خاص العهد
"غول" المصارف..ثروات" خيالية من المال العام ولا مساهمات للانقاذ
فاطمة سلامة
في كل مرّة يُفتح فيها ملف الأزمة المالية والاقتصادية والنقدية في البلد، ثمّة سؤال يتردّد: لماذا لا تُساهم المصارف ولو بجزء بسيط في حل هذه الأزمة؟ السؤال على بساطته إلا أنّه يعني الكثير، إذا ما تحدّثنا عن انعكاسات هذه المساهمة على الواقع المأزوم. هنا نستعيد تجربة عام 2001، عندما اكتتبت المصارف في سندات خزينة بفائدة صفر بالمئة على مدى أربع سنوات. حينها أنقذت المصارف نفسها قبل أن تنقذ الاقتصاد اللبناني الذي استفاد كثيراً من هذه الخطوة. ومن هذا المنطلق، بدأت المُطالبات تتردّد بكثرة لاستنساخ التجربة السابقة، خصوصاً في ظل الأزمة الحالية التي يُجمع معظم الخبراء والمراقبين على أنّها الأسوأ في تاريخ لبنان الاقتصادي. إلا أنّ هذه المُطالبات لم تجدِ نفعاً، فحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي أغرق المصارف من خيرات المال العام -عبر الهندسات المالية- لا يزال عند "تطميناته" لجمعية المصارف، وغالباً ما يقول سراً وعلانية إنّ المصارف غير قادرة على "تحمّل الاكتتاب بفوائد خارج آليّات السوق". وهو بذلك يمنع المس بكتلة أرباح المصارف التي تجنيها جراء خدمة الدين العام. فكيف استفادت المصارف من العمليات المالية مع المصرف المركزي؟ وما المطلوب منها اليوم في ظل الأزمة التي تعصف بلبنان؟.
يشدد الباحث والكاتب الاقتصادي زياد ناصرالدين على أنّ المصارف حقّقت أرباحاً طائلة جداً من "الهندسات" المالية. منذ عام 1992 حتى 2018 جنت المصارف 17 مليار دولار كأرباح، يُضاف اليها 5.5 مليار دولار خلال عام 2018. من وجهة نظر ناصرالدين فإنّ الهندسات المالية التي قام بها حاكم المصرف المركزي تشكّل أحد الأسباب التي أدّت الى حصول انكماش كبير في السوق، نتيجة المضاربات التي سادت بين المصارف ما أدى الى ارتفاع الفوائد، وحدوث الانكماش. صحيح أنّ المصارف مطالبة من قبل البعض برفع رأسمالها لتبقى ضمن شبكة التحويلات العالمية، يقول ناصرالدين، إلا أنّ الاقتصاد الذي يعاني من واقع مأزوم ومهترئ، يستدعي مساهمة المصارف لإنقاذ البلد. أكثر ما يلفت -وفق المتحدّث- هو كل هذا التضارب الحاصل اليوم في وجهات النظر بين مصرف لبنان، والمصارف، والصرافين، وهذا ما لم يحصل على مدى 30 عاماً. وهنا يطرح سؤال: ما الذي تغيّر حتى شهدنا ما نشهده اليوم؟.
يُجيب ناصر الدين بالإشارة الى أنّنا نعاني من عجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، يُضاف الى ذلك الضغط الكبير الذي تمارسه واشنطن على الاقتصاد اللبناني للعديد من الأسباب منها ما يتعلّق بمصالح "إسرائيل"، إعادة إعمار سوريا، الملف النفطي، وغيرها من الأسباب. الضغوط والايعازات الخارجية -من وجهة نظر المتحدّث- هي التي تمنع مساهمة المصارف في الاكتتاب بسندات خزينة بفوائد منخفضة. يُكرّر كلامه لجهة أن أرباح المصارف كبيرة جداً، في وقت يعاني فيه السوق من انكماش خطير وكبير، وهذا يحتّم على المصارف أن تكون مساعدا وداعما كبيرا للاقتصاد اللبناني، وأن تسهم في تكبير حجم الاقتصاد من خلال دعم الاستثمارات، فضلاً عن المشاركة في تأهيل البنى التحتية في لبنان. على المصارف أن تبادر الى تخفيض طوعي لنسبة الفوائد التي تجنيها من الدولة، لتخفيض خدمة الدين العام، تلك الخدمة التي يدفع مقابلها لبنان 6.5 مليار دولار سنوياً، لذلك فإنّ تخفيض نقطة واحدة يعني التوفير على خزينة الدولة 900 مليون دولار.
من وجهة نظر الكاتب والباحث الاقتصادي، لا يجوز الابقاء على الفوائد المرتفعة في ظل كل هذا الواقع الذي نعيشه. فالفوائد المرتفعة، تعني ضرائب مرتفعة، انكماشاً مرتفعاً، نمواً متدنياً وبطالة فاحشة. وهنا يسأل: هل تنقذ المصارف السوق اللبناني والاقتصاد بهذه الطريقة، وهي التي تعمل في نطاق هذا السوق وتخضع للقوانين اللبنانية؟. من وجهة نظره، فإنّ هذا الأمر سيرتد سلباً على المصارف أيضاً.
كما يأسف ناصرالدين للخيارات المالية والاقتصادية والنقدية التي سادت منذ عام 1992 حتى اليوم. يُعطي مثالاً على ذلك، فعام 1996 وصلت الفوائد على سندات الخزينة الى 45 بالمئة. اليوم، يدفع لبنان ثمن هذه الخيارات التي حقّقت فيها المصارف الأرباح الخيالية، والتي كانت أكبر بكثير من واقع العرض والطلب وواقع النمو الذي لا يساعد على هذه الفوائد. وبالتالي، فإنّ السياسة النقدية تحكّمت بكل مفاصل الدولة لتتكبّد الخزينة مزيداً من خدمة الدين العام لصالح المصارف.
ويلفت ناصر الدين الى أنّ المصارف -وللأسف- لم تساهم في تفعيل الاقتصاد، فهل يُعقل أنها دعمت القطاعات الانتاجية بمليارات الدولارات، وفي المقابل نستورد 90 بالمئة من حاجاتنا؟!. كل هذه السياسات بحاجة الى إعادة نظر، نحن بحاجة الى اقتصاد يحمي النقد، لا السياسات النقدية المعمول بها اليوم والتي لا تبني اقتصاداً، ولم ينتج عنها سوى المضاربات في الأسواق. باختصار، تحولت المصارف الى شريكة للطبقة السياسية في استغلال الواقع اللبناني. وعليه، يقول ناصرالدين، فإنّ تجربة الفوائد العالية إذا ما تمت دراستها يتبيّن لنا أنّ لبنان دفع مبالغ خيالية لم تدخل الى الاقتصاد اللبناني. فمبلغ الفوائد تخطى الـ60 مليار دولار منذ عام 1992 حتى اليوم. هذه الفوائد ذهبت كأرباح للمصارف والطبقة السياسية الحاكمة.
يختم ناصرالدين حديثه بالاشارة الى أنّه ليس المطلوب محاربة المصارف، لكن الواقع يستدعي وضع خطة تحمي المصارف وفي الوقت نفسه تجعلها مساعداً في تكبير الاقتصاد والنمو وحماية الدولة.