معركة أولي البأس

خاص العهد

04/11/2020

"السرية المصرفية" شمّاعة تعيق مكافحة الفساد..ورفعها ضرورة وطنية

فاطمة سلامة

لطالما سمعنا من مصادر قضائية أنّ البت بقضية فساد هنا أو هناك رهن رفع "السرية المصرفية". يشكو قضاة أنّ هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان لا تزوّدهم بالمعلومات الضرروية عن حسابات أشخاص يُشتبه بأمرهم في عمليات فساد وما شابه بذريعة "السرية المصرفية". تلك السرية باتت شماعة جاهزة على الرف متى حاول البعض الهروب والتغطية على قضايا عدة. وقد شكّلت هذه المسألة مثار جدل واسع في السنوات الأخيرة حيث باتت "السرية المصرفية" عائقا حقيقياً أمام مكافحة الفساد، خصوصاً وسط إصرار البعض على تطبيقها وإهمال كافة القوانين والحالات التي تسقط بموجبها "السرية المصرفية".

اليوم، يحتدم الجدل حول "السرية المصرفية" التي باتت عائقاً يهدّد مستقبل التدقيق الجنائي في لبنان. تذرع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بهذه الشماعة لعدم تزويد الشركة المكلّفة التدقيق "ألفاريس أند مارسال" بالمعلومات اللازمة حفاظاً على السر المهني كما يقول. فما أهمية رفع السرية المصرفية؟ وهل يحق لمصرف لبنان التذرع بها؟. 

فياض: إلغاء السرية المصرفية شرط من شروط مكافحة الفساد 

عضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب الدكتور علي فياض يؤكّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّ كتلة الوفاء للمقاومة تؤيّد رفع السرية المصرفية مع عدم التحفظ مطلقاً على هذه القضية. وفق فياض، تكمن أهمية رفع السرية المصرفية في أنها تتيح أمام الهيئات القضائية المعنية والهئية الوطنية لمكافحة الفساد تتبع الأموال العمومية التي جرى كسبها بطريقة غير مشروعة. ويؤكّد فيّاض أنّه عندما جرت مناقشة هذا المشروع أيّدنا إعطاء القضاء حق رفع السرية المصرفية، علماً أنّ ما أقر في الإثراء غير المشروع حصر مسألة رفع السرية المصرفية فقط بهيئة التحقيق الخاصة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وهنا يشدد فياض على أنّه في الظروف اللبنانية الحالية التي يتفشى فيها الفساد على أوسع مدى تصبح مسألة إلغاء "السرية المصرفية" مسألة حيوية وشرطاً من شروط مكافحة الفساد. 

"السرية المصرفية" شمّاعة تعيق مكافحة الفساد..ورفعها ضرورة وطنية

رفع السرية..أفكار طرحت لا تتناقض مع القانون 

ويلفت فياض النظر الى أنّ رفع السرية المصرفية لا يطال كل المواطنين، بل هناك إجراءات عديدة منها ما يطال الشخص الذي تدور حوله شبهات فساد. تلك الإجراءات تصبح بموجبها عملية رفع السرية المصرفية سهلة، بالإضافة الى إجراءات أخرى يتضمّنها قانون الإثراء غير المشروع والذي يحتّم على كل موظف عمومي منتخب أو معين أن يقدّم بلاغات متلاحقة حول أمواله؛ فور تعيينه، وقبل تقاعده بشهرين وكل ثلاث سنوات. 

وفيما يتعلّق بتذرع مصرف لبنان بالسرية المصرفية وعدم تقديم الحسابات التي طلبتها شركة التدقيق الجنائي، يقول فياض: "هناك أفكار طرحت لا تتناقض مع القانون عبر تحويل الحسابات الى أرقام. أما الحسابات التي يُشك بأمرها، ويتبين أن بداخلها حركة مريبة فيجري فتح ملف قضائي حولها، ويتحول الى هيئة التحقيق الخاصة". وعليه، يرى فياض أنّ هذا الأمر مطلوب ويساعد ويجب أن يتم التعاطي معه بشفافية عالية وبالطريقة التي تراعي القانون في الوقت ذاته.

يمين: البعض يعتقد أن السرية المصرفية تشكل إحدى الحمايات من الأفعال الجرمية

ما هي "السرية المصرفية"؟ 

الخبير الدستوري الدكتور عادل يمين يستهل حديثه لموقع "العهد" الإخباري بتعريف مفهوم "السرية المصرفية". وفق يمين :"هي موجب ملقى على عاتق الموظفين والمديرين في المصارف التي تتخذ شكل شركات مغلقة سواء أكانت لبنانية أم أجنبية ولها فروع في لبنان. هذا الموجب يتمثل في الامتناع عن إفشاء السر المهني المتصل بزبائنهم وعملائهم في ما يتعلق بحركة حساباتهم لأي جهة كانت حتى ولو بأمر قضائي". 

ويسترجع يمين تاريخ إقرار "السرية المصرفية"، فيوضح أنها جاءت بناء على اقتراح النائب ريمون إدة عام 1956 لتشجيع المتمولين العرب والخليجيين خصوصاً على إيداع أموالهم في لبنان. وفق يمين، حقق هذا القانون حينها نتائج جيدة لتعزيز القطاع المصرفي من خلال دفع العرب لاعتماد لبنان كمصرف لهم وهو ما ساهم في الازدهار وتقوية القدرة الائتمانية للمصارف. ولكن اليوم هناك تساؤل -يقول يمين- حول مدى فائدة هذا الاعتبار في ضوء ما تعرض له النظام المصرفي والنقدي منذ تشرين الأول 2019 لغاية اليوم خصوصاً على صعيد تقييد حركة السحوبات وعدم تلبية المصارف لحقوق المودعين ما أحدث هزة لدى المتمولين بحيث يحتاج الأمر الى خطوات لاستعادة الثقة بالنظام المصرفي.

"السرية المصرفية" شمّاعة تعيق مكافحة الفساد..ورفعها ضرورة وطنية

ويشدّد يمين على أنّ الخوف من رفع "السرية المصرفية" له سببان؛ أول بريء يتعلّق بما ذكر آنفاً عن الخوف من تراجع القدرة الائتمانية، وثان خبيث يتمثل برغبة من يمارسون أعمالاً غير مشروعة وهم كثر، حيث يعمدون الى تبييض الأموال والتجارة بالمخدرات أو ممارسة الإثراء غير المشروع وأعمال فساد ويعتقدون أن السرية المصرفية تشكل إحدى الحمايات لهم من أفعالهم الجرمية، مع العلم أنّ قانون مكافحة تبييض الأموال لو طبق كما يجب لكان رفع السرية حتمياً في الحالات المذكورة. وهنا يُشدّد يمين على أنّ من واجب هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان أن ترفع السرية المصرفية، لكن للأسف فتطبيق هذا القانون لا يكون دائماً على ما يرام ما يترك المجال قائماً لبعض المرتكبين للاختباء وإخفاء جرائمهم وتعزيز الفساد. 

قانون تعزيز الحق في الوصول الى المعلومات يلغي السرية المصرفية

وحول تذرُّع مصرف لبنان بالسرية المصرفية لعدم تزويد شركة التدقيق الجنائي بالمعلومات المطلوبة، يؤكّد يمين أنّ سوء تفسير "السرية المصرفية" وتذرع البعض بها يهدّد تطبيق عقد التحقيق الجنائي المحاسبي المالي المركز، حيث يتذرّع حاكم مصرف لبنان بالسرية المصرفية، فيما أشارت هيئة "التشريع والاستشارات" في مطالعتها إلى أنّ قانون تعزيز الحق في الوصول الى المعلومات الصادر عام 2017 يلغي السرية المصرفية عن حسابات الدولة، وبالتالي فالأرقام العائدة للدولة اللبنانية لا تكون محمية بالسرية المصرفية. وبرأي يمين، يمكن لمصرف لبنان أن يسلّم الأرقام العائدة لأشخاص في القانون الخاص للشركة المدقّقة مع تغييب أسمائهم واستبدالها برموز وبذلك تُحفظ السرية المصرفية. 

مصرف لبنان غير مشمول بالسرية المصرفية

يذهب يمين أبعد من ذلك، فبالعودة لقانون السرية المصرفية يتبين أن هذا القانون يلزم المصارف التي تتخذ شكل شركة مغفلة بالسرية المصرفية، في حين أن مصرف لبنان وبحسب قانون النقد والتسليف هو من القانون العام وليس شركة مغفلة وإن كان يعمل وفقاً للقواعد التجارية، الا أنّ السرية المصرفية تطال الشركات التجارية المغفلة. برأي يمين هذه القضية باتت مسار منازعة بين أصحاب الرأي القانوني والفقهاء. وهنا يعيد التأكيد أنّ مصرف لبنان غير مشمول بالسرية المصرفية، فضلاً عن أنّ لبنان ينتسب الى مجموعة هيئات التحقيق الخاصة في العالم ويشغل مركز نائب الرئيس فيها. هذه المجموعة تسقط كل الموانع بمن فيها السرية المصرفية فيما يتعلق بالتحقيق الجنائي المحاسبي المركز.

وفي الختام، يوضح يمين أنّ تكتل "لبنان القوي" وقطعا لدابر الجدل تقدّم باقتراح قانون لإسقاط "السرية المصرفية" في حالات التحقيق والتدقيق الجنائي المالي، وفي حال إقرار هذا القانون بالسرعة المطلوب يكون الحل الأمثل الذي يقطع باب الجدل والآراء والاجتهادات المتضاربة.

الكيك: إرادة المشترع لم تكن منصرفة إلى بسط حماية قانونية على أموال غير مشروعة أو تجاوزات

بدورها، الباحثة في الشؤون القانونية المصرفية الدكتورة سابين الكيك تؤكّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّ السر المصرفي بمعناه القانوني الدقيق في إطار سر المهنة هو" الموجب الملقى على عاتق كل ممتهن يقضي بعدم إفشاء الأسرار المهنية المتعلقة بزبائنه والتي اطلع عليها بحكم وظيفته أو بمعرض قيامه بهذه الوظيفة، وهذا الموجب فرضته نصوص عامة، كنص المادة 579 من قانون العقوبات اللبناني"..

أما السرية المصرفية في لبنان فهي الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم إفشاء أسرار عملائه وهي تخضع لأحكام قانونية خاصة تفرض بصراحة ووضوح التكتم وتعاقب الإفشاء، وبموجب قانون 3 أيلول 1956، تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية.

إلا أنّ الكيك تشدّد على أنّ "إن إرادة المشترع عند إصداره قانون السرية المصرفية والمستقاة من حرفية ما ورد في أسبابه الموجبة لم تكن منصرفة إلى بسط حماية قانونية على أموال غير مشروعة أو تجاوزات المصارف والمصرفيين، بل كانت تهدف أساساً "للسعي لجذب الرساميل الأجنبية إلى لبنان وبصورة خاصة رساميل الدول العربية، لأن المنافع التي سيجنيها الاقتصاد ستعوض كفاية عن الأضرار التي قد يلحقها هذا التشريع بخزينة الدولة لجهة تحصيل الضرائب".

استثناءات

وقد استثنى قانون 1956 حالات معينة من السرية المصرفية وردت على سبيل الحصر، وهي:

1- إذن العميل أو ورثته خطيا
2- صدور حكم بإشهار إفلاس العميل
3- وجود نزاع قضائي بينه وبين البنك بمناسبة الروابط المصرفية (المادة 2 من قانون السرية المصرفية)
4- وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع (المادة 7 من قانون السرية المصرفية)
5-توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الادارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات، وذلك وفق المادة 15 معطوفة على المادة 13 من القانون الرقم 2 تاريخ 16/1/1967، المتعلق بإخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأحكام خاصة
6- الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها
دعوات دولية لرفع السرية المصرفية

وبحسب الكيك، تضافرت الجهود الدولية منذ اتفاقية فيينا عام ١٩٨٨ لرفع السرية المصرفية التي تعيق مكافحة بعض الجرائم وعمليات تبييض الأموال، وذلك من خلال معاهدات دولية واتفاقيات ثنائية بين الدول انطلاقا من ضرورة عدم الاحتجاج بسرية العمليات المصرفية من أجل تقديم السجلات المصرفية (البند الثالث من المادة الخامسة من الاتفاقية)، وتوفير النسخ الأصلية او الصور المصدَّق عليها من السجلات والمستندات المصرفية (الفقرة "و" من البند الثاني من المادة السابعة من الإتفاقية)، ولا شك بأن القيام بهذه الإجراءات يتطلب رفع السرية المصرفية أو الحد من نطاقها.

مصرف لبنانالسرية المصرفية

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة