خاص العهد
التدقيق الجنائي..ما هو؟ وما أهميته؟
فاطمة سلامة
يقتنع كثيرون أنّ ما يقبع تحته لبنان من أزمات ليس وليد الصُدفة، إنما حصل نتيجة أياد عبثت كيفما تشاء بمالية الدولة ومقدراتها. أتى نتيجة فساد استشرى في عظام مؤسسات الدولة فجعلها فُتاتاً. كما يقتنع كثيرون أنّ السياسة النقدية غير المسؤولة لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من انهيار نقدي غير مسبوق. فما تعيشه البلاد يُثير الكثير من علامات الاستفهام حول أداء مريب لسلامة المتهم بمخالفة قانون "النقد والتسليف" وإجراء هندسات مالية على حساب مالية الدولة والخزينة العامة، كما يُثير الشكوك حول مصير ودائع المواطنين وشقاء عمرهم المركون في المصارف. ومن هنا جاءت فكرة التدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان بعدما باتت الكثير من العمليات غير مفهومة وغير واضحة. فما الفرق بين التدقيق الجنائي والتدقيق العادي؟ وهل يوصل هذا النوع من التدقيق الى نتيجة يُحاسب بموجبها كل متورط وعابث بأمن الدولة النقدي والمالي؟.
بطيش يستعرض الفارق بين التدقيق العادي والجنائي
الوزير السابق الدكتور منصور بطيش يستهل حديثه لموقع "العهد" الإخباري بالإشارة الى أنّ الفرق بين التدقيق المالي والتدقيق الجنائي أو التشريحي بسيط. الأول يتم فيه التدقيق ما إذا كانت الحسابات صحيحة أي الموجودات مطابقة للمطلوبات، أما الثاني فيجري التحري فيه عما إذا كانت العملية المالية أجريت في الإطار السليم دون أي مخالفات أو مغالطات. بمعنى، في حال تسلّل الشك الى أي عملية، يتم التدقيق في أصل وأسباب إجرائها حتى ولو كانت صحيحة محاسبياً فقط. فإذا كان هناك أي أمر يتعلّق بالفساد في كافة أنواعه بإمكان المدقّق السؤال عنه والذهاب به بعيداً، وليس فقط التأكد من أنّ الأرقام مطابقة بين الموجودات والمطلوبات.
وعن مسار عملية التدقيق الجنائي، يوضح بطيش أن الشركة التي سيقع الاختيار عليها لتولي مهمة التدقيق، من المفترض أن تنطلق بدايةً من المكان المكلّفة به أي من مصرف لبنان حيث تدخل الى الحسابات الموجودة لديه للتأكد من العمليات والتحقق من بعضها ومن شقها القانوني أي اذا كانت حائزة على موافقة قانونية أم لا، وليس فقط ما اذا كانت هناك فروقات بالحسابات. وفي هذا الصدد، يطرح التدقيق -بحسب بطيش- جملة من الأسئلة يحاول الاجابة عنها: لماذا أجريت العملية؟ من المستفيد منها؟ كما يُظهر التدقيق ما اذا كانت هناك عمليات مخالفة للقوانين والأصول واستفاد منها بعض الناس دون وجه حق.
للتدقيق في الأسباب الاقتصادية والمالية والنقدية التي أوصلتنا الى الانهيار
ويُشدّد بطيش على أنّ المشكلة الاقتصادية في لبنان ليست مشكلة فساد فقط. طبعاً، معالجة الفساد المستشري هي أمر مهم جداً، ولكن علينا أيضاً في المقابل التحقيق والتدقيق في الأسباب الاقتصادية والمالية والنقدية التي أوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم. علينا التدقيق في سوء الإدارة بالمواضيع المالية والنقدية خاصةً بعدما تبيّن لدينا بروز فجوة كبيرة وخسائر في حسابات مصرف لبنان، الأمر الذي يدعونا الى الإصرار على اكتشاف الحقيقة. علينا التحقق ما إذا كانت هذه الفجوة صحيحة -وأنا برأيي صحيحة-. علينا التدقيق لماذا وصلنا الى هنا؟ لماذا "دولارات" الناس غير مكتملة؟. علينا معرفة أي ذهبت ودائع الناس المقدّرة بـ 115 مليار دولار، وهذه الودائع غير الودائع الموجودة بالليرة اللبنانية. يوضح بطيش أن هناك 20 مليار دولار موجودات في مصرف لبنان، وهناك تسليفات للناس، ولكن بقية الأموال أين ذهبت؟ يسأل بطيش الذي يؤكّد أنّ كل هذه الأمور لا بد أن تظهر لا بل يجب أن تظهر.
كنا نعيش في وهم الاستقرار المالي
ويوضح بطيش أنّ أبرز الأسباب التي دفعت الى التفكير بالتدقيق المالي هي تسارع الأحداث على الساحة النقدية والمالية، بحيث وجدنا أنفسنا أننا كنا نعيش في وهم الاستقرار المالي. برأيه، فإنّ التدقيق الجنائي اليوم أكثر من ضرورة خصوصاً أنّ هناك 115 مليار دولار من ودائع الناس غير معروفة أين هي، ولماذا تبخرت، ولماذا قبل عام كان كل شيء طبيعي، وفجأة بانت الفجوات والخسائر. وفق قناعاته، لا بد أن تتضح كل هذه الأمور ويجب أن يكون هناك مساءلة قبل الاتهام. البلد انهار والعملة الوطنية تدهورت والناس دفعت الخسائر من جيوبها -يقول بطيش- الذي يُشدّد على ضرورة المساءلة من أجل حقوق الناس.
شلهوب: المطروح اليوم هو التدقيق في حسابات مصرف لبنان خلال الخمس سنوات الأخيرة
مستشار رئيس الحكومة للشؤون المالية الدكتور جورج شلهوب يشدّد لموقعنا على أهمية التدقيق الجنائي، فالتدقيق العادي يبحث ما إذا كانت الحسابات مطابقة لمعايير المحاسبة، أما الجنائي أو التشريحي فيبحث في صحة العمليات المالية، ويدقّق ما اذا كان هناك شيء غير صحيح، بمعنى اذا كان لدينا تهريب أو إفراط. هذا النوع من التدقيق يبدو -بحسب شلهوب- أكثر دقة، إذ يرجع الى أصل المعاملة ليكتشف أسباب الزيادة والنقصان ويبحث عن المصدر الذي أتت منه المعاملات بعيداً عن صحة الحسابات على "الورق".
الهندسة المالية حصلت في الخمس سنوات الماضية
ولا يُنكر شلهوب أننا أمام عملية كبيرة، لكنّ الشركات التي تتولى عادةً هذا النوع من التدقيق تبدو متمكّنة من العملية. وهنا يلفت الى أنّ المطروح اليوم هو التدقيق في حسابات مصرف لبنان خلال الخمس سنوات الماضية. لماذا الخمس سنوات الماضية فقط؟. يُشدّد شلهوب على أنه من الصعب جداً أن تكون قد مرّت هذه الفترة بدون مغالطات أو إشكالات. وفي المقابل، ليس من المنطقي -وفق قناعاته- أن لا نجد شيئاً في الخمس سنوات ونطلب العودة في التدقيق 10 سنوات، فالهندسة المالية حصلت في الخمس سنوات الماضية، وعليه عندما ندقّق في هذه الفترة، فإننا ندقّق بالسنوات التي يجب أن ندقق بها.
خطوة مهمة لاستعادة الثقة
ويُشدّد شلهوب على أنّ التدقيق الجنائي الذي تقوم به الدولة لمرة واحدة في الحياة هو تدقيق مهم جداً في عملية الإصلاح لاستعادة الثقة بمحاسبة مصرف لبنان، لأن استعادتها أكثر من ضرورة. كما أنّ التدقيق الجنائي مهم بنظره لتصحيح المغالطات، فإذا ثبتت أي مخالفات في السنوات المحدّدة يصبح لدينا إثباتات لاتخاذ الاجراءات المناسبة. وحول تكلفة التدقيق، يرفض شلهوب الدخول في هذه التفاصيل قبل الاتفاق على اسم الشركة. برأيه، الأسبوع القادم من المفترض أن يكون حاسماً لاتخاذ القرار النهائي في هذا الملف.