آراء وتحليلات
المبادرة التاريخية الكبرى للصين وتقويض الدور الأميركي
صوفيا ـ جورج حداد
بعد انهيار المنظومة السوفياتية وانتهاء حقبة الحرب الباردة السابقة بين القطبين الشرقي والغربي السابقين، اعلن جورج بوش الاب في مطالع تسعينات القرن الماضي عن قيام "النظام العالمي الجديد" بزعامة "القطب الاميركي الاوحد". ونظرا للوضع المميز للولايات المتحدة الاميركية بما تمتلكه من انتشار مئات القواعد العسكرية في كافة ارجاء العالم، وزعامتها لحلف الناتو، وامتلاكها اكبر "اقتصاد وطني" على النطاق الدولي، وباعتبار الدولار الاميركي بدون تغطية ذهبية هو العملة الدولية الرئيسية و"عملة الاحتياط" الرئيسية لجميع دول العالم بما فيها الدول المناوئة لاميركا، اعتقد الكثير من المحللين الجيوستراتيجيين ان العالم سيدخل في مرحلة من الاستقرار والانسجام الدوليين تؤسس لنشر الديمقراطية والنهوض الاقتصادي والازدهار لكافة دول العالم، وبما ينسجم مع المصالح القومية لاميركا ذاتها.
وكان الكثير من المحللين يعتقدون أن الولايات المتحدة الاميركية ستستخدم امكانياتها الكبرى ونفوذها لتطوير انظمة وتركيب واداء هيئة الامم المتحدة ومنظمة اليونسكو ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير، لما فيه مصلحة اميركا وجميع دول العالم، ولردم الهوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، والقضاء على الفقر ومكافحة الامراض والاوبئة، ووقف تخريب البيئة على الكوكب الارضي.
ولكن، وبالرغم من التباين بين مختلف الادارات الاميركية المتعاقبة منذ تسعينات القرن الماضي، فإنها جميعا عملت بعكس التوقعات التفاؤلية حيال الدور الدولي لاميركا. واذا اجرينا اي جردة حساب للمرحلة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الان، نجد ان فترة الآحادية القطبية لاميركا كانت اسوأ فترة تشهدها العلاقات الدولية. اذ عملت المؤسسات الاميركية على زعزعة الامن والاستقرار في شتى البلدان والاقاليم، وشنت الحروب الهجينة والمباشرة، واستخدمت الاسلحة الفتاكة التي قتلت الملايين، وتسببت بالمجاعات في الصومال وغيرها من الدول الافريقية المنهوبة والبائسة، وضربت عرض الحائط بالقوانين الدولية، وانسحبت من الاتفاقات الدولية لنزع الاسلحة وتخفيض التسلح، وانسحبت من الاتفاق النووي الدولي مع ايران، وشنت حرب العقوبات ضد روسيا وايران، والحرب التجارية ضد الصين، وفرضت الضرائب الجمركية والرسوم على البضائع المستوردة من الدول الصديقة لها بدون التشاور المسبق مع تلك البلدان كما تقتضي قوانين منظمة التجارة العالمية، وزعزعت العلاقات مع الدول الاوروبية الحليفة التقليدية لها، وتسببت بالازمة المالية ـ الاقتصادية في 2008 ـ 2009، التي لا تزال تنخر في اسس الاقتصاد الاوروبي والعالمي، وكان لها الدور الاكبر في تنظيم وتسليح وتمويل "الجيش التكفيري الارهابي الدولي" الذي هاجم سوريا وغيرها من الدول العربية والافريقية والذي يقف خلف الموجة الارهابية في العالم بأسره، ورفضت التقيد بالمحكمة الدولية لمحاكمة الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب، ورفضت التوقيع على الاتفاقية الدولية للحفاظ على البيئة، ووضعت العالم من جديد على حافة الحرب العالمية النووية، وغير ذلك من "التجاوزات والانتهاكات" التي تضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية وتقوض من الاساس "الشرعية الدولية" التي تدعي التمسك بها.
وفي هذا المناخ الدولي بالغ السوء، طرحت القيادة الصينية عام 2013 مشروعها العالمي الضخم والطموح المسمى "حزام واحد ـ طريق واحد". ويهدف هذا المشروع الى انشاء شبكة تجارية ـ اقتصادية ـ مالية عالمية، بما تقتضيه من انشاء خطوط مواصلات برية وبحرية وجوية، واتصالات الكترونية، ومناطق حرة، واسواق مفتوحة، وبورصات العملات الوطنية والسندات واسهم الشركات الوطنية في مختلف البلدان التي تنضم الى المشروع، بما يشبه شبكة الدورة الدموية في الجسم الانساني. وتنصب في هذه الشبكة السلع والخدمات المنتجة في جميع البلدان المنضمة الى المشروع، بأدنى الاسعار الممكنة وبدون ضرائب جمركية ورسوم لا تدخل في مفعول القيمة الانتاجية المضافة، كما يتم تسهيل انتقال الناس والافكار بدون حواجز غير الحواجز الامنية المشروعة. والهدف الاكبر لهذا المشروع هو النهوض بالاقتصاد العالمي بمجمله. وتضع الصين (ثاني اكبر اقتصاد عالمي) كل امكانياتها في خدمة هذا الهدف، وتضطلع بدور القلب في الشبكة العتيدة.
ويقول الخبراء ان من شأن هذا المشروع التأثير الايجابي على الاوضاع السياسية الدولية بمجلها، ودفع شتى الدول لحل الخلافات فيما بينها بالطرق السلمية والمفاوضات وعقد الاتفاقات الثنائية والاقليمية والدولية.
وقد اكدت روسيا، بلسان رئيسها فلاديمير بوتين، دعمها الكامل للمبادرة الصينية البناءة. واعلنت انها ستعمل على تشكيل محور دولي ثلاثي يتألف من (روسيا ـ الصين والهند) كي يضطلع بدور الركن الاساسي في تحقيق هذه المبادرة الصينية الكبرى. ولكنه طبعا يوجد الكثير من المشككين والطاعنين في المبادرة الصينية.
اما الادارة الاميركية فإنها لم تتخذ موقفًا علنيًا رسميًا مؤيدًا او معارضًا للمبادرة. الا انها تعمل واقعيًا لعرقلتها وافشالها. وفي هذا السياق فهي "تشجع" تايوان على اعلان الانفصال والاستقلال الرسمي عن الصين مما يعتبر تحديًا كبيرًا للصين قد يدفعها الى الاشتباك الحربي مع تايوان لاعادة ضمها الى الصين بالقوة. وهذا ما يعطي اميركا الحجة للتدخل العسكري ضد الصين واستنزافها في حرب طويلة على طريقة الحرب الكورية في مطلع الخمسيات من القرن الماضي، او توجيه ضربة نووية لها. ولكن اميركا تخشى اذا تدخلت هي الى جانب تايوان أن تتدخل روسيا الى جانب الصين، وهناك الطامة الكبرى لاميركا. وبالرغم من هذه المحاذير فقد تم مؤخرًا انجاز صفقة بقيمة 2،2 مليار دولار تقوم اميركا بموجبها بتزويد تايوان بالاسلحة ولا سيما الصاروخية. مما اعتبرته الصين استفزازًا كبيرًا لها.
واعلنت عن فرض عقوبات اقتصادية شديدة ضد الشركات الاميركية التي تتولى تزويد تايوان بالاسلحة. ولكن، كما يقول الخبراء، فإن شركات الاسلحة الاميركية المعنية ليس لها نشاط على الاراضي الصينية، ولكنها ـ اي تلك الشركات ـ تدخل في كونسرسيومات (اتحادات كبرى) مع شركات اميركية اخرى تعمل على الاراضي الصينية. وستطال العقوبات الشركات الاخيرة مما يلحق اضرارًا بالغة بالفوائد والأرباح والموارد لهذه الشركات.
ولكن بالرغم من جميع العراقيل فإن الصين، بالتعاون الوثيق مع روسيا، تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق مشروعها الكبير "حزام واحد ـ طريق واحد" الذي سيقلب العلاقات الدولية رأسا على عقب وسيكون من نتائجه اضعاف وتقويض الدور الراهن لاميركا: تجاريًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
12/11/2024
حسابات حقول العدوان وبيادر الميدان
11/11/2024