ابناؤك الاشداء

خاص العهد

14/10/2020

"سمعة" القطاع المصرفي بـ"الأرض": كيف السبيل لاستعادة الثقة؟ 

فاطمة سلامة

كشفت الأزمة الاقتصادية عن هشاشة القطاع المصرفي في لبنان. القطاع الذي صنّفه البعض لسنوات وسنوات على أنه رافعة الاقتصاد اللبناني بات اليوم سبباً رئيسياً في الأزمة الحالية. "سمعته" أضحت بالأرض، ولا غرابة في هذا الأمر، فما اقترفته المصارف على مدى نحو عام كامل كفيل بفقدان الثقة كل الثقة بهذا القطاع. تبدو الثقة والقطاع المصرفي بمثابة خطين متوازيين لا يلتقيان. وأي ثقة ولا تزال صور المودعين كالمتسولين أمام المصارف حاضرة في البال؟ أي ثقة والودائع لا تزال محجوزة وبعضها مجهول المصير؟. 

والمؤسف أنّ تضرر القطاع المصرفي أرخى بظلاله على الاقتصاد اللبناني بأكمله. فقدان الثقة بالمصارف في بداية الأزمة دفع المواطنين الى المسارعة لسحب أموالهم ما فتح الباب واسعاً أمام سوق "المضاربة". كما أنّ حجز الأموال بالعملات الأجنبية أوجد نقصاً في الأسواق ما أدى الى تحليق سعر صرف الدولار الذي وصل الى أرقام قياسية، بالإضافة الى العديد من التداعيات السلبية التي قد لا يتسع المقال لذكرها. 

والجدير ذكره أنّ القطاع المصرفي يُشّكل السند القوي للاقتصاد في أي بلد في العالم، شرط أن يحسن هذا القطاع تنفيذ سياسة سليمة تحسن تقييم المخاطر بشكل جيد. وبطبيعة الحال، لا يمكن للمصارف في لبنان أن تلعب دور العصب في الاقتصاد اذا لم تعمل على إعادة الثقة بها. بقاء السياسة المصرفية على ما هي عليه سيبقي مسألة ركن الودائع مجدداً في المصارف خارج الحسابات، ونكاد أن نجزم في هذا السياق أنّ العمليات المصرفية لم تشهد دخول ودائع جديدة الى خزائنها أقله في الأشهر الأخيرة. فكيف السبيل لاستعادة الثقة بالقطاع المصرفي؟.  

عكوش: القطاع المصرفي يشكّل الأساس لأي حركة اقتصادية في العالم

الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش ينوّه في بداية حديثه الى أهمية القطاع المصرفي في الحياة الاقتصادية سواء في لبنان أو الخارج. القطاع المصرفي يشكّل الأساس لأي حركة اقتصادية أو نمو في العالم، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يعيش بدون قطاع مصرفي. إلا أنّ اندلاع أزمة المصارف  في لبنان أدّت الى فقدان الثقة بهذا القطاع، الأمر الذي ترك تداعيات واسعة امتنع بموجبها المودعون عن إيداع أموالهم في المصارف. بل إن غالبيتهم لجؤوا الى سحب أموالهم من المصارف وتخزينها في المنازل، ما انعكس بشكل كبير على احتياطي العملات الصعبة بمصرف لبنان. نظرة سريعة الى هذا الاحتياطي منذ بداية عام 2020 حتى شهر أيلول، تبيّن أنّ احتياطي العملات انخفض 9 مليارات دولار. المشكلة هنا ليست بسبب عجز في ميزان المدفوعات أو عجز في الميزان التجاري. على العكس الأخير لم يتعد الخمسة مليارات دولار في أول تسعة أشهر من عام 2020، ما يبيّن أنّ هناك 4 مليارات دولار سحبت بعدة وسائل من المصارف؛ إما عبر سحوبات المودعين، أو عبر إقفال الحسابات، أو عبر عوامل متعددة ساهمت باستنزاف احتياطي مصرف لبنان. 

 

"سمعة" القطاع المصرفي بـ"الأرض": كيف السبيل لاستعادة الثقة؟ 

ويشدّد عكوش على أنّ المضي بهذه الطريقة يعني الذهاب الى مشكلة كبيرة جداً لا تقف عند حدود رفع الدعم، فالاحتياطي بحسب تقديرات مصرف لبنان يصل الى حدود الـ19 مليارات ونصف المليار دولار؛ جزء منه احتياطي الزامي، وجزء احتياطي خاص بموجب المادة 69 من قانون النقد والتسليف، ما يعني أن لدينا احتياطا حرا بسيطا جداً قد لا يكفينا لغاية آخر العام. واذا ما استمررنا بنفس السياسية النقدية فنحن ذاهبون في عام 2021 لاستنزاف كامل في احتياطي العملات الصعبة.

إصلاح القطاع المصرفي ضرورة 

أمام هذا الواقع لا بد -وفق عكوش- من إصلاح القطاع المصرفي وإعادة إحيائه. نحن نعلم أنّ تمويل الاحتياطي من العملات الصعبة في أي دولة في العالم -ومنها لبنان- يكون عبر المصارف. مصرف لبنان لا يستقبل الودائع بشكل مباشر، بل يستقبل الاحتياطات التي تضعها المصارف التجارية بداخله وجزء منها يكون بالعملات الصعبة. وبالتالي، اذا لم تتسلم المصارف التجارية الودائع سيتعذر على مصرف لبنان الإتيان بالعملة الأجنبية، ولن يكون أمامه حل سوى عبر قروض من صندوق النقد الدولي وودائع بالأمانات كما عملت بعض الدول. لكن اليوم لا يرى عكوش أنّ أحدا من هذه الدول مستعد لوضع ضمانة أو ديعة بالعملات الصعبة، ما يحتّم علينا إحياء القطاع المصرفي لتعزيز احتياطي العملات الصعبة في مصرف لبنان.

مروحة من الإجراءات لاستعادة الثقة 

ويشدّد عكوش على أنّ إحياء القطاع المصرفي يحتاج الى مروحة من الإجراءات يتم تنفيذها ضمن سياسة اقتصادية وخطة مالية جديدة. وهنا يدرج عكوش جملة الإجراءات بالآتي: 

- إصدار الحكومة اللبنانية تشريعات جديدة لضمان الودائع الجديدة بالقانون، فمؤسسة ضمان الودائع لا تقدم الضمانة الكافية، حيث ارتفع الحد من 5 ملايين الى 75 مليون وهذا الرقم لا يساوي شيئاً اليوم مقارنة بالعملة الصعبة. وفق عكوش، لا بد من تشريعات وقوانين جديدة لضمان الوديعة ما بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف التجارية ولتقديم ضمانات لأصحاب الودائع بأنّ وديعتهم ستعود اليهم سواء بالكمية أو بالعملة نفسها وبالفوائد المحددة. هذه الطريقة -برأي عكوش- تفتح أبواب الثقة أمام المصارف. 

-إصدار قانون "الكابيتال كونترول" لضمان عدم تحويل الودائع الى الخارج. ففي الفترة الماضية هرّبت الكثير من الودائع -لسياسيين ولأشخاص "محميين" -الى الخارج، ومنعا للدخول في هذه المشكلة مجدداً، لا بد من إصدار قانون يمنع تحويل هذه الودائع الى الخارج. 

-دمج بعض المصارف، إذ لدينا عدد كبير من المصارف لا يحتاجه السوق ولا عدد سكان لبنان، وبالتالي كلما كبر عدد المصارف سينعكس هذا الأمر على الأموال الخاصة للمصرف وعلى الضمانات التي من الممكن أن يقدمها. بحسب رؤية عكوش، نحن بحاجة الى دمج المصارف لتكبير رؤوس الأموال للقطاع المصرفي وتخفيف الكلفة وزيادة نشاطه والضمانات التي يقدمها. 

-إصدار مصرف لبنان تعاميم جديدة تشجّع وتعطي حوافز لأصحاب الودائع الجديدة. على سبيل المثال، بمقدور مصرف لبنان إصدار تعميم جديد يشجّع فيه المودعين؛ بمعنى كل شخص يضع وديعة في العملة الصعبة ولديه حساب جار يُمنع من سحبه، تمكّنه المصارف من تحرير ما يعادل قيمة الأموال المودعة حديثاً بشرط أن يجمد الحساب بأكمله لستة أشهر. وبعدها يحق لصاحب الوديعة سحب 10 بالمئة من الرصيد بنفس العملة، ما يشجّع أصحاب الودائع القديمة ومن يمتلكون أموالا "كاش" في المنازل على وضعها في المصارف ليستفيدوا من الحوافز التي يقدمها القطاع المصرفي لأصحاب الودائع الجديدة والقديمة. 

-إيقاف كافة المشاريع التي تنفذ بأموال الخزينة اللبنانية خاصة تلك التي تحتاج لعملات صعبة لأنها ستستنزف العملات الصعبة، وستؤثر على المصارف بشكل أو بآخر. برأي عكوش، لا بد من اللجوء الى طريقة الـ"bot" فقط لتنفيذ المشاريع حماية لاحتياطي العملات الصعبة. 

-التشدد في قضيتي التهريب والتخزين في المواد الأساسية والاستهلاكية، فهذه النقطة تنعكس على عمل المصارف، اذ إنّ عمليات التهريب ستؤدي الى المزيد من الاستيراد أي المزيد من الاستنزاف في احتياطي العملات الصعبة. 

القطاع المصرفي تجاهل مسألة تقييم المخاطر 

وفي الختام، يوضح عكوش أنّ القطاع المصرفي في لبنان أخطأ في نقطة أساسية حيث لم يلتزم بالتعميم الصادر عن مصرف لبنان في مطلع التسعينيات، والذي يحدد توظيفات المصارف ويشدّد على أن لا يقدم القطاع المصرفي قروضا أو تسهيلات لشخص معنوي واحد بمقدار يزيد عن العشرين بالمئة من أمواله. للأسف، أكثرية المصارف -يقول عكوش- أقرضت الدولة اللبنانية بنسبة تتجاوز أضعاف أموالها الخاصة، مقابل الاستفادة من الهندسات المالية والفوائد العالية وفي ذلك "مخاطرة" قادها هذا القطاع، اذ كلما ركزنا عمليات تجارتنا مع شخص واحد كلما ارتفعت المخاطر. وهنا يأسف المتحدّث فالمصارف لم تلتفت أو تجاهلت مسألة تقييم المخاطر مع أنّ المعايير العالمية تفرض عليها ذلك حتى وصلنا الى مرحلة تفاجأ فيها المودعون بأن حاكم مصرف لبنان وبعد أن نفخ "البالون" انفجر بهم للأسف ودفعوا الثمن وجرى الحجر على ودائعهم.

جمعية المصارف

إقرأ المزيد في: خاص العهد