خاص العهد
أوضاع انسانية متردية في ادلب: جوع وسرقة أعضاء بشرية
عبير بسام
ما كشف في ادلب من خلايا نائمة وتجمعات إرهابية عملت بالتنسيق مع الخارج، يفضح حجم المؤامرة التي حضرت لسوريا، ومخططها المحكم في السيطرة على مدينة ادلب كمنفذ استراتيجي إلى تركيا. اذ وصلت الاضطرابات "الربيعية" إلى إدلب في نهاية العام 2011، ولكن في آذار من العام 2012 دخل الجيش السوري إلى المدينة واستعاد زمام الأمور. أبو عمر، شاهد عيان كشف لـ"العهد" تجارب شخصية وتفاصيل المآسي التي يعيشها المواطنون داخل المدينة المحاصرة، منذ اندلاع الاضطرابات فيها وحتى اليوم.
واقع المدينة بعد 2015
بعد الاضطرابات التي شهدتها إدلب عام 2012، وبعد دخول الجيش إليها، تم تشكيل لجان شعبية في المدينة عملت كرديف للجيش والأمن السوري. إلا أن الخلايا الإرهابية النائمة فيها، بحسب أبو عمر، تغلغلت في داخل اللجان، وعمل هؤلاء كعملاء للمسلحين في ريف إدلب والذين كانوا خارج نطاق سيطرة الدولة ويقومون بعمليات النهب والسلب وخطف المواطنين في ريف المدينة وضواحيها. نفس السيناريو تكرر في منطقة درعا وريف دمشق وفي التوقيت ذاته. بقيت إدلب على هذه الحالة الستاتيكية حتى آذار 2015. في ذلك العام ظهرت للعلن قوى مسلحة إرهابية تحت مسمى "جيش الفتح" أنشاها النظام التركي، بقيادة كل من المحيسني والجولاني. وتم احتلال إدلب بعد قصف مدفعي دام لثلاثة أيام مترافقاً مع قطع الماء والكهرباء عن المدينة.
تتركز اليوم الكثافة السكانية في المحافظة في مدن سرمدا وحارم وسلقين وكفر تخاريم ومدينة ادلب. وتعد أريحا وسرمين وجسر الشغور وبعض قرى جبل الزاوية، ذات كثافة سكانية قليلة، ولكن ومنذ بدء سريان الهدنة في آذار/ مارس الماضي عاد إليها بعض أهلها بسبب غلاء ايجارات البيوت. وأما النسبة الكبيرة من أهالي المحافظة (يتجاوز عددهم ثلث عدد سكان المحافظة) فهي تسكن في المخيمات. ويبسط المسلحون سيطرتهم على كامل المناطق في المحافظة.
الوضع الاقتصادي
يعتمد أهل ادلب في دخلهم على الزراعة بشكل أساسي، ومن ثم على الوظائف الحكومية. وعلى الرغم من قلة المنشآت الصناعية في المدينة إلا أنه كان يوجد فيها قبل الحرب معمل للغزل يعد من المعامل المتقدمة في تقنياته على مستوى الشرق الأوسط. واليوم سرقت معدات المعمل وتم تهريبها إلى داخل تركيا. كان يوفر المعمل أكثر من ثلاثة آلاف فرصة عمل، وبات اليوم مرتعاً للجماعات المسلحة. كما يوجد في المدينة بعض المعامل الخاصة التي تعمل في نشر الحجارة والبلاط.
يقول أبو عمر أن الوضع المعيشي للناس يزداد صعوبة في كل يوم، فالبلد تحت احتلال الجماعات الإرهابية التي تستند الى دعم جيش التركي المطلق لها، والتي تتحكم بمفاصل العيش في المدينة. وأصبح معظم المزارعين معزولين عن أراضيهم ومزروعاتهم. فبعد تحرير مناطق واسعة من إدلب، ما بين الـ 2018 وأوائل الـ 2020، أصبحت أراضي ادلب التي تزخر بأشجار الزيتون والفستق الحلبي وزراعة الحبوب، أي أكثر من ربع أراضي إدلب الزراعية المشجرة، باتت خارج سيطرة الارهابيين، ولا يستطيع أصحابها الوصول إليها والعمل فيها او حتى جني محاصيلها بسبب الحصار الذي يفرضه المسلحون.
وما يفاقم الوضع المعيشي في ادلب هو فرض الليرة التركية كعملة للتعامل في المدينة، ولا بد للمواطن من أن يقوم بتحويل العملة السورية إلى تركية ولكن! يشرح أبو عمر: "ولتبديل العمله السوريه بالليرة التركية، يكون الصرف من الليرة السورية إلى الدولار الأميركي، ومن الدولار الى العملة التركية. وبذا يخسر المواطن مرتين عند تحويل العملة. واذا أردنا الشراء على السوري فعلينا دفع ضعف ثمن السلعة". ويتعرض الأطفال وكبار السن، بسبب عدم درايتهم بأسعار العملات للاحتيال خلال عملية التصريف.
تحتاج الأسرة السورية في إدلب يومياً كحد أدنى حوالي الـ 25 ألف ليرة سورية (اي ما يعادل 15 دولاراً أميركياً). والأغلبية لا تستطيع تأمين ربع هذا المبلغ. فالعمل غير متوفر، وإدلب بلد زراعي يعتمد على المواسم، والموظفون لم يتقاضوا رواتبهم منذ تسعة أشهر، بسبب إغلاق المعابر مع الدولة. يؤكد أبو عمر: "أنا لم أتقاضَ راتبي منذ شهر كانون الأول/ ديسمبر 2019. مع العلم أن الراتب بالكاد يكفي 5 أو 6 أيام في الشهر: فكيلو الخبز أصبح بـ 1200 ليرة سورية، (بينما سعر الكيلو في مناطق الدولة 50 ل.س)، وأي نوع من الخضار أو الفواكه يقارب 700 ليرة واللبن والحليب 1200 ليرة واللحم 22000 للغنم و4000 للفروج وكيلو الارز 1500 والسكر 1500 والشاي 25000 ليرة ولتر الزيت النباتي 2500 وليتر الماء للاستعمال المنزلي 5 ليرات، وأمبير الكهرباء 10000 ليرة لمدة ساعتين ونصف فقط، وليتر المازوت 1500 ليرة، والبنزين 1700 ليرة، واسطوانة الغاز 25000 ليرة". وبالتأكيد فإن فارق الأسعار كبير ما بين إدلب وما بين المناطق التي تقع في كنف الدولة.
الوضع الأمني
يعيش المواطن على كف عفريت، اذ تعاني المحافظة بأكملها من عمليات الخطف والسرقة، وخاصة للأشخاص الذين يعرف عنهم بأنهم أصحاب أموال: صرافون أو باعة للذهب. فمثلًا، تمت سرقة صائغ من آل نعسان آغا، حيث قص حائط المحل من بناية مجاورة وتمت سرقة الخزنة بأكملها. كما تعرض صائغ من آل قوصرة لكمين مسلح أثناء مروره بسيارته ليلاً، وقتل الصائغ واثنان من أبنائه وأصيب الثالث، خلال سرقة ما يقارب 10 كغ من الذهب واكثر من 100 ألف دولار أميركي. كما تعج المدينة بعصابات سرقة السيارات والدراجات النارية. والناس تخشى التجول في الليل حتى لا تتعرض للسرقة، خاصة وأن المدينة غارقة في العتمة.
يتفاقم سوء الأوضاع الأمنية في إدلب مع وجود أطفال خارج مقاعد الدراسة، الذين يتم جرهم من قبل أفراد التنظيمات الإرهابية في المدينة إلى لعبة الحرب بعد أن أغلقت المدارس بشكل نهائي منذ انتشار وباء كوفيد 19. وهم في الشوارع، ويتم إغراؤهم بالمال ليحملوا السلاح. ويؤكد أبو عمر أن السلاح متوافر في المحلات ويستطيع حتى الأطفال شراءه، وخاصة في المخيمات حول مدينة ادلب، والتي وصفها أبو عمر بأنّها "كابول ادلب".
الوضع الصحي
صحيح أن في إدلب عيادات خاصة، ولكن أغلبية المواطنين لا يستطيعون دفع أجور المعاينات. ولم يعد المشفى الوطني في إدلب في الخدمة المجانية؛ فقد استولى عليه المسلحون وتبلغ قيمة التصوير الطبقي المحوري فيه 25000 ل.س. وتدفع تكاليف العمليات فيه بالدولار الأميركي، وقد قام أبو عمر بدفع مبلغ 1800$، تكاليف إجراء زرع شبكة قلبية لوالدته، جمع قيمتها من الأقارب، وسدد ديونها فيما بعد. ويؤكد بألم أن: "من لا يملك قيمة العلاج يموت أمام أعين أهله".
هناك العديد من المستوصفات التي تدعمها المنظمات الدولية، ولكنها لا تكفي والدواء غالي الثمن وحتى ذلك الذي يتم تهريبه من "مناطق الدولة". وبحسب مصدر "العهد"، فإن بعض الدواء يأتي من تركيا، وما يصل منه يكون منتهي الصلاحية. وأما حالات الأمراض المزمنة والخطيرة فتسعف إلى تركيا، لأن تهريب أي شخص من إدلب إلى مناطق الدولة وإعادته تبلغ تكلفتها 5 مليون ليرة سورية.
لكن ذهاب المريض إلى تركيا غير مضمون النتائج، لأنه بحسب أبو عمر: " إذا توفي شخص في تركيا تعود الجثة وهي فارغة من أعضائها، وهناك الكثير من الذين اختطفوا وهم مرضى ولا أحد يعرف مصيرهم". ويكمل: "أسعف ابن خالي وابن أختي على أثر اصطدام دراجة نارية بشاحنة إلى تركيا، ولم يكونا في وضع خطر، ولكن توفيا هناك، ولم يعرف أحد لماذا! ولكن عندما أعيدت الجثتان كانتا مفرغتين، اذ كانت بطن كل منهما مفتوحة ومخاطة".
وهذا ما تكرر من قصص على صفحات التواصل الاجتماعي وآخرها في الحسكة: رأس العين، والتي تقع تحت الاحتلال التركي، حيث عاد الشاب ماهر صبحي العجوز، الذي أصيب بضربة شمس، فأدخل على أثرها إلى مشفى المدينة، ثم تم نقله إلى جيلان بينار في تركيا بحجة إجراء عملية الزائدة، وعاد جثة هزيلة مع شق طويل مخاط في بطنه.
الوضع الاجتماعي
هناك أكثر من مليون ونصف مواطن سوري في إدلب يعيشون في كنف الحصار وتحت سيطرة الجماعات المسلحة والاحتلال العسكري التركي، حيث تفرض الجماعات الإرهابية على النساء لباسًا محددًا وعزلة في المنزل، كما ويفرض لباس المجموعات الإرهابية على الطالبات في المدارس المتوسطة والثانوية بدلاً من الزي الرسمي. وهناك ما يسمى بالمرشدات في جميع المرافق العامة، وفي الملاهي، ووظيفتهن فرض قوانين الجماعات الإرهابية.
وقد كانت في بعض مناطق ريف إدلب عادات وتقاليد مجحفة بحق المرأة، ومنها زواج المبادلة، أو تزويج القاصرات، ولكن ما زاد في أوضاع المرأة السيئة وخاصة الأطفال وهو "الأقذر"، بحسب أبي عمر: "زواج الصغيرات جداً من الأجانب الإرهابيين من خليجيين وأوزبك وشيشان وتركستان، وغيرهم. حيث يحصل الزواج بعقد عرفي ويكون فيه اسم الزوج اسما حركيا، كأبي القعقاع أو أبي جليب، أو ... وما أن يحصل الحمل حتى يترك الزوج الفتاة والطفل لدى أهلها ويهرب ويبقى الطفل مجهول هوية الأب". هذه الزيجات بالطبع لها مروجوها القائمون عليها.
في 29 تموز/يوليو 2020، نشرت سانا خبراً يؤكد عثور الجيش السوري، بمساعدة الأهالي في قرية الغدقة في معرة النعمان جنوب ادلب، على أعضاء بشرية مختلفة حفظت بمادة الكلوروفورم، في بيت أحد الأطباء الذي حول بيته إلى مختبر بدائي ووجدت سجلات تحمل أسماء أصحاب الأعضاء مع توصيفات لحالاتهم الصحية. وأكد شهود عيان كما تحدثت تقارير اعلامية واستقصائية عن اختفاء نساء وأطفال بهدف سرقة أعضائهم وبيعها منذ بداية الأزمة في ادلب.
ما يحدث هو جزء من القائمة السوداء التي يواجهها أهالي إدلب في سوريا بسبب الاحتلال التركي ومجموعاته الإرهابية التي يحميها. أوضاع إدلب اليوم وبعد خمس سنين من الاحتلال التركي وإرهابييه يندى لها الجبين وتذكرنا كل يوم بما فعل هولاكو وجيشه بمكتبة بغداد وبحرائق دمشق وحلب، والتي ستبقى وصمة عار على جبين الإنسانية الصامتة.