بموقع "العهد" الإخباري، وما ورد في النص تفاصيل تذكر للمرة الأولى عن علاقة السيد عباس الموسوي بطرابلس واهلها وعلماؤها