خاص العهد
الشهيد جواد.. بصيرةٌ شعّت من نور فاطمة (ع)
هدى محمد رحمة
في عمر الخمس سنوات كتب جواد رسالة إلى أمه مفادها "أحبك كثيراً يا أمي، وأريد أن أدخل أنا وأنتِ وأبي وإخوتي إلى الجنة الجميلة، انتبهي يا أمي من الإسرائيليين". وفي المرحلة الابتدائية شارك في مسرحية في المدرسة حول الجهاد، رفع فيها علم حزب الله على مجسم القدس.
محمد جواد الزين، لم يكن الابن الأول في العائلة، لكن إحساساً غريباً شعرت به الأم لأول مرة في حياتها عند رؤية ابنها الثاني بعد ولادته، لاحقاً عرفت الأم سر ذلك. منذ طفولته وهو محور المنزل، الأكثر حيويةً وحركة، والأكثر إظهاراً وتعبيراً عن مشاعره.
نشأ جواد على ذِكر العم الشهيد، والذي ورّث أخاه الأكبر عادل اسمه. هو الشهيد "عادل حسين الزين"، من شهداء واقعة مليخ في كانون الثاني من العام 1989، والمشارك في العديد من العمليات والهجومات على المواقع الإسرائيلية. مع مرور السنوات، صار جواد يسأل أباه أكثر عن عمه الشهيد.
كان جواد رفيق أبيه منذ الصغر، حضوره معه خفيف ومحبب. حرص الأب على تربية أبنائه على روح الإسلام الحقيقي، والجهاد. علمهم السباحة، كان جواد صغيراً ويسبح بمهارة وشجاعة. وكان يشارك في النوادي والأنشطة الصيفية. هو رياضي من الدرجة الأولى، حريص على سلامة بدنه كما كان حريصاً على سلامة روحه، لم يدخن يوماً السجائر أو النرجيلة نظراً لضررها الصحي. حتى خلال وجوده في المنزل يمارس التمارين الرياضية بمختلف أنواعها. وكان بطلاً حائزاً على ميدليات في مباريات الملاكمة. درس جواد اختصاص التصميم الفني في المعهد وكان بصدد الدخول إلى الجامعة لإتمام تحصيله العلمي في هذا الاختصاص. أنيق، محط أنظار من حوله، وفي الوقت ذاته زاهد في الدنيا المشرعة له، لكنه دفعها عنه. جواد الخجول المهذب، ينتقي ألفاظه، هو المحب للعائلة وجمعتها، الواصل رحمه، المحبوب بين الأقارب وهو مدلَّلَهم. هو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهو المثقف المطالع، لا فراغٍ في الوقت لديه.
كان هذا نتاج عائلةٍ زَرعُها وحصادها الروح، وهدفها رضا رب العالمين. أمٌّ مربية معلمة للتربية الدينية كان همها وأولويتها في الحياة منزلها، أبناءها، بكامل حاجاتهم الدينية والتربوية والنفسية والروحية، وأبٌ همه تربية مجاهدين، مجاهدي نفسٍ وجسد، غذّاهم بكل ما يحتاجونه لذلك.
ولأنها عائلة هدفها رب العالمين، لم يكن عمل جواد الجهادي موضع استعراض، بل كان كتوماً حتى أمام أقرب الأقربين. ليس لجواد صورة باللباس العسكري، حتى أنه رفض تسجيل وصية مصورة. هو المجاهد الصامت، في مجتمعه لم يكن يوحي لأحد بأنه مجاهد. وهو الذي بدأ باكراً بالدورات العسكرية، كان يترقبها ويسأل عنها. لم يكن ينتظر، بل كان هو المبادر، ويهمه من الدورات ما يخوله الدخول إلى العمق الإسرائيلي عندما يُطلب منه ذلك.
وفي وجدانه، في قلبه وروحه، في تصرفاته، في سكناته، وفي كتاباته، كانت قدوته السيدة الزهراء عليها السلام حاضرة. تعلق خاص ربطه بأطهر نساء العالمين، مد إلى قلبه شعاعًا من نورها. فصار يفرحه ما يفرحها، ويحزنه ما يحزنها. ينادي بالعفة والغيرة، يغضبه ويستفزه الاختلاط غير الضروري وغير المبرر.
ولابنة الزهراء (ع) وهب جواد روحه. عندما بدأ الخطر يحدق بمقام السيدة زينب عليها السلام، هبّ جواد ليدافع عنه، هو الذي كان قد خضع لدورات عديدة. تكرر ذهابه إلى سوريا دفاعاً عن المقدسات، وشارك في عدة معارك بكل حماسٍ واندفاع. خلال المرابطات كان جواد يقضي وقته بالمطالعة وتلخيص الكتب التي يقرأها. ومن شدة حرصه الأمني على عمله لم يكن يُعلم أحدًا بأنه يذهب إلى سوريا، حتى أمه لم تكن تعلم بذلك. الأم التي كانت تنتظر عودة ابنها بفائض صبرٍ وشوق كي تحضنه وتشمه، وليعبر هو بشيء من الدلال عن شوقه لها.
عام 2013 كان جواد في القرية مع أهله، حينها كان محط أنظار جميع من حوله، بهيئته وشخصيته وحديثه وضحكته وبهاء وجهه. وفي تلك الفترة قالت الأم لابنها وهو يرتدي الزي الأبيض: "ما شاء الله عنك يا ابني ما أجملك، الله يحميك"، وكانت حينها تشعر بنور يسطع من وجه ابنها، وأنه ليس لهذه الدنيا.
بعدها بأسبوعين
حول سرير جواد، وأمام غرفته في المشفى، كان يجتمع الأهل والرفاق، بينهم يوسف حلاوي وابراهيم مسلماني (استشهدا لاحقا) وغيرهما الكثير من الأحباب ورفاق الدرب. أيامٌ وقلب جواد في جسده الساكن، بقي ينبض، ولأمه في كل يومٍ حديث معه، ذكريات وأمنيات وأحلام. بعد أسبوع، زارت الأم مدللها جواد لتجد تغيراً كبيراً في هيئته، تحسن وجهه، أحست حينها أن جواد قد عاد كما كان، وجهٌ ملائكي وملامح بريئة، مستعد للعروج فما كان منها إلا أن قالت له "الله يرضى عليك."
حرره رضا أمه من أسر الدنيا، عرج جواد، حلّق، عَبَرَ ووصل، حيث كان على موعدٍ مع من نذر عمره ودمه لها ولذريتها، الزهراء عليها السلام.
في الذكرى السابعة لشهادة جواد، لا زال طيفه يملأ المكان ويتنفس البيت ذكره، تخاطبه أمه: "صرلي فوق الـ25 سنة يا ماما أنا عم بحكي دين بالنظري، وإنت طبقت بالعملي، يا ماما أنا بتزين فيك، إنت شرفتني وكرمتني". تكمل الأم "كل عمل خيرٍ أقوم به هو هدية لجواد، مع كل نفس فيه رضا الله، في صلاتي، في أذكاري، في يومياتي هو حاضر دائماً، حاضر بالنفس والروح والعين".
جواد، كيف لروحك أن تختزن كل هذا الجود؟ كيف لشبابك الفتيّ أن تتدفق فيه كل هذه البصيرة؟ ما سرك يا جواد في زمن صار الرجال فيه وحدهم رجال الله، وأنصار رجال الله؟ يا عارفاً عرفناه من ورقة كانت في محفظته، كانت سر بصيرته، خطَّها بيده وجوارحه ودمه:
"إلهي
يا محبوبي أنا عبدك الأسير والغريب في هذه الدنيا الدنية
لقد ضاق قلبي وفؤادي للالتحاق والرحيل إلى الحبيب والأحبة
أنتَ المحبوب والمعشوق
..
إلهي وسيدي يا مبدع خلقتَ لي عينيّ فنذرتهما للبكاء على فراقك يا محبوبي
والبكاء عند اشتياقي لك
والبكاء على نفسي
ونذرتهم للبكاء على من هم السبيل إليك ومحبتهم وطاعتهم حب وطاعة لك
..
عذراً سيدي يا حسين فقد وهبت لك عيناً للبكاء عليك، لا بخلاً مني
بل لأن الأخرى يا مولاي نذرتها ووهبتها لنور عيني ومهجة فؤادي "فاطمة"
فحزني عليها سرمد وليلي مسهّد
..
حان الرحيل والملتقى أيها الحبيب، فأنا العاشق المشتاق إلى حبيبه"