معركة أولي البأس

خاص العهد

13/05/2020

"السيّد" و"الحاج": السابقون.. اللاحقون

دمشق ـ وسيم الحاج
ـ المكان: الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت
ـ الزمان: مطلع العام 1998

قائد "قوّة القدس" في "الحرس الثوري" الإيراني، العقيد قاسم سليماني، والذي تبوّأ منصبه حديثاً، يزور مقرّ القيادة العسكرية لحزب الله اللبناني. يعانق ضباطها فرداً فرداً. بعضهم استشهد، وآخرون ما زالوا على "خطوط التماس" الأولى. عناقٌ حارٌّ جدّاً، بين سليماني و"رفاق السلاح". القائد الجهادي الكبير الشهيد مصطفى بدرالدين "ذو الفقار"، يسارع إلى احتضان الرجل. يبادله الأخير بعناقٍ أشد.

يعكس المقطع المصوّر علاقةً "استثنائيّةً" بين ثائرين، اجتازت مساحة نضالهما "المشترك" حدود لبنان وفلسطين المحتلة. سوريا، من شمالها إلى جنوبها، مروراً بباديتها وشامها، مسرحاً لإنجازاتٍ نوعيّة وانتصاراتٍ متتالية، يصعُب إنكارها بل يسهُل "التشويش" عليها، باختلاق شائعاتٍ وأكاذيب عن علاقةٍ متوترةٍ بين الشهيدين؛ إذ حمّلت الماكينة الإعلامية السعودية سليماني مسؤولية اغتيال بدرالدين، واتهمته بتدبير ذلك.

كيف يمكن لرجالٍ يعانقون البارود والنار يوميّاً ـ وخطاهم على حافّة الموت ـ أن يملكوا كل هذه العاطفة؟ يستذكر "مجاهدٌ" عَرفَ الشهيدين الكبيرين. من يمعن النظر، في المقاطع المصوّرة لهما، إبّان عمليات تأمين العاصمة السورية دمشق ، عند "مثلث الموت" (ريف دمشق الجنوبي ـ درعا ـ القنيطرة) شتاء العام 2015، يشعر بدفء عناقهما، ويُدرك حجم علاقةٍ "شُوّهت" كثيراً، وغاب "عن غير قصدٍ" ضرورة تصحيح ما أُريد أن يُرسّخ. فالوجوه، التي عرفها العالم بـ"خطورتها على الأمن العالمي" بتعبير الإعلام الغربي، ترشح مشاعر من الصعب "تفكيكها"، أو رصفها في "جملةٍ مفيدة"، لكنّها تَحشدُ في لحظة واحدة أطواراً متعددة من الحب والعزم والبأس.

ينقل مقربون كيف كان يجهّز "السيّد" للقاء الـ"حاج بزركـ" (الحاج الكبير أو العظيم، باللغة الفارسية). يحلو له أن يدعوه بذلك. يسارع إلى استقباله عند الباب الخارجي، بابتسامة قلّ ما كانت تظهر على وجهه. عناقٌ قوي. "جلسةٌ" مطوّلة، وإصرارٌ على حزّ الفاكهة ووضعها أمام الضيف العزيز، رغم تمنّعه وخجله.

وينقل المقربون، أيضاً، "روايات الحب" في المعارك، أحد فصولها الشهيد علي فيّاض "علاء البوسنة". في معارك سهل الغاب، شمال البلاد، نفّذ كميناً محكماً، وهو الفنّ الذي أجاده دائماً. صوّره، وأرسله سريعاً لـ"السيّد". صوته كان مسموعاً في المقطع المصوّر. سأله أحدهم "هل كان فلان هناك، خلف الخطوط؟". يحاول إخفاء ذلك، ويكتفي ـ في نهاية الأمر ـ بـ"نعم". أصرّ "الوسيط" أن يُعلم "السيّد" بأن "علاء" أرسل "فلانًا" للكمين. أصرّ "السيّد" بدوره على إيصال المقطع لـ"حاج بزركـ"، قائلاً "سيفرح كثيراً بما فعله علاء، أرسلوا الفيديو وأخبروه بما جرى... أخبروه بأن فينا عشّاقاً يتسابقون لتقديم الأضاحي في سبيل عزّة هذه الأمة".

يروي آخرُ ممن حضر أحد اللقاءات الأخيرة، أن "السيّد" همس في أذن "الحاج قاسم"، عند توديعه قائلاً "أبلغ القائد (قائد الثورة الإسلامية في إيران، آية الله العظمى سماحة الإمام السيد علي خامنئي) عنّي السلام... قلّ له ابنكم مصطفى بيسلّم عليكم، ويقول لكم الحمل كبير على الحاج قاسم فادعوا له".

أما اللقاء الأخير، في مطار دمشق ليلة اغتيال "السيّد" (أيّار/ مايو 2016)، فقد دام الوداع حوالي الربع ساعة. كان من المفترض أن يخرجا سويّةً، ويعودا للقاءٍ في الليلة عينها. أصرّ "السيّد" على المكوث، وأصر الحاج على البقاء معه، قائلاً "ليس من الأدب أن أذهب، وأنت مازلت هنا". أصرّ "السيّد" على خروج "الحاج"، والذي عاد بعد أقل من ساعة على صوت الانفجار الذي أودى بحياة "السيّد". بكى يومها "الحاج قاسم" كثيراً، ليس على افتقاده "سيف المقاومة"، بل حُزناً على لحظةٍ فاتته، وعلى فرصة لـ"الوصول للمبتغى". صبيحة ذلك اليوم، قال "لقد كُتب اسم السيّد مصطفى على تلك القذيقة ليذهب وحيداً، واختار الله له أحسن خاتمة".

من ينظر في وجهَي هذين الرجلين، وما يمثلانه من كابوسٍ أسودٍ لأعدائهما؛ ومن يمعن النظر في سكون أعينهما وغربة روحيهما البادية على وجهيهما عند وقوفهما على السواتر، يدرك جيّداً أن لهذا "المحور" ما يكفيه من العشق ليتزود به في معاركه الكبرى.

قاسم سليماني

إقرأ المزيد في: خاص العهد