آراء وتحليلات
الجيش اللبناني: تحية لمؤسسة تعيش بين ألغام السياسة اللبنانية!
محمد علي جعفر
على الرغم من حق كل دولة في اعتماد سياسات خاصة بها، تتفق كافة الدول على أن أي سياسة تُعبِّر عنها الدولة يجب أن تتلاءم مع مصالح أمنها القومي. في لبنان يغيب عن الدولة مفهوم الأمن القومي، مع ما يعينه ذلك من نتائج على قرارات الدولة ومصالحها. من هنا يجب أن يبدأ النقاش حول إجحاف الدولة بحق المؤسسة العسكرية عمومًا، ثم العسكريين خصوصًا لا سيما بعد إقرار موازنة 2019. وهي ليست المرة الأولى التي تسعى الدولة للتضحية بحقوق المؤسسة العسكرية، حيث أن القيادة السياسية اعتادت إثارة حقوق العسكريين مع كل محاولة إصلاح مالي (لا سيما مسألة الضمائم العسكرية ومنها التدبير رقم 3)، وهو ما يُعبِّر في الحقيقة عن غياب أهمية تعزيز المؤسسة العسكرية ودورها عن أولويات السلطة، وبالتالي يعكس استهتار النخبة الحاكمة بمصالح لبنان الكبرى لا سيما مفهوم السيادة! فكيف لدولة لا تُقدِّر تضحيات جيشها وعوائله، أن تُفكر بمصالح مواطنيها؟
في لبنان، يعيش أقطاب السياسة على حساب المواطن بكل ما للكلمة من معنى. أظهر نقاش الموازنة - والتي تسعى جهات عدة لإظهار جوانبها الإيجابية - أن همَّ الدولة في تأمين استمراريتها. ليس كما يُريد أبناء الوطن، بل إرضاءً لمؤسسات مالية ريعية دولية. في لبنان، يغيب عن الدولة الشعور بالمسؤولية. وهنا فإن ما أظهرته الأشهر الماضية، خطيرٌ جداً من منظار قدرة الدولة على ممارسة الحكم. بإختصار، وفي حين ظهرت نقاشات عدة حول شؤون تخص المواطن، جاءت أرقام الموازنة لتُثبت إجحاف الدولة بحقها. لا أموال لدعم التعليم، لا أموال للتوظيف، لا أموال للتحول نحو الإقتصاد الإنتاجي، لا أموال لمشاريع الإصلاح الإداري، ولا أموال للجيش والدفاع الوطني. بتعبيرٍ بليغٍ موجز، لا أموال مع الدولة لتُمارس واجباتها تجاه المواطن والوطن. هكذا حول حال الدولة في لبنان! لكن، لماذا تُشكل حالة المؤسسة العسكرية وحقوق العسكريين حالة خاصة يجب الوقوف عندها؟
تحتاج القراءة لمقاربة الأمور بواقعية. خلال تاريخها مثَّلت المؤسسة العسكرية حالة استثنائية كمؤسسة نظامية للدولة اللبنانية. استطاعت قيادة الجيش الإستمرار بين ألغام السياسة اللبنانية، وبين حسابات أهلها من النخبة الحاكمة التي لم تُقرر يومًا تحييد هذه المؤسسة عن صراعاتها الداخلية. شكَّلت مؤسسة الجيش بتنوعها وقوة انتمائها، محط أمال اللبنانيين الساعيين لإرساء مفوم الدولة على سلوك السلطة الحاكمة. بقيت العقلية الموروثة للسلطة والقائمة على الإستزلام، أقوى من قيم الدولة والتي تُعتبر مؤسسة الجيش الجهاز الرسمي اللبناني الوحيد الذي يُعبر عنها. يعرف اللبنانيون حجم التضحيات التي قدمها وما يزال يُقدِّمها أبناء مؤسسة الجيش، بين كافة الأجهزة الأمنية وعلى صعيد الوطن. هذه الوقائع القليلة، تشرح حجم إجحاف الدولة بحق المؤسسة العسكرية والعسكريين مع لحاظ أهمية دور هذه المؤسسة. كما تكفي هذه الوقائع، لتُعبِّر عن القصور الذي يتصف به أهل السلطة في فهم أولويات الدولة وأهمية هذه الاولويات بالنسبة للمواطن. بإختصار، تُمثل مؤسسة الجيش اللبناني نموذجًا وحيدًا للمؤسسة الحكومية الناجحة في لبنان. لذلك، يجب الوقوف مليًا عند سلوك الدولة تجاه هذه المؤسسة العريقة!
تتغاضى الدولة اللبنانية عن أهمية دعم الجيش وهو ما يُخالف توجهات الدول في تعزيز جيشها وعناصره. وهو ما يعني عملياً التغاضي عن التضحيات التي يقدّمها جنود الوطن خلال خدمتهم الفعلية، وجهل السلطة لطبيعة وظيفتهم الصعبة ودوام عملهم الطويل. اليوم، باتت حقوق العسكريين سببًا لإفلاس خزينة الدولة!
تَشتبه الدولة في خيارها تجاه المؤسسة الوحيدة التي تُعبر عن معنى مفهوم الدولة. تُخطئ الدولة بحق شهداء الجيش وجرحاه وعوائلهم الذين ضحوا ضمن مسيرة لن تتوقف بسبب إجحاف السلطة السياسية وستستمر دفاعًا عن لبنان وحمايةً للمواطن اللبناني. تتناسى الدولة حجم التهديدات التي يعتني الجيش بمواجهتها لا سيما الإرهاب والتي كان آخرها في نهر البارد ومعركة الجرود، وتستمر مواجهته للإرهاب عبر ملاحقته للشبكات الارهابية.
اليوم، يُظهر عقل الدولة وخطاب مسؤوليها مؤسسة الجيش بأنها مُقصرة! تُثير بعض الأوساط مسألة المعابر الحدودية والتي بغض النظر عن أهميتها، ينسى فقهاء هذه الدولة ما تحتاجه مسألة المعابر من عديد (1400 عنصر) في وقتٍ توقف التطويع منذ سنتين مع استمرار التسريح الروتيني. يتجاهل أهل السياسة استنزاف دور الجيش في معارك مكافحة الإرهاب والتي شكَّلت أولوية هذه المؤسسة خلال الفترة الماضية، وهو ما يعرف أهل السلطة أن عددًا من الأحداث حصلت نتيجة استهتار بعض المسؤولين بمصالح الوطن وتغطيتهم لبعض الإرهابيين ما أدى لمشاكل أمنية راح ضحيتها عدد من الجنود والضباط! ليست المشكلة في هذه المؤسسة ودورها بل المشكلة في تغييبها وصم الآذان أمام نصائحها ومحاولة عقابها على نهجها الذي يُعبر عن سيادة الدولة والقانون.
هو الجيش اللبناني الذي وخلال طول مسيرته مارس دورًاً مُشرفاً وحقق كثيرًا من الإنجازات. انجازتٌ بقيت بعيدة عن الإعلام فيما لم يُدخل الجيش نفسه يومًا في بازار السياسة الداخلية أو المزايدات وهو ما يُميِّز نهج هذه المؤسسة العسكرية. ولن تنجح محاولات بعض أهل السلطة في زج الجيش ضمن حساباتٍ داخلية لتسجيل نقاط على قيادته التي نجحت في حماية أبنائها وإبعاد الإجحاف عن عسكرييها عبر تحملها لكلفة الموازنة التقشفية.
ستبقى مؤسسة الجيش اللبناني مؤسسة لكل الوطن يفتخر بها لبنان وكل لبناني أينما كان وكيفما انتمى. وستبقى هذه المؤسسة بقيادتها وعسكرييها مثالًا للتضحية والوفاء. وتحية إجلالٍ لهذه القيادة، ولقواتها البحرية والجوية ولألويتها وأفواجها ووحداتها الخاصة والمتخصصة. تحية لمؤسسة لبنانية عريقة ترفَّعت دومًا عن سلوك أهل السلطة ونجحت في أن تعيش بين ألغام السياسة اللبنانية!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024