خاص العهد
ماذا تعني إعادة هيكلة الدين العام؟
فاطمة سلامة
تكثر في هذه الأيام التحليلات والتفسيرات والمقاربات الاقتصادية. ولعلها المرة الأولى التي تبدو فيها وجهات النظر شبه متقاربة لدى توصيف الواقع الصعب الذي نعيشه. كل ما حولنا استحال اقتصاداً، وكيفما اتجهنا نسمع من يُحدّثنا عن الواقع المزري الذي نعيشه. هواتف الخبراء والمحللين الاقتصاديين لا تهدأ هذه الأيام. وعلى قلّتهم، جرى استنزاف القسم الأكبر منهم. معظم البرامج التلفزيونية باتت اقتصادية الطابع. إحدى الزميلات شكت من هذا الواقع، في رحلة بحثها عن ضيف لبرنامجها الاقتصادي، طالبةً من الزملاء اقتراح أية أسماء جديدة لخبراء اقتصاديين وماليين، فالمواضيع الاقتصادية باتت "حديث الساعة" في هذه الأيام التي يعيش فيها لبنان مرحلة جديدة وصلت به حد اللجوء الى صندوق النقد الدولي لطلب مساعدته، في الوقت الذي يُحكى فيه عن إعادة هيكلة الدين العام نظراً لعدم قدرة لبنان على سداد سندات "اليوروبوند". فماذا يعني اللجوء الى صندوق النقد الدولي؟ وماذا يعني مصطلح "هيكلة الدين العام"؟.
وزني: شكلان لتدخل صندوق النقد
قبل أشهر، بدأ الترويج لقضية إخضاع لبنان لصندوق النقد الدولي نظراً للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها. حينها، تحدّث وزير المال غازي وزني لموقعنا كخبير اقتصادي، موضحاً أنّ بعض الدول التي تواجه تخلفاً في سداد الدين العام وصعوبات مالية ومصرفية واقتصادية، وتجد نفسها عاجزة عن الخروج منها، لا بل تتجه نحو المزيد من الانحدار، ولا تملك القدرة على ايجاد الحلول بمفردها، تلجأ الى صندوق النقد الدولي الذي هو مؤسسة مالية دولية.
ولفت وزني الى أنّ التوجه نحو صندوق النقد الدولي يتخذ شكلين: في الحالة الأولى تستطيع الدولة الطلب من الصندوق أو البنك الدولي تقديم مساعدات تقنية كنصائح أو ارشادات أو توصيات تقنية تتبناها الدولة وتبدأ العمل على تنفيذها بعيداً عن الاجراءات الحادة، وهنا يكون دور صندوق النقد الدولي المواكبة فقط. أما الحالة الثانية أو الشكل الآخر فتلجأ اليه الدول في حال تفاقمت الأزمة ولم يحل أزمتها الدور الاشرافي للصندوق، وهنا تدخل الدول في برنامج مع صندوق "النقد الدولي" لمعالجة أزمتها، وفي المقابل يفرض الصندوق عليها شروطاً تتعلق بكافة المواضيع الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية. وأكّد وزني في حينها أنّ لبنان ولمجرد دخوله في برنامج الصندوق، يصبح بالتأكيد مضطراً للخضوع لكافة أنواع الشروط التي يمليها الصندوق ولرؤيته في معالجة الازمة في القطاع المصرفي والمالية العامة وديون الدولة السيادية.
ماذا تعني إعادة هيكلة الدين العام؟
قضيّة اللجوء الى صندوق النقد الدولي لطلب الاستشارة التقنية جراء استحقاق "اليوروبوند" الداهم، يترافق معها الحديث عن إعادة هيكلة الدين العام. فماذا يعني هذا المصطلح؟.
الخبير الاقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة يؤكّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّه ولأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية يجد لبنان نفسه عاجزاً عن الإيفاء بالتزاماته، ومضطراً لإعادة هيكلة الدين العام. برأيه، عادة ما يُحكى عن هيكلة للدين العام عندما تقف الجهة المدينة على شفير الافلاس، وعندما لا تعود تملك القدرة على سداد الديون. فكيف تحصل العملية؟.
يوضح عجاقة أنّ إعادة الهيكلة تعني وضع شروط الدين القديمة جانباً، وإعادة التفاوض من جديد مع المقترضين حول تنظيم الدين وهيكلته، وترتيبه وفق إمكانيات الدولة المدينة، بحيث تُجزأ الدفعات بمبالغ تستطيع بموجبها الدولة السداد، وكأننا نأخذ دينا جديدا بشروط جديدة. وغالباً ما يصار -وفق عجاقة- الى اقتطاع نسبة من الدين القديم وهذا ما يُسمى بـ "هيركات" أي أنّ الدول الدائنة ترضى باقتطاع جزء من ديونها عملاً بمبدأ "عصفور باليد ولا عشرة على الشجرة". وهنا يشدّد عجاقة على ضرورة الانتباه الى أن الهيركات لا يحصل على الودائع مطلقاً بل على الديون، وعلى ضرورة التفريق بين مصطلح هيكلة وجدولة الدين العام، فالثاني هو خطوة لا خوف منها، ونلجأ اليها عندما يحدث تعثر مالي ما.
ناديان يلعبان دور الوسيط برعاية صندوق النقد
وفي سياق حديثه عن العملية التي تتم بها مسألة "هيكلة الدين العام"، يوضح عجاقة أنّ هناك مؤسسات مالية دولية ساندة تعرف بنادي باريس ونادي لندن تلعب دور الوسيط. فنادي باريس على سبيل المثال هو عبارة عن مجموعة غير رسمية من الدول الدائنة التي تسعى لإيجاد حلول ملائمة للصعوبات التي تواجهها الدول المدينة في سداد ديونها. بمعنى يُشكّل هذان الناديان -وفق عجاقة- صلة الوصل بين الدول الدائنة والدولة المدينة. فعندما تتّجه الدولة نحو خيار إعادة الهيكلة تحت وصاية صندوق النقد الدولي، يجتمع الناديان اللذان يشكلان ملتقى بين الدول، يجتمعان لمصارحة المقرضين بأنّ هذا البلد لم يعد قادراً على الايفاء بالتزاماته للتفاوض من جديد. والجدير ذكره أنّه اذا كان مجمل الدين داخلياً فلا اشكالية، الا أنّ المشكلة تظهر كلما توسّعت نسبة الدين خارجي.
شروط قاسية
يوضح عجاقة أنّ المساعدة التقنية التي يطلبها لبنان ليست ملزمة بأي شكل من الأشكال، ولكن عندما يقدّم صندوق النقد الدولي الينا الأفكار، فهو بشكل من الاشكال يقول لنا ان ليس لدينا خيار آخر، لأننا وصلنا الى مرحلة لم نعد فيها قادرين على إيجاد الحلول من منطلق أنفسنا. وفي أغلب الأحيان فإنّ المساعدة التقنية يليها طلب مساعدة مالية. وهنا يُشدّد عجاقة على أنّ شروط صندوق النقد قاسية دائماً على المجتمع، وفي معظم الأحيان تُولّد الفقر في البلد المدين بسبب رفع الضرائب، زيادة الرسوم، سحب الدعم. وفق قناعات عجاقة، ففي الدول التي شهدت إعادة الهيكلة شهدت فقراً وبطالة وتراجعا في النمو الاقتصادي لفترة تتراوح بين 3 و4 سنوات منذ بدء الهيكلة، ومن بعدها يُقلع البلد من جديد.
ويعرض عجاقة وجهة نظره، موضحاً أنّ لبنان لم يقم بما يتوجّب عليه، حتى يسارع الى طلب المساعدة، لم يحارب الفساد كما يجب، لم يستفد من إيراداته كما يجب، لم يسع لايقاف الهدر في الكهرباء، الجمارك، المرفأ، الاتصالات، الأملاك البحرية والنهرية، وسكك الحديد. لو استفدنا من كل هذه الايرادات وأوقفنا الهدر، ألا نستطيع سداد ديوننا؟ هل من الواجب الذهاب نحو الوصاية؟ يسأل عجاقة الذي يشير الى أن الاصلاحات ومحاربة الفساد تغنينا عن طلب المساعدة من صندوق النقد. في المقابل، يعرب المتحدّث عن تأييده للمساعدة التقنية بعيداً عن المساعدة المادية، فصندوق النقد هو بنك للدول والولايات المتحدة هي أكبر مساهم فيه. وهنا يسأل عجاقة: هل يوجد أي شروط سياسية معينة؟ أتمنى أن لا يكون كذلك، وليس من المفروض أن يكون كذلك، فكلنا نعلم حساسية الواقع اللبناني، يختم عجاقة.