خاص العهد
الأسيرة المحررة أبو غوش لـ"العهد": "ظروف الأسيرات في تدهور"
خاص "العهد"
صعّد الاحتلال الصهيوني منذ نهاية عام 2019 وخلال العام المنصرم 2020 من استهدافه للطلبة الجامعيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، إذ اعتقل أكثر من 250 طالبًا خلال العامين، 70 منهم في 2020، حسب مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، كما أعلن جيش الاحتلال في تشرين الأول الفائت عن حظر "القطب الطلابي"، ثالث أكبر كتلة طلابية في جامعة بيرزيت. في تشرين الثاني، أفرج الاحتلال عن الأسيرة ميس أبو غوش، طالبة الإعلام في جامعة بيرزيت، التي قضت 16 شهرًا في سجن الدامون، حيث يحتجز الاحتلال 36 أسيرة فلسطينية في ظروف لا إنسانية.
موقع "العهد" الاخباري التقى بميس أبو غوش في رام الله، حيث تحدثت عن ظروف اعتقال الأسيرات الفلسطينيات، خاصة في ظل جائحة كورونا، وعن أسباب استهداف الاحتلال للطلبة الفلسطينيين، وعن تجربتها في التحقيق والاعتقال إضافة لرأيها بالتفاعل الإعلامي مع واقع الحركة الأسيرة، فكان اللقاء التالي.
- قبل اعتقالك كنتِ قد عملتِ في مجال قضية الأسرى، واطّلعتِ على تجاربهم وكتبتِ عنهم. هل كانت تجربتك في الأسر مفاجئة؟
نعم، تفاجأت بالتجربة العملية. كنت أثناء تدربي كطالبة إعلام أقرأ تجارب الأسرى وأعدّ التقارير عنهم، وكنت أشعر بالعجز، لأنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا إلا الكتابة عنهم. عندما دخلت السجن ومررت بالتحقيق، اكتشفت أنه لا يوجد وصف دقيق بما يكفي لنقل التجربة للناس. اكتشفت أن الزنزانة مثلًا أصغر بكثير وأقبح بكثير مما كنت أتوقع. اكتشفت أن البقاء داخل غرفة صغيرة لأيام متتالية دون الخروج منها أصعب بكثير من البقاء داخل المنزل لأيام، بل إنه لا مجال للمقارنة بين الأمرين.
في الأسر، كانت كل مرحلة أصعب من التي سبقتها. من الاعتقال إلى التحقيق، مرورًا بالتعذيب النفسي، كنت أتوقع أن تكون كل مرحلة هي الأصعب، لكن الأمور كانت تزداد صعوبة كل مرة. التحقيق العسكري، حيث التعذيب الجسدي، كان صعبًا ومؤلمًا، شمل الشبح والضرب والحرمان من النوم. لكن التعذيب النفسي الذي سبقه وتلاه كان أكثر إيلامًا. كانوا يجعلونني أسمع أصوات شبان يتعرضون للتعذيب الجسدي القاسي في زنزانة مجاورة ويصرخون من الألم، وكانوا يقولون لي إن هذا ما سيحل بي أنا أيضًا. في تلك المرحلة لم أكن أشعر بالخوف على نفسي، لكن بالقلق الشديد على هؤلاء الشبان، وبالغضب لعدم قدرتي على مساعدتهم. كنت أريد لتعذيبهم أن يتوقف فحسب.
كذلك اكتشفت كيف أن أمورًا كثيرة تتغير في نظرة الإنسان للأمور، أثناء وبعد الأسر. السجن يجعل المرء يقدّر قيمة الأشياء أكثر: ضجة الشوارع، الناس، الأصوات، الحركة ... يتعلم المرء كيف يشعر بتفاصيل الأشياء ويستمتع بها، حتى لو كان يعتبرها قبل ذلك مملة أو تافهة.
السماء مثلا، لا نراها في السجن إلا مجزأة من خلف شبك مزدوج، في باحة سجن الدامون، حيث يحتجز الاحتلال الأسيرات الفلسطينيات، وفقط لمدة نصف ساعة في اليوم يسمح لنا فيها بالخروج إلى الباحة. لم أكن أتخيل أنني سأقدّر يومًا قيمة القدرة على النظر إلى الشمس مباشرة، قدر ما أريد، وأن أفرح بذلك. ورغم أنني قضيت ستة عشر شهرًا فقط داخل الأسر، أي مدة قصيرة مقارنة بأسيرات أخريات، إلا أنني عندما خرجت شعرت برغبة كبيرة بالمشي في الشوارع ورؤية الناس، دون سبب معين، سوى أن هذا الشعور الصغير بالحرية بات ينقصني بعد الحرمان منه لأكثر من سنة. لهذا لا أستطيع التوقف عن التفكير بالأسرى والأسيرات الذين يقضون أحكامًا عالية، والذين يقبعون خلف قضبان الاحتلال منذ سنين طويلة.
- خلال العام الماضي، اعتقل الاحتلال عددًا كبيرًا من الطلبة الجامعيين. كيف أثر الاعتقال على حياتك الجامعية؟ كيف يؤثر على المجتمع الطلابي في فلسطين؟
ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال الطلاب. توقعت أن يتم اعتقالي بسبب نشاطي النقابي في الجامعة، لكن لم أتوقع أن أتعرض لتحقيق عسكري بسبب ذلك، ولم أتوقع أيضًا أن أجد على لائحة الاتهام عملي الصحفي، فقد كنت أتوقع حتى ذلك الحين أن دولة الاحتلال تتظاهر على الأقل بأنها ديمقراطية، لا أن تعلن جهارًا أن لديها مشكل مع الصحافة. لكن رغم تفاجئي بذلك، إلا أنني فهمت دومًا أنه لا يجب أن نستبعد أي احتمال، أو أن نتخيل أن الاحتلال بعيد عنا. حتى هنا، في وسط رام الله، حيث إننا لسنا على احتكاك مباشر مع الاحتلال، هو قريب منا ويسيطر على كل شيء، ويجب ألا ننسى ذلك.
عندما تم اعتقالي، كنت على بعد ساعات من تقديم امتحان، وكنت قد قضيت عدة أيام دون أن أنال قسطًا كافيًا من النوم بسبب الدراسة. في غرفة التحقيق، كان أول ما قلته للمحققين هو أنه علي أن أعود إلى المنزل لأن علي أن أقدم امتحانًا بعد ساعات، فأنا لست سوى طالبة جامعية. لكن في النهاية فهمت أن صفتي الطلابية هذه كانت هي بالذات سبب اعتقالي. فقد كان هناك استهداف للعمل الطلابي، وكثير ممن تم اعتقالهم خلال عام 2020 لم يقوموا بأي عمل سياسي، بل كانوا نشيطين نقابيًا في الجامعة فحسب. هو مجرد إرهاب للعمل الطلابي، ورسالة مفادها أن الاحتلال لن يسمح لنا بأي نوع من العمل الجماعي، خاصة للجيل الشاب. فالاحتلال لا يتحمل فكرة أن جيلنا، الذي جاء بعد كل الهزائم وبعد كل الإحباطات، لا يزال فيه طاقة للعطاء والعمل. فالاحتلال يرى أن أي فلسطيني يمكنه أن يؤثر، لهذا يريدون أن يمنعونا من التفكير بأي عمل من خلال محاولة إخافتنا.
هذا يفسر تركيز اعتقالات الاحتلال على الطلبة، خاصة جامعة "بيرزيت"، وتركيزهم في الأشهر الأخيرة أيضًا على الطالبات، لأننا لا نمثل النضال الطلابي وانتماءنا الفلسطيني فحسب، بل نمثل أيضًا الحضور النسائي، واسترداد المرأة لمكانها ودورها، وهذا بحد ذاته عنوان نضالي وحده. ورغم أن عدد الأسيرات اليوم هو قليل جدا مقارنة بعدد الأسرى الذكور، إلا أن اعتقال النساء والطالبات خاصة هو رسالة بأننا لسنا في مأمن من الاعتقال.
- هل التقيت بزميلات لك في الدراسة داخل الأسر؟ وكيف كان التفاعل بينكن؟
بينما كنت في السجن التقيت الأسيرة المحررة سماح جرادات، التي أفرج عنها قبلي. ومن ثم انضمت إلينا الأٍسيرة ليان كايد، والأسيرة إيلياء أبو حجلة، والأسيرة ربى العاصي، والأسيرة شذى حسن، وجميعهن طالبات وزميلات لي في جامعة "بيرزيت"، والأسيرة بيان فرعون، الطالبة في جامعة القدس. تشاركت الأسر معهن جميعًا خلال مدة زمنية لا تزيد عن السنة ونصف السنة، فالتركيز على اعتقال الطلبة، بما يشمل الطالبات، كان واضحًا.
كنا أنا والأسيرة سماح جرادات نتحدث ونتبادل تجربتينا في الاعتقال وما بعده. اكتشفنا مثلًا أننا كنا نقوم بالأمور نفسها خلال التحقيق، كالتحديق في الحائط وتخيل أشكال هندسية في تبريزات الحائط، من أجل التكيف مع ساعات الشبح الطويلة، وكان الأمر يضحكنا أحيانًا. الأسيرات يرفعن من معنويات بعضهن البعض، ويؤازرن بعضهن بعضًا. فمثلًا تقوم الأسيرات المتمكنات من اللغة الإنكليزية أو الرياضيات بمساعدة الأسيرات الأضعف في هذه المجالات. هذا كله مهم لكل واحدة من الأسيرات معنويًا ونفسيًا.
- كيف هي ظروف الأسيرات داخل سجن الدامون؟ وكيف كانت معنوياتهن عندما غادرتِهن؟
ظروف جائحة كورونا أثرت كثيرًا على ظروف الأسر في سجن الدامون، وعلى معنويات الأسيرات. فقد استغل الاحتلال ذريعة الجائحة لمنع كافة الزيارات، ومنعوا الكتب والصور عنا أيضًا. والصور والكتب مهمة جدا للأسيرات، فهي منفذ للعالم الخارجي، في ظل منع الزيارات، وتقليص مساحة الحركة داخل السجن، التي كانت محدودة أصلًا. إضافة لمنع الزيارات والكتب، منعت إدارة السجن أيضًا المكالمات الهاتفية، وبذلك قطعت كل تواصل ممكن، على شحه، للأسيرات بعائلاتهن وبالعالم، ولك أن تتصور تأثير ذلك على الحالة النفسية للأسيرات. بذريعة جائحة كورونا أيضًا، منع الاحتلال الأسيرات من لقاء المحامين لعدة أسابيع. بعد ذلك منعونا من التنقل بين الزنازين، وبتنا لأسابيع طويلة لا نغادر الزنزانة الواحدة، حيث سبع أو ثماني أسيرات في بضعة أمتار مربعة.
الأسيرات اليوم في ظروف أصعب من ذي قبل، وهذا ينطبق على الحركة الأسيرة ككل. ورغم جميع الظروف السيئة داخل الأسر، من الرطوبة داخل الزنازين، والكاميرات التي تراقب الأسيرات طوال الوقت وفي كل مكان، والطعام سيئ الجودة، فإن إلغاء زيارات المحامين والأهالي هو أصعب ما في الأمر. كنا إذا جاء المحامي نتحمس لمجرد أن أحدهم يزورنا من العالم الخارجي، ونطلب من المحامي أن يخبرنا بحال الشوارع والسماء والناس، فيضحك المحامون ويقولون لنا إن العالم في الخارج لا يزال على حاله، وإنه ليس فيه أي شيء مميز.
- هل هناك أي إجراءات حقيقية للوقاية من فيروس كورونا في سجن الدامون؟
الاحتلال لا يقلق على صحة الأسيرات والأسرى، بل يقلق على أمن سجانيه. فلو اهتمت إدارة السجن بسلامة الأسيرات مثلًا، لوفرت لنا كمامات ومواد تعقيم. في الواقع أحضروا لنا كمامات بنية اللون كلون اللبس الموحد الذي تفرضه إدارة السجون على الأسرى، بواقع كمامة واحدة لكل أسيرة، وعلينا أن نغسلها ونعيد استخدامها. واذا ضاعت أو تلفت، لا يوفرون غيرها. بادئ الأمر عقموا الزنازين مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، لمدة أسبوعين، ثم توقفوا عن التعقيم، رغم أن السجانين كانوا يدخلون إلى الأقسام بلا كمامات، وكانت حالات الإصابة في دولة الاحتلال في أوجها. في الأيام الأولى قللوا عدد السجانين والضباط، ثم عادوا إلى زيادة العدد وكأن الأمر انتهى. في الوقت نفسه، فيما بدأت إدارة السجن تهمل في توفير وسائل الوقاية من الوباء للأسيرات، كانت تشدد على إجراءات كبت وعزل الأسيرات وتقييد مساحة حركتهن داخل الزنازين، بذريعة الوباء نفسه.
- كيف تقيّمين تفاعل الرأي العام بصورة عامة، والإعلام على وجه الخصوص، مع حال الأسيرات الفلسطينيات، والأسرى والأسيرات من الطلبة؟
للحظة شعرت أنه يتم التركيز على حالتي بشكل مبالغ فيه، ربما لكوني فتاة، رغم أنني لست الوحيدة، ورغم أن غيري من الشبان تعرضوا لتحقيق عسكري أشد قسوة ووحشية. بشكل عام، أرى هناك تقصيرا إعلاميا بحق الأسيرات، وبحق الأسرى الطلاب. فهناك طلاب هدمت بيوتهم، وهناك طلاب أسرى عائلاتهم تمر بظروف صعبة اقتصاديا، وهم من جميع أنحاء فلسطين. الجامعة تضم أناسًا من جميع المناطق، وهم المحرك الأساسي للنشاط في المجتمع، وكل واحد من هؤلاء الطلبة هو قصة بذاته.
إن مجتمع الطلاب بشكل عام هو في مقدمة المجتمع ككل، وهو من الفئات القليلة التي لم تنطفئ فيها القدرة على العطاء دون مقابل. لكنه لم يعد يلقى الاهتمام الذي كان يلقاه في السابق من سائر المجتمع. رغم ذلك، فإن الحركة الطلابية ستخرج من هذه الأزمة كما خرجت من غيرها، فهذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها. هناك الكثير من الأسرى الذين اعتقلوا وهم طلبة منذ عشر سنوات وأكثر، لكن الحركة الطلابية استمرت. فالطلبة هم الفئة التي لا تخاف، ولا تفكر بالمقابل، وهي متجددة، ولن تنتهي.