معركة أولي البأس

خاص العهد

 الدستور ألغى الطائفية السياسية.. والسياسيون كرسوها
29/09/2020

 الدستور ألغى الطائفية السياسية.. والسياسيون كرسوها

فاطمة سلامة

في كل مرة تُجرى فيها مقاربة الأزمات في لبنان، يقال إننا نعاني من أزمة نظام. المشكلة لدينا ليست ثانوية ولا هامشية بل في الجوهر والمضمون، وفي الأسس التي نبني عليها مداميك الدولة. طبعاً، الأسس التي يبنيها السياسيون من بناة أفكارهم، لا تلك التي وضعها الدستور اللبناني كخارطة طريق لبناء الدولة. للأسف، هنا تكمن علّة العلل بحيث يصار الى تحريف وتطييف المواد الدستورية ليصبح القانون وجهة نظر ومجموعة اجتهادات تميل كيفما مالت المصالح الشخصية لا الوطنية. واذا أردنا أن نعطي الأمثلة على الأزمات في هذا الصدد، سنجد أنفسنا أمام مجموعة واسعة تمتد لعقود وعقود مضت. ولعل الطائفية السياسية المتجذّرة والمتحكمة بكل مرافق الدولة أبرز مثال على عدم تطبيق اتفاق الطائف والدستور الذي نصّ في إحدى مواده على إلغائها وعدم ربط أي وظيفة بأي طائفة مهما كانت، وهي المشكلة التي نصادفها للأسف ونسمع عنها الكثير، فكم من أفراد حرموا وظائف يستحقونها وفقاً لمبدأي الكفاءة والاختصاص بذنب أنهم ينتمون لطائفة معينة؟ والمفارقة تكمن في أن البعض يكون حيناً من أشد المطالبين بإلغاء الطائفية السياسية، وحيناً آخر من العاملين بقوة على ترسيخها حفاظاً على مصالحه الشخصية في هذا المنصب أو ذاك. 
 
منصور: جرى الانقلاب على اتفاق الطائف 

النائب ألبير منصور شاهد حي على اتفاق الطائف ومداولاته، يستذكر كيف نصّ الاتفاق حينها على الغاء الطائفية السياسية واعتماد المواطنة كمعيار أساسي في كل الأمور. ومن هذا المنطلق، دعا اتفاق الطائف الذي عقد عام 1989 لإنشاء مجلس شيوخ على أساس طائفي مذهبي تنحصر مهمته في أمرين: منع تقسيم كيان لبنان ومنع اندماجه. كان من المفترض -بحسب منصور- أن يتحول لبنان بموجب اتفاق الطائف الى دولة وطنية ديمقراطية ككل دول العالم لا تمييز طائفيا ومذهبيا فيها ولا فرق بين مسلم ومسيحي في كافة مرافقها. 

 

 الدستور ألغى الطائفية السياسية.. والسياسيون كرسوها

منصور صاحب الكتاب الشهير "الانقلاب على الطائف" والذي يشرح فيه بالتفصيل كيف لم يطبق اتفاق الطائف، يؤكّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنه ومنذ عام 1992 تاريخ تسلم الرئيس الراحل رفيق الحريري الحكم جرى انقلاب حقيقي على اتفاق الطائف ولم يعد يطبق منه شيء، وما يحصل من حينها حتى اليوم مخالف لكل توجهاته. وفق منصور، فإن الغاء الطائفية السياسية يشكل مدخلا وحيدا للبنان للخروج من أزماته ولا حل غيره، فإما أن نبني وطناً على أساس ديمقراطي وإما نبقى في فيدرالية الطوائف التي يجري فيها توزيع السلطات لنهب مقدرات الدولة وهذا الأمر لا يبني وطناً ولا دولة. 
 
شكر: المادة 95 من الدستور نصّت على إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة

وبالعودة الى وثيقة الوفاق الوطني التي تم التوافق عليها في اتفاق الطائف، يتبين بما لا يقبل الشك أنّ هذه الوثيقة أقرت ضرورة الغاء الطائفية السياسية في لبنان باعتبار ذلك مطلباً وهدفاً وطنياً يجب العمل للوصول اليه. هذه الحقيقة يؤكّد عليها أستاذ القانون الدستوري الدكتور زهير شكر في سياق مقاربته لقضية الغاء الطائفية السياسية. مقدّمة الدستور أكّدت على هذا الهدف، وأتت المادة 95 منه لتضع آليات للوصول الى إلغاء الطائفية السياسية، حيث إنه من المتعذر في بلد تجذّر فيه السلوك المذهبي والطائفي إلغاء الطائفية بقانون دون تهيئة الظروف الموضوعية لتحقيق ذلك، يضيف شكر الذي يشدد على أنه ومن ضمن هذه الظروف الموضوعية، نصّ الدستور في المادة 95 نفسها على "إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها أو ما يعادلها، بحيث تكون هذه الوظائف مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة". 

 

 الدستور ألغى الطائفية السياسية.. والسياسيون كرسوها

الممارسة السياسية قضت على روحية المواد الدستورية

ما سبق نصّ عليه الدستور، لكنّ الممارسة السياسية قضت على روحية المواد الدستورية. لا ينكر شكر أنّ مبدأ الغاء الطائفية السياسية طبّق لسنوات عديدة بعد الطائف قبل أن يكرّس من جديد لاعتبارات عدة. وفي هذا السياق، يتحدّث شكر -انطلاقاً من تجربة شخصية- عن ممارسات السنوات الأولى التي تلت التعديل الدستوري عام 1990، فيوضح أنه كان رئيساً للجنة الفاحصة لرؤساء الدوائر في الدولة اللبنانية عام 1992، وتم إجراء مباراة وصدرت النتيجة حينها بدون وجود أي توازن طائفي، كما صدرت المراسيم دون أي إبطاء تطبيقا للفقرة (ب) من المادة 95 من الدستور والتي تقضي بإلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة ما عدا وظائف الفئة الأولى. النص الدستوري في هذه الوظائف واضح جداً -يقول شكر- ويقضي باعتماد مبدأ الكفاءة وعدم تخصيص أي وظيفة ان في القضاء أو في أي منصب آخر لأي طائفة. وفيما يتعلق بوظائف الفئة الأولى فشدد الدستور على أن تأتي مناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة مع اعتماد مبدأ الكفاءة والمداورة، لكن -وفق شكر- ما نشهده اليوم في الممارسة لجهة توزيع الوظائف غير دستوري؛ فعلى سبيل المثال لا ينص الدستور على أن يكون رئيس مجلس القضاء الأعلى مارونيا، ولا المدعي العام التمييزي سنيا، ولا المدعي العام المالي شيعيا.

تكريس المناصب للطوائف 

تجربة شخصية أخرى يتطرق اليها شكر ليدلل على الغاء الطائفية السياسية في السنوات الأولى التي تلت اتفاق الطائف، فيوضح أنه وفي عام 1994 جرت مباراة أخرى لتعيين سفراء، وكنا لجنة من 20 استاذاً كنت نائب الرئيس بينهم. أجريت المباراة واعتمد مبدأ الكفاءة وكانت النتيجة 15 ناجحاً، وصدفة كان من بين الناجحين 9 شيعة، ورغم ذلك لم يتأخر المرسوم يوما واحدا. يروي شكر تجربته ليدلل على الواقع الذي وصلنا اليه اليوم والذي أصبحت فيه الطائفة هي المعيار. وبحسب شكر، اذا الوزير المختص طلب من مجلس الخدمة المدنية إجراء مباراة ولم تكن حصة الطائفة التي ينتمي اليها وازنة في نتيجتها يعرقل إصدار مرسومها. وهنا يأسف شكر للواقع الحالي الذي نعيشه والذي يصار فيه الى تكريس المناصب للطوائف، ففي المؤسسات العسكرية مثلاً يطبق هذا الواقع ليس فقط في قيادة الجيش بل حتى في الوظائف الدنيا التي تكرس لطوائف محددة، وفق شكر الذي يقول:" هذا الأمر لا يجوز واذا ما أردنا فعلاً الغاء الطائفية السياسية علينا الاعتماد على  الاختصاص والكفاءة والمداورة وعدم تخصيص أي وظيفة لأي طائفة". 

حدة الخطاب رسّخت الطائفية السياسية 

ويلفت المتحدث الى أنّه وبعد رحيل الرئيس رفيق الحريري زادت حدة الخطاب الطائفي، ورفعت بعض الأحزاب من حدة هذا الخطاب سعياً وراء كسب قاعدتها الشعبية ما ساهم في ترسيخ الطائفية السياسية، كما جرت المطالبة باعتماد المناصفة في كل الوظائف بعيدا عن مبدأ الكفاءة والاختصاص، فيما طالب البعض بإعادة تفسير المادة 95 من الدستور.  

الطائف نص على إسناد وزارة المالية للطائفة الشيعية 

وفي ختام حديثه يتطرق شكر للجدل الحاصل اليوم حول حقيبة المالية، فيؤكد أن لديه قناعة تامة بأنه جرى التوافق في الطائف على إسناد وزارة المال للطائفة الشيعية كتوقيع ثالث للمشاركة في القرار السياسي. الأخير ليس موجودا في البرلمان بل في الحكومة، وعليه فإن وزير المالية كان شيعياً في أول ثلاث وزارات بعد الطائف وهذه ليست صدفة، بل تطبيقا لهذا الاتفاق. لكن شكر يوضح أنه عندما أتى الحريري الى السلطة أراد أن يأخذ وزارة المال من الطائفة الشيعية وحصل جدال حول هذا الأمر. وهنا يشير شكر خلال مقاربته لهذه القضية الى أنه عندما لا تسمح الظروف أو تفرض علينا التخلي عن حق هو لنا، فهذا لا يعني أننا فقدنا هذا الحق، والدليل أن الطائفة الشيعية استردت هذا الموقع خلال السنوات الأخيرة، وهذا حق لها من الناحية الدستورية. 
 
 ويوضح شكر أن فلسفة التوقيع الثالث تقوم على مبدأ أن أغلب مقررات مجلس الوزراء أي 95 بالمئة منها تترجم بمراسيم تتضمن أعباء مالية وإنفاقا وهي بالتالي تحتاج الى توقيع رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير المالية بالإضافة الى توقيع رابع يعود للوزير المختص وهو ليس ثابتاً، بينما التوقيع الثالث ثابت. وهنا يأسف شكر لأن آليات اتخاذ القرار داخل مجلس الوزراء مرتبطة برئيس مجلس الوزراء أولا ورئيس الجمهورية ثانيا، فدور الوزراء داخل الحكومة محدود جداً ولا يستطيعون من خلاله أن يفرضوا أي مشروع قانون أو مشروع مرسوم لدراسته في مجلس الوزراء ما لم يوافق عليه رئيس الحكومة.

إقرأ المزيد في: خاص العهد