معركة أولي البأس

خاص العهد

 مصفاتا تكرير النفط المعطّلتان: لبنان يخسر مليارات الدولارات و
11/12/2020

 مصفاتا تكرير النفط المعطّلتان: لبنان يخسر مليارات الدولارات و"الكارتيل" يجنيها 

فاطمة سلامة

على قدر ما يعاني لبنان من أزمات، على قدر ما أضاع فرصاً للنهوض. نكاد نبصم بالعشرة أنّ الأزمات المتتالية التي يعاني منها لبنان اليوم تفوق طاقته على التحمل. لكن في المقابل، فإنّ الأفق ليس مغلقاً، وفرص النهوض لا تزال موجودة. المطلوب فقط وفقط وضع كل الحسابات والمصالح الشخصية جانباً والانطلاق من مبدأ وطني بحت. نكاد لا نصدّق عندما نغوص أكثر في ملفات الماضي أنّ كمية "السمسرات" الموجودة وسياسة تقسيم الكعكعة وصلت الى مستويات متقدّمة لم يكن فيها هم المسؤولين جيوبهم فقط، بل كانوا يفتّشون على استمرار هذه النعمة حتى ولو كان من بعدها الطوفان. قصّة لبنان مع النفط نسخة "طبق الأصل" عن هذا الواقع. قصّة من المفيد لا بل من الواجب استحضارها اليوم بينما "تقرّش" الحكومة كل ليرة للاستفادة منها في قضية ترشيد الدعم، وفي ترقيع سياسة مدمّرة تستمر منذ التسعينيات حتى اليوم. ولمن لا يعلم، فإنّ لبنان يمتلك مصافي لتكرير النفط في طرابلس والزهراني، حيث عمل على استيراد النفط وتخزينه. في ثلاثينيات القرن الماضي جرى مدّ أنابيب من العراق، بموازاة إنشاء مصفاة طرابلس. وفي أواخر الأربعينيات وتحديداً العام 1949، قامت السعودية بمدّ أنابيب نفط لضخّه إلى مصفاة الزهراني، واستمرت هاتان المصفاتان بالعمل الى أن توقفتا في الثمانينيات ليستورد لبنان النفط بواسطة البواخر مع ما تحمله هذه الآلية من أكلاف باهظة. 

وعلى هامش هذه القضية الحيوية، ثمة أسئلة تثار: اذا كان العمل بمصافي التكرير قد توقّف في لبنان لأسباب معينة آنذاك، لماذا لم يُستأنف العمل بها بعد جلاء تلك الظروف حتى تحوّلت المصافي اليوم الى مصافٍ مهترئة وثروة يأكلها الصدأ لتُهدر في خزاناتها المعطّلة ملايين الدولارات التي حرم منها لبنان؟ من تسبّب بإهمال هذه المصافي ولحساب من جرى الاستمرار بالاقتصاد الريعي الاستهلاكي على حساب الاقتصاد المنتج؟ لماذا تركت كل الحكومات المتعاقبة -والتي صرفت أموالاً طائلة سنوياً على فاتورة استيراد المحروقات والفيول- هذا الملف خارج حساباتها ولم تفكّر بإجراء صيانة لهذه المصافي منذ بداية التسعينيات حتى الأمس القريب؟ ماذا خسر لبنان جراء عدم استثماره لهذه المصافي خاصة وسط العروضات المتأتية من الخارج لا سيما من إيران التي قدّمت للبنان عرضاً "يحلم به" ويستطيع بموجبه استيراد النفط بالعملة الوطنية؟ وكم سيتكبّد لبنان أموالاً لقاء تكرير النفط الخام حال نجاح المفاوضات باستيراده من العراق؟. 

ملف مصافي التكرير حساس..

ما سبق من أسئلة وجدنا إجابات شافية لها مع أحد المتخصّصين في قطاع النفط بلبنان الذي طلب عدم الكشف عن اسمه نظراً لحساسية هذا الملف. على قدر أهمية هذه المسألة، على قدر حساسيتها. وفق المصدر، إنها قضية تندرج في إطار "المحظورات" بعدما شابها تحذيرات لكل من يتجرأ على فتح هذا الملف الاستراتيجي للبنان. سألنا المصدر:" لماذا كل هذه الحساسية حيال قضية وطنية؟"، فأجاب: "بكل بساطة لأنّ هذا الملف خاسر لـ"كارتيل" معيّن ولشريكه من الطبقة السياسية جنوا مليارات الدولارات بفضل الاستيراد. وعليه، فمن مصلحتهم بقاء الحال على ما هو عليه دون الاستفادة من هاتين المصفاتين". 

كان يُصدّر لبنان يومياً زيوت سيارات وكيروسين للطائرات الى دول عدة 

قبل حديث المصادر عن أهمية هاتين المصفاتين، تقدّم رؤية تاريخية للعمل فيهما، فتوضح أنّ مصفاة طرابلس كانت تستقبل النفط العراقي، ومصفاة الزهراني كانت تستقبل النفط السعودي. الانتاج اليومي في هاتين المصفاتين كان يتنوّع ما بين بنزين، ومازوت، وغاز منزلي، فضلاً عن زيت السيارات وكيروسين للطائرات. وبحسب المصدر، كان يُصدّر لبنان يومياً زيوت سيارات وكيروسين للطائرات الى سوريا وتركيا واليونان وأحياناً الى جنوب إيطاليا. وفيما كنا نستورد نفطاً خاماً كنا نكرّر قسماً منه ونصدّر قسما آخر في بعض الأحيان لنتقاضى أرباحا عليه، الأمر الذي يأتي بعملة صعبة الى لبنان. أما القدرة الاستيعابية لهاتين المصفاتين فكانت في حينها بين 30 الى 60 ألف برميل يومياً. هذه الكمية كانت مرتفعة وقتها، أما اليوم فبتنا بحاجة الى 300 ألف برميل يومياً. 

إيقاف العمل بمصفاتي التكرير كان لصالح "كارتيل" المستوردين وبعض الطبقة السياسية

وفي سياق حديثه، يتطرّق المصدر الى ظروف إيقاف العمل بالمصفاتين، فيوضح أنّ قراراً صدر في أواخر الثمانينيات بإقفالهما بشكل كامل بسبب أزمات سياسية بين سوريا والعراق وبسبب الحرب "الاسرائيلية" العربية بعدما تسلمت الدولة إدارة هذا الملف عقب انسحاب الشركات الكبرى من لبنان في السبعينيات جراء الحرب الدائرة. وهنا تؤكد المصادر أنّ تلك الأزمات كان من المفترض أن لا تؤدي الى إيقاف العمل بهاتين المصفاتين، فعندما يتعطّل الأنبوب الممتد الى العراق كنا نستورد نفطا "خاما" ونعمل على تصفيته للسوق المحلي لا بل نصدّر منه أيضاً للسوق الخارجي. وعليه، فإنّ أسباب الإيقاف واهية -يقول المصدر- الذي يشدّد على أنّ تعطيل هذه المصافي كان لصالح "كارتيل" المستوردين الذين جنوا أموالاً طائلة، ويومها حصلت صفقة بين المستوردين وممثليهم في الحكومة فكان قرار إقفال المصافي والاعتماد على الاستيراد. وفق المصدر، فإنّ أزمة النفط الموجودة في لبنان سببها إيقاف العمل بمصفاتي الزهراني وطرابلس حيث جرت سرقة القطاع من الدولة وقبله من شركات خاصة خارجية.  
 
خسارتنا المالية كبيرة 

يُفتّش المصدر عن مصطلح يصف فيه قرار إقفال مصفاتي التكرير فلا يجد. برأيه، هو قرار خبيث جداً لأنّه حرم لبنان من مداخيل مهمة للميزانية ومن العملات الصعبة. فلو استوردنا نفطاً خاماً لكنا وفرنا كثيرا ًعلى الخزينة. منذ عشر سنوات عندما كان برميل النفط بحدود الـ 140 دولاراً، كان بإمكاننا -بحسب المصدر- استيراده خاماً بـ20 دولاراً، فنعمل على تكريره ونبيع البنزين على أساس أن سعر برميل النفط 140 دولاراً، فكم تربح الخزينة بهذه الطريقة؟ يسأل المصدر الذي يوضح أنّ حاجة لبنان اليومية -بحسب الإحصاءات- تتراوح بين الـ 150 الى 200 ألف برميل من النفط الخام خلال أزمة "الكوفيد 19"، و250 ألف برميل في الذروة. وهنا يستذكر المصدر الأكلاف العالية التي دفعها لبنان على الاستيراد، فعلى سبيل المثال تراوحت كلفة فاتورة استيراد النفط عام 2012 بين الخمسة وستة مليارات دولار، وهي كلفة مرتفعة جداً بينما لو كنا نستورده خاما لكنا وفرنا كثيراً. هذا المبلغ ذهب -وفق حسابات المصدر- الى يد التجار وليس الحكومة، الى يد الكارتيل وممثليه في الدولة اللبنانية والذين كانوا أقوى من الجميع. 

وفي الختام، يتطرق المصدر الى مسألة استيراد النفط العراقي، فيوضح أنّه وفي حال جرى الاتفاق على استيراد النفط الخام من العراق فإننا بأمس الحاجة الى تكريره، وهنا نستذكر أهمية المصافي الموجودة لدينا، فكل برميل نفط سيتطلب تكريره ما يقارب الدولارين الى خمسة دولارات حسب نوعية المشتقات المستخلصة وحسب الدولة التي سنعتمدها، فهل من يعتبر ويستيقظ لأهمية هاتين المصفاتين؟ تسأل المصادر بأسف. 
 
عجاقة: مصافي التكرير سمحت للبنان بتأمين حاجته وتصدير الفائض 

الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة يوجز في حديث لموقع "العهد" الإخباري تاريخ مصفاتي النفط وعملهما في لبنان، فيلفت الى أنّ الأحداث التي عصفت بالبلد أظهرت أن السلطات اللبنانية ارتكبت خطأً إستراتيجيا بوقف العمل بمصفاتي تكرير النفط في طرابلس والزهراني. فهذه المصافي التي بدأت عملها في النصف الأول من القرن الماضي، جاءت لتُلبي حاجة تصدير النفط الخليجي والعراقي إلى الغرب عبر خطّي أنابيب: الأول من العراق باتجاه طرابلس (١٩٣٥) والثاني من السعودية باتجاه الزهراني (١٩٤٩). هذه الأنابيب كانت تدرّ على لبنان أموالًا طائلة بمعدّل ١١ سنتاً للبرميل الواحد.

 مصفاتا تكرير النفط المعطّلتان: لبنان يخسر مليارات الدولارات و"الكارتيل" يجنيها 

ويشير عجاقة الى أنّ الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان في سبعينيات القرن الماضي وحتى أوائل التسعينيات أوقفت العمل بالمصفاتين وأصبح لبنان يستورد النفط بواسطة البواخر ما زاد الكلفة على الاقتصاد اللبناني خصوصا مع الضرائب التي كانت تفرضها الميليشيات في مناطق وجودها. هذا الواقع الأليم جعل صفيحة البنزين من الأغلى إقليميا كذلك الأمر بالنسبة للفيول المُستخدم في إنتاج الطاقة الكهربائية. والجدير ذكره -بحسب عجاقة- فإن ٦٥٪ من كلفة إنتاج الكهرباء هي لاستيراد الفيول ما رتب كلفة سنوية على خزينة الدولة تراوحت بين مليار وملياري دولار سنويا.

وبعد انتهاء الحرب الأهلية، يقول عجاقة "كانت العلاقات مع الخليج في أفضل حالاتها وعلى الرغم من ذلك لم تأخذ السلطات اللبنانية قرار إعادة العمل بمصافي طرابلس والزهراني. وإذا كانت الجدوى من إعادة تأهيل المصافي بطاقتها الحالية غير مُجدية نظراً إلى أن احتياجات السوق اللبناني تتجاوز الـ١٢٠ ألف برميل يومياً أي أكثر من قدرة هذه المصافي، إلا أنّ إعادة بناء مصافٍ جديدة مع قدرة على تكرير العديد من أنواع النفط هو أمر ذو جدوى فعلية" يضيف عجاقة.

مصافي التكرير سمحت للبنان بتأمين حاجته وتصدير الفائض

ويتحدّث عجاقة عن أهمية "مصافي التكرير اقتصاديا وماليا فيوضح أنها سمحت للبنان في الماضي بتأمين حاجته وتصدير الفائض إلى الأسواق العالمية. هذا الأمر دفع إلى خفض كلفة النشاط الاقتصادي إضافة إلى تأمين مدخول عالي. أما اليوم ومع غياب هذه الأنابيب والمصافي، فقد أصبحت كلفة استيراد المحروقات تقدّر بـ٣٠٠ مليون دولار شهرياً (٢٠٠ مليون دولار بنزين ومازوت و١٠٠ مليون دولار فيول). 

كارتيلات النفط تمنع أي مشروع

ويُشدّد عجاقة على أنّ "كارتيلات النفط تمنع أي مشروع إنشاء مصافٍ للنفط حيث إن عملها سيتوقف بدليل العرض القطري الذي انتقل إلى تونس حيث تمّ إنشاء مصفاة قرب السوقيرة.  هذا المشروع الذي تبلغ قيمة الاستثمارات فيه نحو مليارَي دولار، تمّ عرضه على لبنان في عام 2006، وجرى توقيع مذكّرة تفاهم في شأنه مع وزير الطاقة والمياه في ذلك الوقت محمد فنيش، وكان يهدف الى تكرير نحو 150 ألف برميل يومياً من المكثّفات القطرية... إلّا أنّ الحكومة لم تمضِ بالمشروع".

العالم يحتاج الى مصافي تكرير 

ووفق عجاقة، يبرز إلى العلن اليوم حاجة العالم إلى مصافي تكرير مع عجز واضح من قبل الدول المُنتجة للنفط،  مثال على ذلك، منطقة الشرق الأوسط التي تُتنج ٣٢٪ من النفط العالمي الخام ولها قدرة تكرير لا تتخطّى الـ ١١ مليون برميل يوميًا. كما أنّ الدول العربية وعلى الرغم من احتوائها على 45 مصفاة تكرير، إلّا أنها لا تستطيع تكرير أكثر من 8.3 ملايين برميل في اليوم وهذا لا يُغطي إنتاجها البالغ 21 مليوناً يومياً، ما يعني أنّ هذه الدول بحاجة إلى تكرير نفطها لكي تستطيع تصديره بسعر أعلى.

إعادة العمل بمصفاتي النفط سيؤدي حتماً إلى تثبيت سعر المشتقات النفطية

ويؤكّد عجاقة أنّ إعادة العمل بمصفاتي طرابلس والزهراني مع قدرة إنتاجية تفوق الـ 200 ألف برميل في النهار وقدرة تكرير عدة أنواع من النفط، تؤدي حتماً إلى تثبيت سعر المشتقات النفطية في السوق المحلي، وإرساء ثبات اقتصادي، ويؤدي إلى تطوير القطاع الفني والصناعي والجامعي أو الثقافي والتقني".

إقرأ المزيد في: خاص العهد