خاص العهد
ما حقيقة ازدياد أرقام الهجرة من لبنان في الآونة الأخيرة؟
فاطمة سلامة
يخطر في بال كثر في لبنان هذه الأيام مسألة مغادرة الوطن بحثاً عن ظروف أفضل في الخارج. تلمع ربما فكرة الهجرة في رؤوسهم -اذا صحّ التعبير-. التفكير بهذه الخطوة المفصلية من حياة الإنسان لم توجد من فراغ. فليس سهلاً أن ينسلخ الفرد عن بيئته ومحيطه بين ليلة وضحاها. ثمّة عوامل عدة غذّتها وحرّضت عليها على رأسها الوضع الاقتصادي الذي وصل الى الدرك الأسفل. صحيح، هناك من يبتكر من القلّة ظروفاً لاستمرار الحياة ويبذل جهوداً جبارة في بلد باتت فيه الحياة شبه معدومة لكثيرين، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ البعض يعدم وسيلة أمام الضائقة التي يمر بها البلد حتى يتملكه الفقر ويمنعه من تأمين أبسط متطلبات الحياة فيشعر بالغربة حتى ولو كان في وطنه. وفي هذا السياق، من المفيد استحضار قول أمير المؤمنين الإمام علي (ع):"الغنی في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة".
وليس من المستغرب الحديث عن تزايد في أعداد المهاجرين خلال الأشهر القليلة الماضية، طالما أنّ الضائقة الاقتصادية التي يمر بها لبنان استفحلت مؤخراً وباتت غير مسبوقة. وليس خافياً أنّ الولايات المتحدة الأميركية وضعت كل ثقلها لإحداث الفتنة والفوضى في لبنان من بوابة المال والاقتصاد، فمارست أشهرا من الحصار والخنق لتنفيذ الأجندة المرسومة. وفي هذا الصدد حدّث ولا حرج فالأدلة كثيرة، وليس أدل على ذلك من سياسة فرض العقوبات والتلاعب بسعر صرف الدولار، ومحاولة سحبه من الأسواق ما أدى الى تدهور الليرة اللبنانية بشكل غير مسبوق. فما حقيقة ارتفاع أعداد الهجرة من لبنان؟ وما آثار ذلك على المجتمع اللبناني؟.
شمس الدين: مؤشرات كثيرة تدل على ارتفاع أعداد المهاجرين ولكن من المبكر الحديث عن نسب
الباحث في الدولية للمعلومات الأستاذ محمد شمس الدين يستهل حديثه بدايةً بضرورة التمييز بين السفر والهجرة. يُحكى الكثير عن أعداد وأرقام للهجرة، وهناك اتجاه واضح نحوها -نتيجة الأوضاع الموجودة في البلد- ومؤشرات كثيرة تدل على ارتفاع أعداد المسافرين والمهاجرين، لكن من المبكر الحديث عن أعداد ونسب نهائية، وذلك لعدة أسباب. أول الأسباب -وفق شمس الدين- يكمن في أنّ المطار فتح أبوابه أول تموز أي منذ شهرين ونصف فقط، ولا يزال هناك إغلاق لمطارات وسفارات في العديد من الدول وسط قرار بعدم تسهيل هجرة وسفر اللبنانيين، وعليه، يرى شمس الدين أنّ هناك رغبة معلنة وواضحة لدى اللبنانيين بالسفر والهجرة هرباً من الأوضاع والظروف الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية الموجودة في لبنان، لكن ما بين هذه الرغبة وتحقيقها هناك شروط عدة تبدأ بطلب الحصول على جواز سفر، ومن ثم طلب الهجرة من السفارات، يضاف الى ذلك ظروف تتعلق بالإمكانية المادية؛ فهل يملك هذا الشخص أو ذاك المقدرة المادية في ظل حجز الودائع في المصارف؟ يسأل شمس الدين الذي يعتبر أنه وفي ظل الظروف الحالية هناك صعوبة في أن يكون لدى الأشخاص سيولة أجنبية تساعدهم في السفر.
للتمييز بين السفر والهجرة
لذلك علينا التمييز -يقول شمس الدين- ما بين الرغبة والقدرة وما بين المؤشرات التي توحي بارتفاع أعداد الهجرة والواقع الذي يؤكّد أنه من المبكر تحديد نسبة ارتفاع الهجرة ما اذا كانت 10، 20، 30 أو حتى 50 بالمئة. علينا بالحد الأدنى الانتظار حتى نهاية السنة لمعرفة مسار الأرقام هذا العام مقارنة بالفترة ذاتها العام الماضي. لا ينكر شمس الدين أن هناك كلاماً كثيراً يقال في هذا الصدد، بعضه دقيق وبعضه غير دقيق، كالخبريات التي أشيعت حول وجود 350 ألف طلب هجرة في إحدى السفارات. برأيه هذا الكلام غير معقول وغير منطقي، فهل يتقدّم يومياً 10 آلاف شخص بطلب للهجرة؟ يسأل شمس الدين لافتاً الى أن هناك شيئاً في هذه الأرقام غير منطقي ما يحتّم علينا التمييز بين الرغبة والواقع مع التأكيد أن كل المؤشرات توحي بارتفاع الأعداد.
وجهة المهاجرين
وفيما يتعلّق بالدول التي يقصدها اللبنانيون طلباً للهجرة، يلفت شمس الدين الى أنّ الصورة غير واضحة حتى الآن مع احتمالية أن تكون الدول نفسها كأستراليا، كندا، أميركا وأوروبا. الوجهة -بنظره- لم تتغيّر ولكن رغم ذلك من المبكر حسم هذا الأمر. كما لا يمكننا حسم فئات الأعمار التي تهاجر حالياً، فلا معلومات بين أيدينا بإمكاننا الاستناد إليها سوى المؤشرات التي توحي بارتفاع الأعداد أكثر من الماضي، موضحاً أنّ هناك اتجاهاً نحو زيادة الأرقام بانتظار الثلاثة أشهر القادمة لجلاء الصورة أكثر.
للهجرة مواصفات
وحول الفترة التي بدأت فيها مؤشرات الهجرة تزداد، يؤكّد المتحدّث أنّه ومنذ بداية العام بدأت الأرقام تزداد، ولكن حالت الظروف المتمثلة بتفشي فيروس "كورونا" وإقفال مطار بيروت ومعه بلدان عدة في أوروبا وأميركا، بموازاة امتناع الدول عن إعطاء التأشيرات حالت دون تيسير أمر الهجرة. بعدها، جرى فتح المطار في تموز وعادت المراكز التي تعطي التأشيرات الى العمل، ولكن هذا الأمر ليس كافياً لازدياد أعداد المهاجرين من تموز حتى اليوم، فأي شخص يتقدّم للحصول على تأشيرة سيحتاج الى ما لا يقل عن ستة أشهر للحصول عليها، ما يعني أن ما يتم تداوله عن ازدياد أعداد الهجرة بعد تفجير مرفأ بيروت غير دقيق. إلا أنّ الدقيق -وفق شمس الدين- هو ازدياد أعداد المسافرين بحيث إنّ اللبنانيين الذين يمتلكون جنسيات دول أخرى وكانوا مقيمين في لبنان سافروا، وعليه علينا دائماً أن لا نمزج بين السفر والهجرة. فالسفر على دول مثل الخليج مثلاً لا يعد هجرة ولكن عندما يقضي اللبناني ما بين الـ20 الى 30 سنة فيها حينها نصبح أمام هجرة. وفق شمس الدين، للهجرة مواصفات، وعليه لا بد من استعمال عبارة السفر اذا لم تكن المواصفات موجودة، فالمهاجر هو الشخص الذي يقصد بلداً آخر ويتخذه بمثابة وطن ويعيش فيه لفترة طويلة ويأخذ جنسيته.
للهجرة إيجابيات وسلبيات
وفي معرض حديثه، يرى شمس الدين أن للهجرة إيجابيات وسلبيات. من سلبياتها أنها تعمل على إفراع البلد من الطاقات الشبابية نظراً لكون أكثرية المهاجرين من الفئة الشبابية التي تتراوح أعمارها ما بين الـ 25 الى الـ40 سنة، فالدول الأخرى غير مهتمة باستقبال متقدمين في العمر، ما يعني بقاء هذه الفئة في لبنان. هؤلاء بعد فترة سيصبحون غير قادرين على العمل، ويحتاجون الى علاجات صحية وخدمات، ما يعني تدمير البنية السكانية وتسريع الشيخوخة. ولكن رغم هذه السلبيات يسلّط شمس الدين الضوء على بعض الإيجابيات، بحيث تمتص الهجرة البطالة وتنعش التحويلات الى لبنان ما يساعد في التخفيف من الأزمة نوعاً ما.
وفي نهاية حديثه، يشدّد الباحث في الدولية للمعلومات على أنّه من المبكر الحديث الآن عن معطيات علمية تخص الهجرة هذه السنة، مع الإشارة الى أن هناك اتجاها لزيادة أعداد المسافرين والمهاجرين عن السنة التي سبقتها. وهنا يستعرض شمس الدين نسب الهجرة في الأعوام التي سبقتها. ففي عام 2016 بلغ عدد المهاجرين 12 الفا، وفي عام 2017 بلغ 18 الفا، و33 الفا في الـ2018 ليرتفع بنسبة 100 بالمئة في الـ2019 ويبلغ 66 ألفا، فيما من المتوقع أن تكون الأعداد عام 2020 كبيرة جداً، ولكن أزمة "كورونا" ومعها إقفال المطار أثرا على الأرقام بانتظار الأشهر الثلاثة الأخيرة لمراقبة مسار الأعداد لاستخلاص النسبة، يختم شمس الدين.
عجاقة: فقدان أحد أهم عوامل الانتاج على رأس تداعيات الهجرة
من جهته الخبير الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة يشير في حديث لموقعنا الى أنّ الحديث عن ارتفاع أعداد الهجرة هو تحصيل حاصل في لبنان نظراً للأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة.
ويستعرض عجاقة تداعيات الهجرة. بنظره تحمل هذه الظاهرة العديد من التداعيات على رأسها فقدان أحد أهم عوامل الانتاج وهو اليد العاملة، فمن المعروف أن اليد العاملة هي عامل من عوامل الانتاج. أضف الى ذلك، فإنّ الهجرة تحولنا -شئنا أم أبينا- الى اقتصاد ريعي وهذا الأمر ليس جيداً بالمطلق وسط المساعي لتحويل الاقتصاد من ريعي الى منتج. ومن التداعيات أيضاً تسهم الهجرة في التقليل من الاستهلاك نتيجة هجرة المواطنين ما يعني انخفاض الناتج المحلي الاجمالي.
برأي عجاقة، هناك مشكلة كبيرة مع هذه الظاهرة السيئة التي تعتبر مسؤولة عن عدم تطور الاقتصاد، خصوصاً اذا استفحلت أكثر وسط غياب أي حل سياسي يتمكن من إنقاذ سوق العمل ويفتح فرص عمل للبنانيين.