خاص العهد
بالوثائق والأرقام..."العهد" يكشف تورط ميشال المر باختلاس المال العام
فاطمة سلامة
حين تغوص أكثر في ملفات الفساد المتعدّدة على الساحة اللبنانية، تستغرب كيف أن هنالك بعض الأشخاص لا يزالون خارج القضبان!!. أولئك لا شكّ أن مكانهم الوحيد هو السجن لما اقترفته أيديهم من عبث في مال الدولة، وسرقة لمال الشعب. تستغرب كيف يسرحون ويمرحون و"يتنعمون" بتلك الملايين المنهوبة من خزينة الدولة، وكأنّ شيئا ًلم يكن. ولعلّ أكثر ما يُثير التعجّب في لبنان، هو القضاء. الأخير لو أنّه مارس واجبه كما يجب وحكم بالعدل، بالتأكيد لما تجرأ كثيرون على المال العام. طبعاً لسنا هنا في وارد التوسع بالحديث عن "القصور" القضائي، والملفات "النائمة" واتصالات أعلى الهرم "الكافية" لطي أي ملف وصرف النظر عن أي متورّط. فلا شك أنّ صورة القضاء في لبنان على شاكلة الواقع الاقتصادي والمالي. هي صورة يأتمر فيها القاضي بإمرة السياسي الذي يقول كلمته "ويمشي" مطمئناً الى أنها "العليا" في تلك المنظومة. ولا شك أيضاً أنّ هناك قضاة "نزيهون" تمرّدوا على هذا الواقع إلا أنّهم لم يتمكّنوا من البت بالملفات، فبقيت عالقة الى أجل غير مسمى.
قصّة الدولة مع رئيس مجلس إدارة "ستوديو فيزيون" وقناة MTV ميشال غبريال المر لا تخرج عن الواقع المذكور آنفاً. الدولة ادعت أمام النيابة العامة المالية على المر و"ستوديو فيزيون" في تاريخ 16/9/2016 بتهمة التعدي على شبكات الهاتف وهدر المال العام، بعد أن زوّدت ادعاءها بكافة المستندات والمعلومات التي تُدين المر، إلا أنّ القضاء ـ وبكل بساطة ـ أصدر حكمه ببراءة المر في 5 شباط/ فبراير 2018 وحكم بإبطال التعقبات بحقه. حينها، تقول مصادر قضائية لموقع "العهد"، عمّت الاحتفالات في دار المر ظنّاً منه أنّه خرج من القضية كـ"الشعرة من العجينة" بعد أن استخدم المال لشراء البراءة، إلا أنّ الدولة استأنفت أمام القضاء، بعد أن كلّفت لجنة خبراء مؤلفة من ثلاثة أشخاص باعداد تقرير فني في قضية "التخابر الدولي غير الشرعي"، وعلى أساس هذا التقرير ستتم محاكمة المر، تقول المصادر، التي تؤكّد لموقع "العهد" الإخباري أنّ التهمة تلبس المر لبساً، ولن يتمكّن هذه المرة من "الهروب"، خصوصاً أنّ تقرير الخبراء "مبكّل" لا لبس فيه.
وتُشدّد المصادر القضائية على أنّ كل الأدلة والمستندات "تفضح" اختلاس المر للمال العام، وتهربه من دفع الرسوم والضرائب. وتقول المصادر القضائية إنّنا سنشهد قريباً محاكمة المر خلال جلسة حددتها محكمة استئناف الجزاء برئاسة القاضي فيصل حيدر في 9 كانون الأول/ ديسمبر المقبل بعد أن تسلّمت منذ أكثر من شهر تقرير لجنة الخبراء الذي على أساسه ستتم المحاكمة. فماذا يتضمّن هذا التقرير؟.
مصادر قضائية رفيعة تكشف لموقع "العهد" الإخباري مضمون التقرير الذي تسلّمته المحكمة والذي لم يكن مطلقاً لصالح المر، فتوضح أنّ التقرير الذي يقع في 40 صفحة مرفقة بمستندات ووثائق وأدلة لا يدع مجالاً للشك بأنّ المر أقدم على قرصنة الاتصالات الدولية الواردة إلى لبنان وبدل أن تصب عائداتها في خزينة الدولة صبّت في حساب المر الذي عمل على فتح "نافذة" اتصالات دولية من خلال معدات وأجهزة استقبال نُشرت في قمم الزعرور وغيرها، بالاضافة الى "محوّل سنترال" موجود في مركز "ستديو فيزيون" في النقاش.
والمعروف أنّ أي اتصال دولي يجب أن يمر في ثلاث بوابات: العدلية، رأس بيروت، الجديدة. وبالتالي فإنّ أي تخابر دولي لا يتم عبر تلك البوابات فهو غير شرعي، لأنه يتخطى بوابات الدولة التي تمتلك "الحصرية" في التخابر الدولي. وهنا يُلخّص أحد الشهود من "أوجيرو" للخبراء عملية "القرصنة" بالقول :" يقوم المتصل من الخارج بالاتصال من هاتفه بمشغّل الدولة الذي يقوم بتحويل الاتصال الى لبنان عبر الانترنت وعبر بوابات عبور تسمح بربط شبكة الانترنت بشبكة الهاتف، وهذه البوابات تعمل على تغيير الرقم". بهذا المعنى، استغلّ المر رقم هاتفه الثابت، وبدأ يُرسل عبره الاتصالات الدولية من وإلى خارج لبنان، عن طريق تحويل المكالمات الدولية إلى خطوط اتصالات محلية بطريقة غير شرعية. وبالتالي، بدل أن تكسب الدولة من المتصلين لقاء كل دقيقة تخابر دولية، كان المر يبيع تلك الدقيقة للمتصلين بنصف السعر الذي تبيعه الدولة، ويدفع للدولة بدلاً عن كل دقيقة تخابر دولي، دقيقة تخابر محلي.
المر فضح نفسه!
قبل أن تغوص المصادر في فحوى التقرير، تستعرض خلفيات القضية التي بدأت بتاريخ 29 آب/ أغسطس 2012 عندما استحصلت شركة "ستديو فيزيون" على خط اشتراك E1 من "أوجيرو" رقمه 04526000. وضع الخط في الخدمة الفعلية في 28 أيلول/ سبتمبر 2012. لم يُسجّل الخط أي عملية تخابر تُذكر لمدة ثلاثة أشهر، وهي المدة الخاضعة للرقابة من قبل وزارة الاتصالات. بعدها، وابتداء من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2012، بدأت عمليات التخابر المحلي تتصاعد، سجّلت الفاتورة الشهرية آنذاك 30 مليون، لترتفع بعدها الى الخمسين مليون شهرياً. معدل التخابر كان يفوق الـ4000 مخابرة يومياً، رغم أنّ الشركة تملك خطي E1 آخرين، إلا أن حركة الاتصالات فيهما طبيعية جداً. حينها لاحظت "أوجيرو" أن حركة اتصالات غير طبيعية تحصل، فلو أنّ الشركة استخدمت الهاتف المحلي 24 على 24 لا تسجّل كل تلك المخابرات، خاصة أن بعض المكالمات كانت تلامس النصف ساعة. فعملت "أوجيرو" بطلب من وزير الاتصالات على قطع الخط الرقمي 04526000 بتاريخ 11/5/2016 الساعة 13:00 وأعيد وصله بتاريخ 13/05/2016 الساعة 18:00. عندها، علِم المر أنّه وقع في شباك الدولة، فـ"فرمل" عملية التخابر الدولي غير الشرعي.
وفيما يلي جدول يُبيّن كيف هبطت الاتصالات من 5137 مكالمة في 10/05/2016 أي قبل قطع الخط بيوم واحد الى 118 مكالمة في اليوم الأول على عودة الخط الى العمل.
وفي هذا السياق، تعلّق مصادر قضائية لموقعنا بالقول إنّ "المر فضح نفسه بنفسه"، فلو أنّ الاتصالات استمرّت بنفس الوتيرة بعد عملية القطع لمرّ الأمر مرور الكرام ربما، ولكنّ هبوط فاتورة المر الشهرية من 50 مليون ليرة قبل القطع الى مليون ونصف المليون بعد القطع، قطع الشك باليقين، وأكّد للدولة أنّ شيئاً غير طبيعي يحصل، لتبدأ حينها التحقيقات. حجم التخابر المرسل من الرقم هبط وبسرعة الى 118 مكالمة. واللافت ـ وفق التقرير ـ أنّ الاتصالات المحلية الواردة الى الخط المشبوه قليلة جداً لا تتجاوز المئة مخابرة خلال الثلاث سنوات، فعلى مدار الساعة كان الخط "يرسل" ولا يستقبل، حتى سجّل اتصالاً بـ900 ألف مشترك في الشبكتين الثابتة والخليوية، وبلغ حجم مكالماته الصادرة في الشبكة الثابتة 4 ملايين و465 ألف مكالمة، وفي الخليوية 33 ألف مكالمة خلال الثلاث سنوات.
وفيما يلي مستند يُبين عدد المكالمات الصادرة بحسب ساعة إجراء الاتصال ما يبيّن استمرارية العمل 24/24
مضمون تقرير لجنة الخبراء
توضح المصادر القضائية أنّ الخبراء وخلال إعدادهم التقرير استندوا الى مجموعة أدلة ومعطيات أبرزها:
أولاً: بعد أن زعم المر أنّ حركة الاتصالات الصادرة من خط هاتف الشركة طبيعية قياساً بحجمها، عمد الخبراء إلى إجراء مقارنة بين نسبة الاتصالات الصادرة من الشركة وبعض المؤسسات، ومنها بنك لبنان والمهجر "بلوم" بالإضافة الى قناة lbc. وخلص التقرير الى أنّ بنك "بلوم" والذي يمتلك عشرات الفروع، سجّل رقمه 01/785000 حركة تخابر نسبتها 24 بالمئة من حجم الاتصالات في لبنان. أما قناة LBC فقد سجّلت حركة تخابر نسبتها 3.48 بالمئة، بينما خط الشركة "المشبوه" الذي يحمل 04526000، فقد سجّل 53.77 بالمئة، وهي نسبة كبيرة جداً قياساً ببنك "بلوم" مثلاً الذي من المفترض أن يتخطى حجم اتصالاته حجم "ستديو فيزيون" بأشواط. أكثر من ذلك، أجرى الخبراء مقارنة بين الخط المذكور وخطي الـE1 الآخرين داخل الشركة، لتكون نتيجة التخابر من خلالهما ضئيلة جداً إذ وصل أقصاها الى 5.18 بالمئة.
ثانياً: لجأ الخبراء الى الاستفسار من بعض الجهات والمؤسسات التي جرى الاتصال بها من الرقم المشبوه عما اذا كانت هناك أية صلة بشركة "ستوديو فيزيون". ومن جملة أسماء الشركات التي اختارها الخبراء، الشركة اللبنانية للبدائل العلاجية، والتي تقع في نطاق الضاحية الجنوبية. بيّن الاحصاء أن هذه الشركة تلقّت أكثر من ستة آلاف مخابرة عبر الخط المشبوه خلال الثلاث سنوات، وهي شركة تتلقى عادة اتصالات كثيرة من الخارج، نظراً الى الاعلانات التي تضعها على "التلفزيونات". سأل الخبراء صاحب الشركة ويدعى حمزة نصر الله اذا كانت تربطه أي علاقة بشركة "ستديو فيزيون"، فجاء جوابه سلبيا بالمطلق، مشدداً على أن لا علاقة له بتلك المؤسسة ولا يمتلك أي زبون هناك، لا بل لا تربطه أي صلة قرابة مع أحد العاملين.
ثالثاً: حين انقطع خط هاتف E1 مؤقتاً، من المفترض أن تزيد حركة خطي الـE1 الآخرين في الشركة على قاعدة ازدياد الضغط عليهما، إلا أنّ الخطين لم يشهدا أية مكالمة زائدة، بل بقيت حركة الخطوط الثابتة على نفس الوتيرة، الرقم الأول سجّل 16 مخابرة يومية، والثاني 273 مخابرة يومية، وهذا يُفسّر أن الرقم المشبوه لم يكن يستعمل قط للاتصالات الداخلية.
*أبرز المؤسسات والجهات التي تلقّت مخابرات دولية عبر شركة المر
لاحظ تقرير لجنة الخبراء أنّ الرقم المشبوه سجّل حركة اتصالات مثيرة للريبة استهدفت جمعيات، سفارات، شركات، فنادق، مصارف، ومستشفيات وغيرها بشكل متكرر، وأبرزها:
ـ مستشفى الجامعة الأميركية (01/350000) استقبلت من "ستديو فيزيون" ما يقارب الـ12000 مكالمة خلال الثلاث سنوات أي بمعدل 10 اتصالات يومياً.
ـ الشركة اللبنانية للبدائل العلاجية (01/822083) استقبلت أكثر من 6000 مكالمة خلال ثلاث سنوات.
ـ السفارة الألمانية تلقّت 5940 مخابرة خلال ثلاث سنوات أي بمعدل 6 اتصالات في اليوم تقريباً.
ـ السفارة الاسترالية تلقّت أكثر من 3000 مكالمة خلال فترة الثلاث سنوات
واللافت أن وقت الاتصالات كان يتراوح بين دقيقتين وثلاثين دقيقة، وهذا الأمر مثير للريبة بحسب التقرير، إذ إنّ حجم المخابرات اليومي كبير جداً جداً مقارنة بالوقت الذي تستغرقه المكالمة، فلو افترضنا أنّ عشرين مكالمة يومية استغرقت نصف ساعة ينتهي النهار، على حد قول المصادر القضائية.
خلاصة التقرير الفنية
بناء على ما تقدّم، أوجز تقرير الخبراء خلاصة فنية استند إليها لاتهام شركة "ستديو فيزيون" ورئيس مجلس ادارتها ميشال المر، لُخّصت بالآتي:
ـ لم تقدّم شركة "ستديو فيزيون" أية وثيقة أو مستندات تُنقذ الادعاء وتدحض المعلومات الموجودة في التقرير، سوى تقديمها عدد الموظفين الذي يستعملون "البصمة" والبالغ عددهم 785، للتذرع بأن حجم الاتصالات طبيعي مقارنة بعدد الموظفين
ـ إخفاء الرقم المشبوه وإظهاره للمستقبل على أنه رقم مجهول يُثير الريبة عن حركة اتصالات غير طبيعية
ـ المكالمات الصادرة الى وجهات مختلفة من الرقم المشبوه 04/526000 بلغت نسبة مذهلة من حركة الاتصالات في لبنان ( 53 %)، إذ طالت 900 ألف مشترك على الشبكتين الثابتة والخليوي.
ـ حركة الاتصالات الليلية مرتفعة جداً وبلغت ذروتها في ساعات الصباح الأولى، وسجّلت ما نسبته 17.68 بالمئة من حركة الاتصالات، بينما الرقمان الآخران سجّلا 4.20 بالمئة و5.18 بالمئة.
ـ ورود مكالمات ضئيلة جداً جداً الى الرقم المشبوه من الداخل اللبناني
ـ في نهاية الأسبوع وبغياب عدد كبير من الموظفين، من المفروض أن تنخفض حركة الاتصالات بشكل لافت، الا أن حركة الرقم المشبوه انخفضت بشكل طفيف، بينما الرقمان الآخران للشركة شهدا انخفاضاً حاداً
ـ وجهة الاتصالات كانت في معظمها لمؤسسات
ـ استقلالية حركة التخابر بين الخطوط الثلاثة، فعندما جرى قطع الرقم المشبوه لم يؤثر هذا الأمر سلباً أو إيجاباً على حركة الخطين الآخرين.
هنا تؤكّد المصادر القضائية لموقع "العهد" أنّ كل الادلة والاثباتات والتحقيقات التي جرت والتي تضمنها تقرير لجنة الخبراء تكشف حقيقة تورط ميشال غبريال المر بهدر المال العام وسرقته بالإضافة الى التهرب من دفع الضرائب والرسوم، فبالاضافة الى قرصنة الاتصالات وحرمان الدولة من حقها في الاستفادة من عائدات التخابر الدولي، هناك أموال دخلت "خلسةً" الى جيب المر لم يُصرّح عنها ولم يدفع عليها بالتالي لا ضرائب ولا غرامات ولا رسوماً. وهنا تُشير المصادر الى أنّ عقوبة المر تقضي بسجنه ثلاث سنوات مع رد المبالغ التي سلبها من الدولة الى الدولة والتي قدّرت بـ30 مليون دقيقة تخابر، تحتسب على أساس أن الدقيقة بثمانية سنت، أي أكثر من مليون دولار اذا ما احتسبنا قيمة الفاتورة المسدّدة، يضاف اليها طبعاً الأموال المستحقّة للدولة نتيجة التهرب من دفع الضرائب والرسوم.
وفيما يلي جدول تضمنه تقرير الخبراء يُقدّر الخسائر المالية التي ترتبت على المالية العامة نتيجة القرصنة من بداية العام 2013 حتى نيسان/ أبريل 2016
فهل يحقّ الحق هذه المرة، ويحكم القضاء بالعدل ويقول كلمته بعيداً عن التدخلات السياسية، خصوصاً أنّ تقرير لجنة الخبراء بكل ما يتضمّنه من أدلة ومستندات ووثائق يؤكّد تورط المر حتى العظم بتهمة التخابر الدولي غير الشرعي، أم ستفعل المحسوبيات فعلها؟. تجيب المصادر القضائية على هذا السؤال بالقول "لا مفر هذه المرة، فالتهمة تلبس المر لبساً".