خاص العهد
سياسة دعم "عوجاء" والنتيجة..أمن غذائي مفقود
فاطمة سلامة
لم يكن المشهد الذي شاهدناه لجهة الإشكال الحاصل على أكياس الحليب في إحدى "السوبرماركات" مألوفاً. توثيق الموقف بفيديو انتشر كالنار في الهشيم، كان كفيلاً بتحويله إلى خبر رقم "1" في وسائل إعلام محلية وخارجية تصف ما حصل بالشجار العنيف حول "كيس حليب" مدعوم. لكنّ المشهد على "غرابته" يختصر حال كثر من اللبنانيين الذين باتوا قلقين على أمنهم الغذائي شبه المفقود. تماماً، كما يختصر السيناريو القادم الأكثر قتامة والذي يتربّص باللبنانيين حتى في لقمة عيشهم. وبغض النظر عن الأسباب والتبريرات التي سيقت للحادثة، فإنّ ما حصل يُسلّط الضوء بلا شك على مشكلة جوهرية لطالما حذّر منها أصحاب العلم والإختصاص. ثمّة أداء خاطئ وفشل ذريع في سياسة الدّعم المتّبعة. ثمّة "تعويم" غير مسبوق للتجار والمحتكرين في سوق المواد المدعومة، فيما الفئات الأكثر فقراً والتي من المفترض أن تكون الفئات المستهدفة لم يصلها من الجمل سوى أذنه. وهذا كله في ظلّ تراجع القدرة الشرائية للمواطنين بنسبة كبيرة جداً في بلد بات فيه الحد الأدنى للأجور على عتبة الـ70 دولاراً فقط.
برو: 8 مليار دولار صُرفوا خلال العام الماضي على الدعم
لدى مناقشته للقضية، ينطلق رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتور زهير برو من سؤال بديهي وأساسي: ما الهدف من الدعم؟. وسُرعان ما يجيب على نفسه بالإشارة إلى أنّ الهدف المُعلن من الدّعم هو تأمين الحاجات الأساسية وسط أزمة بهذا الحجم يعيشها البلد، ومن المرجّح أن تطول لسنوات عديدة. الفئات المستهدفة من المفترض أنّها العائلات الأكثر فقراً والتي تتراوح بين 600 إلى 800 ألف عائلة. وفق تقدير برو، صُرف ما يفوق الـ8 مليار دولار خلال العام الماضي على هذ الدعم. هذا المبلغ الكبير من المفترض -برأي برو- أن يكون قد تناول هذه الفئة المحتاجة فقط، رغم أنّ كافّةالخبراء يؤكّدون أنّ كلفة الدعم لا تتجاوز المليار دولار، ما يعني أنّ هناك 7 مليار دولار ذهبوا في خانة السرقة والنهب، حيث كان همُّ وزير الاقتصاد راوول نعمة -بحسب برو- الزبائنية و"تظبيط" علاقاته مع التجار.
لم يصل إلى العائلات المستهدفة من الدعم سوى 5 إلى 10 بالمئة
ويلفت برو إلى أنّ العدالة تقتضي أن توجّه البضائع المدعومة حسب احتياجات الناس، وهذا الأمر لم يحدث. وفق برو، جرى إعطاء التجار والمستوردين الكبار كل هذه الأموال، وهم بدورهم تحكّموا في توزيعها على التجار الذين تربطهم بهم علاقة، ومن لا تربطهم بهم علاقة رفضوا إعطاءهم. تلقّينا في هذا الصدد -يقول برو- عشرات الشكاوى من التّجار الذين يشكون عدم تلقيهم المواد المدعومة، فيما يوزّع التاجر والمستورد الكبير هذه المواد على "حاشيته" في إطار من الزبائنية. ويوضح برو أنّنا وبناء على استطلاع أجريناه تأكّدنا بأنّه لم يصل الى العائلات المستهدفة من الدعم سوى 5 إلى 10 بالمئة بأحسن الحالات. كل الأموال ذهبت إلى جيوب التجار، ولم يصل للعائلات المحتاجة سوى النذر القليل، بحيث لم يتم توزيع المواد المدعومة سوى على المحال الكبرى، فيما الدكاكين الصغيرة لم يصل إليها سوى القليل القليل. وعليه، يرى برو أنّ سياسة الدعم التي طبّقتها الحكومة تعتبر بمثابة جريمة بكل ما للكلمة من معنى. جريمة أولاً بحق المودعين الذين تمّ نهب أموالهم وما تبقى من عملة صعبة لديهم، وثانياً بحق الفقراء الذين لم يصل إليهم الدعم ولم يتمكنوا من الوصول إلى أماكن التوزيع. وجريمة ثالثة جراء تخزين كميات هائلة من المواد المدعومة من قبل التجار.
مسؤولون عن إذلال الناس
ويشدّد برّو على أنّ جريمة المواد المدعومة يجب أن يعاقب عليها كل وزير وكل رئيس حكومة لعب هذا الدور. يصف اقتراح وزير الاقتصاد راوول نعمة باقتراح الدعم الفريد من نوعه على وجه الكرة الأرضية. تلك السياسة التي تقوم على دعم التجار لإيصال المواد إلى الفقير، بدل أن يدعم الفقير مباشرة كما يحصل في كل دول العالم عبر بطاقات دعم تموينية أو أموال مباشرة وفق استبيان يحدّد الشرائح الاجتماعية وحاجات كل منزل. وبالتالي، يؤكّد برو أنّ المسؤولين عن سياسة الدعم هم أنفسهم المسؤولين عن إذلال الناس والفظائع التي نراها اليوم، يختم برو.
شمس الدين: سياسة خطأ بخطأ
الباحث في "الدولية" للمعلومات محمد شمس الدين ينتقد في حديث لموقعنا سياسة الدعم المتبعة. إنّها سياسة خطأ بخطأ وغير مجدية وقائمة على هدر المال الذي لا يزال موجوداً في مصرف لبنان والمصارف. فهذا الدعم يذهب بقسم كبير منه إلى دول أخرى حيث يتمّ تهريبه، وقسم يصادره التجار ويعملون على تخزينه لحين رفع الدعم عن السلع ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها بشكلٍ كبير. كما يقوم هذا الدعم على سياسة انتقائية بحيث تتواجد السلع المدعومة في أماكن دون الأخرى. وهنا، يطرح شمس الدين رؤيته للحل، فيشدّد على ضرورة وقف دعم السلع اليوم قبل الغد، وتحويله باتجاه دعم الليرة. دعم السلع يستفيد منه فئات، ولا يستفيد منه الفقراء، وعليه لا بد من رفع كلّ أشكال الدعم وإعادة الأموال المخصّصة للدعم إلى المصارف التي تعطيها للبنانيين بحيث ندعم الليرة اللبنانية.
ما رأيناه من خلاف حول السلع المدعومة سوف نراه في أكثر من مكان
ومن وجهة نظر شمس الدين، عندما يصبح لدينا سيولة بالدولار ينخفض سعر صرفه ولا نعود بحاجة إلى الدعم. الدعم الموجود -بنظره- هو تأجيل للمشكلة بحيث أن ضرره أكثر من الإستفادة منه ولا يستفيد منه المواطن الفقير الذي يجب أن تخصّص له أموال مباشرة شهرية في سياق برنامج "دعم الأسر الأكثر فقراً"، أمّا أن يذهب هذا الفقير إلى المحال التجارية للتفتيش عن السلع المدعومة فهذه السياسة غير صحيحة إطلاقاً. وفي هذا السياق، يرى شمس الدين أنّ ما رأيناه من خلاف حول السلع المدعومة للأسف سوف نراه في أكثر من مكان في الأشهر القادمة وسط تراجع السلع المدعومة وفقدانها أكثر فأكثر من الأسواق لأنّ المحتكرين ينتظرون رفع الدعم من الآن حتى حزيران، ما يخوّلهم بيع السلع بأسعار كبيرة لاحقاً.
الحد الأدنى للأجور في لبنان من بين الأدنى عالمياً
كما يلفت الباحث في "الدولية" للمعلومات إلى أنّ الحد الأدنى الرسمي للأجور كان يوازي 450 دولاراً إذ يبلغ 675 ألف ليرة، وكان من بين الأعلى في المنطقة. وقد أجرينا دراسة احتسبنا فيها الحد الأدنى للأجور وفقاً لسعر صرف دولار على 9300 ليرة فسجّل 72 دولاراً، أمّا اليوم وفقاً لـ10 آلاف ليرة فيسجل الحد الأدنى للأجور 67 دولاراُ. وبحسب شمس الدين، فإنّ الحد الأدنى للأجور في لبنان هو من بين الأدنى عالمياً، فبنغلادش 95 دولاراً، ومصر 115 دولاراً، وقد بات لبنان بمستوى سيرلانكا وأفغانستان مع مفارقة أنه وبهاتين الدولتين تتأمن الحاجات الأساسية من مياه وكهرباء وغيرها، أما في لبنان فمضطرون لدفع فاتورة الكهرباء والمياه وسط غياب النظامين الصحي والتعليمي. لذلك، فإنّ معاناة اللبنانيين ستزداد أكثر، ولهذا الأمر انعكاسات كبيرة ستؤدي إلى ترهّل الإدارة والقطاع العام وتفشي الفساد والرشوة ما يعني أنّنا ذاهبون نحو تدمير البلد.