خاص العهد
هذه هي العروضات التي تلقاها لبنان من الشرق وهذا ما توفره
فاطمة سلامة
ثمّة مجموعة في لبنان من سياسيين واقتصاديين وإعلاميين وغيرهم يُهلّلون لكل ما هو غربي. انفتاحهم على الغرب قائم على مبدأ التبعية العمياء. هذه المجموعة لا تجد حرجاً في تعميم النموذج الغربي على كل شيء في لبنان. في الاقتصاد، ترفض كل العروضات التي لا تأتي من الغرب، مع العلم أنها تعرف الدواء للأزمة الاقتصادية جيداً، ومع العلم أيضاً أنّ العروضات الغربية وعلى مدى عقود لم تخرج عن إطار فرض الاستعمار وخلق حالة تبعية اقتصادية وسياسية وحتى فكرية في لبنان. هذه المجموعة يمّمت وجهها شطر الغرب، بينما أمام لبنان خيارات أخرى كثيرة كفيلة بنقل لبنان من حالة التبعية للخارج عبر استيراد كل شيء الى حالة السيادة الاقتصادية. التوجه شرقاً يقع على رأس تلك الخيارات التي تضمن انقاذ لبنان الذي تحتدم فيه الأزمة الاقتصادية بشكل غير مسبوق ويقف على شفا جرف من الانهيار. اليوم يعود الحديث بقوة عن التوجه للشرق كخيار مفيد. وهو الأمر الذي أعاد الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله التأكيد عليه قبل يومين. عناوين الحل للأزمة الاقتصادية تختصر بالدعوة للتوجه شرقاً، وهذا الخيار -وفق سماحته- يتطلب إرادة سياسية.
فما الفرق بين التوجه شرقاً أو غرباً؟ ما العروضات التي تلقاها لبنان من الشرق؟ وما وجه الاستفادة التي يجنيها لبنان من هذا الخيار؟
الفرق بين الشرق والغرب
الكاتب والمحلل الاقتصادي الأستاذ زياد ناصر الدين يجيب في حديث لموقع "العهد" الإخباري بشكل موسّع عن هذه الأسئلة، مشدداً في البداية على أنّ الأزمة اللبنانية تتطلّب أن يكون هناك تنويع في الخيارات. وفق قناعاته، فإنّ الواقع الاقتصادي والمالي في لبنان منذ عام 1943 الى مرحلة ما قبل الحرب اللبنانية، الى ما بعدها، الى ما بعد اتفاق الطائف وصولاً الى العام 2019 كان بالتوجهات نفسها. تلك التوجهات لطالما كانت غربية علمانية قائمة على العولمة، دون الأخذ بعين الاعتبار أننا لسنا حالة استنساخية بل نحتاج الى أن نكون حالة انتاجية. لذلك، عندما تمت دراسة الواقع اللبناني تبيّن أن لدينا كل أنواع العجوزات سواء في الميزان التجاري، أو الحساب الجاري، أو الموازنة. واذا دققنا أكثر في الأرقام نجد أن حالة العجز مرتبطة بضعف الانتاج. ومن هنا فإنّ المقارنة بين عروضات الشرق والغرب اليوم تنطلق من هذه المقاربة، أي أن الغرب يريد أسواقا استهلاكية وتبعية اقتصادية كما هو حاصل اليوم منذ سنوات، والشرق يُعتبر شرق الاقتصاد الانتاجي والاقتصاديات الواعدة والمنتجة والتي تستطيع أن تحوّل قدرة العملة المطبوعة داخلياً ووطنياً الى عملة أجنبية من خلال التصدير بعد مرحلة الاكتفاء الذاتي.
تحولنا الى اقتصاد مدولر استهلاكي بامتياز
وبلغة الأرقام يستشهد ناصر الدين في حديثه، فيوضح أنّ العجز في لبنان منذ عام 2009 حتى اليوم بدأ في الميزان التجاري بنسبة 32 بالمئة، وتصاعد الى 37 بالمئة، 39 بالمئة، 43 بالمئة، 48 بالمئة، 51 بالمئة، 54 بالمئة، 57 بالمئة، الى أن وصلنا الى الـ60 بالمئة في العام الأخير. وبالتالي، فإن العجز كبير جداً. وبالموازاة، يعرّج المتحدّث على نسبة التصدير الى الخارج والتي تقلّصت من 4 مليارات ونصف المليار دولار عام 2009، الى أن وصلنا الى المليارين ونصف المليار دولار في العام 2019، ما يُنذر بأن هناك ضعفاً بعد أن تحولنا الى اقتصاد مدولر استهلاكي بامتياز نتيجة اعتمادنا على الغرب. وعليه لا بد أن نتوجّه الى خيار الشرق على قاعدة الفروقات بين الشرق والغرب. ما هي هذه الفروقات؟.
الغرب يريد إحداث تبعية سياسية ولبنان يتمتع بامتيازات
يغوص ناصرالدين أكثر في الفروقات بين الشرق والغرب، فيلفت الى أنّ الفارق السياسي على رأسها. الغرب يريد إحداث تبعية سياسية إضافة الى الاقتصادية، بينما الشرق يطلب حالة انتاجية ويساهم في تطوير البنى التحتية لنشر ثقافة الانتاج الصناعي. تلك الحالة أوجدتها الامتيازات التي يتمتع بها لبنان. وهنا يؤكّد ناصر الدين أنّ اهتمام الصين في لبنان مثلاً ليس صدفة بل حقيقي ونابع من امتيازات متعددة. لبنان لديه مرافق بحرية وجوية، ولديه مرافق بنى تحتية مالية ومصرفية، ولديه البنى التحتية الفكرية والعلمية ويمتلك مصادر طاقة مستقبلية، وفي نفس الوقت يستطيع أن يكون صلة وصل بين الانتاج الصناعي الشرقي وبالتحديد الصيني ومعظم دول العالم من خلال انتشار الاغتراب.
وفي النموذج الشرقي نجد أن الانتاج الصناعي واعد. تركيا مثلا دولة انتاجية، وكذلك الهند وإيران رغم الحصار هما دولتان انتاجيتان، دول وسط آسيا أيضاً انتاجية، وصولا الى المارد الكبير الصيني وروسيا. كل هذه الدول انتاجية وباستطاعتها مساعدة لبنان بعقلية مختلفة عن الغرب. عقلية تتعاطى معنا على أننا بلد انتاجي ليصبح لدينا اكتفاء ذاتي ما يخفّف الطلب من الخارج، خصوصا أن لبنان بلد صغير وبالتالي فإنّ وصوله الى مرحلة الانتاج ستوفر عليه الكثير.
ما العروضات التي يقدمها الشرق؟
يستعرض ناصر الدين جملة من العروضات التي يقدّمها الشرق لحل مجموعة مشاكل نعاني منها وتستنزف ماليتنا العامة، وهي:
أولاً: عندما نتحدّث عن الشرق، فإننا نتحدّث عن حل لمشكلة أساسية وهي الكهرباء بتكلفة منخفضة. وهنا يستعيد ناصر الدين كيف رُفض العرض المقدم من قبل الشرق عام 2008 لحل أزمة الكهرباء. هذا الرفض ألقى أعباء مالية على لبنان بقيمة 25 مليار دولار منذ ذلك الحين حتى اليوم. وفق قناعاته، فإنّه وبحل معضلة الكهرباء نتمكّن من حل أول عجز في الميزان التجاري والذي تبلغ قيمته مليار ونصف المليار دولار سنوياً. هذه القيمة اذا ما جرى استثمارها في الدورة المالية ترتد أضعافا في ماليتنا، وتعكس نتيجة داخلية لا تقل عن 3 مليارات دولار. تماماً كما بإمكانها أن تعكس مبلغا قريبا لذلك على الاستيراد الخارجي، لأن الصناعات اللبنانية مطلوبة، ولكن طبعاً من المطلوب أن تنافس الدول المدعومة صناعيا. للأسف، لم يكن هناك خطة لدعم الصناعات اللبنانية -يقول ناصر الدين- الذي يشير الى البدء بأولى الخطوات في هذا الصدد اليوم، والتي تحتاج الى تطوير أكثر.
الشرق جاهز اليوم من خلال العرض الصيني والروسي وهناك عروضات أخرى -لكن لا أريد الدخول بتجاذبات سياسية-، هذا العرض جاهز لحل مشكلة الكهرباء عبر تغذية 24/24 وخلال 16 شهراً، والأهم أن تكلفة الحل منخفضة وليست مرتفعة كما يعرض علينا اليوم من شركات أوروبية وأميركية.
ثانياً: بإمكان لبنان الاستفادة من الشرق وبفترة لا تتعدى الـ16 شهرا، لاستغلال المساحات الشاسعة الموجودة لدينا ولاستثمارها زراعيا، واستثمارها ليكون لدينا ثروة حيوانية مهمة جداً سواء من الدواجن أو الماشية. هذا الاستثمار يوفر علينا كلفة كبيرة ندفعها سنويا وتفوق الـ600 مليون دولار للاستيراد الخارجي، كما يساعدنا على صناعة الثروة الحيوانية.
ثالثاً: عندما ينتج لبنان زراعياً فإن هذا الأمر سيولد انتاجا صناعيا وانتاجا للمواد الغذائية. الأخيرة تشكّل الرقم الأكبر في العجز بالميزان التجاري. ندفع 1.6 مليار دولار سنوياً مقابل استيراد معلبات مواد غذائية. نقطة الضعف لدينا اننا لا نمتلك في لبنان مصانع للمواد الغذائية، واذا كنا نمتلك شيئا بسيطا فهذا يحتاج الى تعديل الاتفاقيات لتضم سياسة حمايات وسياسة دعم للانتاج. ولكن علينا أولاً الذهاب لحل مشكلة الكهرباء التي هي مشكلة أساسية تمنع الانتاج في لبنان. وبعد حل مشكلة الكهرباء بإمكان لبنان الاستفادة من الشرق لإنشاء 30 مصنعا على الأراضي اللبناني وهذه المصانع تكفي لبنان وتساعده على التصدير للخارج.
رابعاً: نحن نستورد آليات نقل من سيارات وغيرها بحدود المليارين الى مليارين ونصف مليار دولار سنوياً بسبب غياب تطبيق خطة نقل. وبالتالي، فإنّ الاستعانة بالشرق لتطبيق الخطة عبر بناء الجسور وسكك الحديد وغيرها -وهناك عروضات جدية في هذا الصدد-يوفّر خروج مليار ونصف مليار دولار سنويا على الأقل الى الخارج. في هذه الحالة لسنا بحاجة الى وجود أكثر من سيارة في المنزل، طالما هناك سكك حديد مثلاً تربط المناطق ببعضها البعض وتربطها بالحدود. وفق حسابات ناصرالدين، فإنّ كلفة خسارة النقل على الاقتصاد اللبناني يومياً تبلغ مليوني دولار، خصوصاً وسط اضطرارنا الى استهلاك كميات كبيرة من البنزين. هذا الرقم الكبير لو أن هناك خطة نقل كان بإمكاننا إبقاؤه داخل لبنان للاستفادة منه في الدورة المالية. يعطي ناصر الدين مثالاً على هذا الأمر، تلزيم الشرق نفق شتورا، تلك الخطوة مهمة جداً للبنان.
خامساً: هناك صناعات أخرى تتعلق بصناعات مستقبلية مهمة في لبنان، خاصة بصناعات انتاج المعرفة، وهذا يحتاج أيضاً الى خطة لتطوير كافة القطاعات. على سبيل المثال يقول ناصر الدين أدخلت روسيا التكنولوجيا ما جعلها تصل الى شبه اكتفاء ذاتي. كدولة لبنانية بإمكاننا إدخال هذه التكنولوجيا وكسر كافة أنواع الاحتكارات في هذا المجال لأن مفهوم الغرب احتكار استهلاكي، بينما مفهوم الشرق انتاج داخلي ونمو.
سادساً: يعرض علينا الشرق تطوير المرافئ البحرية وإنجاز مركز لصيانة السفن على المتوسط. هذا النموذج موجود فقط في فرنسا واليونان. حيفا عملت على تنفيذ هذا المشروع لكنه فشل، فالمركز الاستراتيجي لحيفا ليس كلبنان. وهنا يسأل ناصر الدين: كم يدخل هذا المشروع عملة الى لبنان؟ كم يجذب استثمارات ويقوي البنى التحتية؟. برأيه، فإنّ هذه النقطة تقوي لبنان كبلد "ترانزيت"، مع العلم أنها لم تطرح من الغرب مطلقاً.
سابعاً: على الصعيد المالي، بإمكان الشرق الدخول الى لبنان وإحداث إنقاذ للواقع المالي والنقدي في جزء معين. على سبيل المثال، هناك مشروع سبق أن عرض علينا من قبل دولة كبيرة جدا في الشرق، هذه الدولة كانت على وشك شراء مصرفين في لبنان. هذا الأمر كان سيفتح الباب ليصبح لبنان مركزا ماليا لتجارة تلك الدولة، ما يساعد على تنويع الخيارات وتنويع الواقع المالي، لا يلغي الدولار لكنه يوجد محفظة مالية مختلفة تدفع بدول مجاورة لتأسيس شركات في لبنان.
ثامناً: عرض علينا الشرق مسألة معالجة التلوث في بحيرة القرعون. هذا المشروع رفض رغم أنه لم يعرض علينا من أي جهة أخرى.
تاسعاً: لبنان يستورد أدوية بقيمة مليار و900 مليون دولار سنوياً، وقد أبدى الشرق استعداداً للمساهمة في مصانع الأدوية.
يوضح ناصر الدين أن كمية المشاريع التي عرضت علينا من الشرق كثيرة، وهي توفّر بالحد الأدنى ما يقارب الخمسة مليارات دولار. هذا المبلغ بإمكاننا إبقاؤه في الداخل وإدخال مثله من الخارج الى السوق اللبنانية.
على الدولة أن تبادر وعلى الشرق أن يكون حاضراً
في الختام، يعيد ناصر الدين التأكيد على الفروقات بين العروض التي تأتي من الشرق وتلك التي تأتي من الغرب. الأخير استعماري سياسي يريد في لبنان أسواقاً استهلاكية تابعة له عبر اتفاقيات غير متوازنة. فنحن مثلاً وخلال اتفاقنا مع الاتحاد الاوروبي نستورد سنويا بـ8 مليارات دولار ونصدر بـ300 مليون دولار. هذه الاتفاقية يجب أن تلغى فوراً. بينما هناك خيار آخر في الشرق يعرب عن استعداده لضخ عشرة مليارات دولار في السوق لمدة عشرين سنة بفائدة أقل من 1 بالمئة، لا بل يعرب عن استعداده للتسامح بجزء من الأموال. هذا الخيار يمكّنني -وفق المتحدّث- من تحويل القطاعات الخاسرة الى قطاعات انتاجية. ومن هذا المنطلق فإنّ الشرق الانتاجي الصناعي يأخذني الى السيادة الاقتصادية، ونحن لا نقول إننا نريد الغاء الغرب ولكن نقول إن هناك جزءا كبيرا من الشعب اللبناني وكبيرا جدا يريد هذا الخيار. بالنسبة للمتحدّث، على الدولة أن تبادر، وعلى الشرق أن يكون حاضرا وجاهزا ومبادرا أيضاً وعلى الدولة أن تكون جاهزة وحاضرة.