آراء وتحليلات
ترامب والنقلة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة
إيهاب شوقي
قد تظهر سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بصورة عشوائية وتفتقد الجانب الاستراتيجي، بينما يصعب تصور حكم قوة ما زالت عظمى بهذا النمط العشوائي، ويبدو أن هناك فقط نقلة استراتيجية امريكية، ربما بدأت مع اوباما ويكملها ترامب، رغم التناقض الصارخ الظاهري بين الرجلين!
كانت نقلة الحرب على الارهاب، نقلة استراتيجية أمريكية، وتشكل خروجاً عن استراتيجية الحرب الباردة التي كانت باختصار تقود لمواجهة الاتحاد السوفياتي في المجالات العسكرية والتقنية والدعائية، بينما كانت استراتيجية الحرب على الارهاب تقود لهيمنة مطلقة على المفاصل الاستراتيجية العالمية الرئيسية، وكذلك احتلال مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي المنحل وقطع الطريق على تشكل قوى منافسة للاحتفاظ بعالم أحادي القطب.
وترصد التقارير أن الولايات المتحدة اعتبرت مناطق جغرافية بعينها جبهات لما سمي بالحرب على الإرهاب، ومن ذكر هذه المناطق يمكن أن تفتضح النيات الأمريكية، وهذه المناطق كانت:
- جنوب آسيا وبالتحديد أفغانستان وباكستان.
- الشرق الأوسط وبالتحديد العراق والسعودية اليمن.
- جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وبالتحديد الشيشان وجورجيا وأوزبكستان.
- جنوب شرق آسيا وبالتحديد الفلبين وتايلند وإندونيسيا.
- أفريقيا وبالتحديد جيبوتي وإثيوبيا وإريتريا وكينيا والصومال والسودان وجمهورية تنزانيا المتحدة.
وبتأمل هذه المناطق نرى أنها تحقق الأهداف الاستراتيجية التالية:
1/ اما تتبع المحيط الحيوي لروسيا المؤهلة لاستعادة القطب السوفياتي، والصين الصاعدة بقوة الصاروخ والتي بتحالفها مع الروس تشكل قطبا مقابلا لامريكا.
2/ كذلك بتأمل الجبهات نرى انها تمسك بمفاصل المعابر الاستراتيجية في باب المندب حيث طرق التجارة العالمية الاهم.
3/ اماكن الطاقة الرئيسية.
4/ قوس الأزمات الذي تعتبر السيطرة عليه وفقا للعقل الاستراتيجي الأمريكي سيطرة على اوراسيا وهي مفتاح الهيمنة العالمية.
بعد تولي اوباما وبعد سلسلة من المقاومة للاستراتيجية الأمريكية وتعثرها على الأرض، قلص أوباما هذه الاستراتيجية وقصرها على محاربة تنظيمات بعينها، وقطع الطريق على اصطدام واستنزاف القوات العسكرية الأمريكية على الأرض، واستعاض عن ذلك بحروب الوكالة وبذريعة نشر الديمقراطيات لخلق نخب تابعة.
واستعاد أوباما، الذي يمكن ان نعتبره مرحلة انتقالية بين استراتيجيتين، بعض آليات الحرب الباردة بترويج النموذج الأمريكي في مقابل قوى مبهمة تمثل الاستبداد والتخلف، وعمل على دعم قوى تصور أنها تمتلك شعبيات في بلادها، لمواجهة النزعات المعادية لامريكا والتي تولدت من جرائمها في موجة الحرب على الارهاب.
أما ترامب فقد كان صريحاً، وكانت استراتيجيته المعلنة هي العودة للجذور وأمريكا أولا، وهو ما يعني عدم المجازفة تحت أي بند، واتباع أقصى درجات الميكافيللية السياسية واستعادة استراتيجية الحرب الباردة، بعد يقين بأن روسيا استعادت قوة تقترب من قوة الاتحاد السوفياتي، وبعد غزو الصين التجاري للداخل الأمريكي نفسه، وبعد نمو المقاومة ووصولها لمعادلات ردع تقطع الطريق على الهيمنة تحت أي مسمى وذريعة.
ومن هنا يمكن تفهم تحركات ترامب وتفسيرها، فهو في اطار حربه الباردة، يرى أن أمريكا تعيش على اطلال التفوق العسكري والتكنولوجي وأن الوضع الراهن ليس في مصلحتها، والمراقب لمشروعات أمريكا العسكرية الجديدة، يلمح نهجاً للتصعيد لا الانكفاء ويلمح طموحاً لاعادة هذا التفوق، وكذلك يحترم حدود القوة لمنافسيه من دون الدخول في معارك استنزاف خاسرة، مع العمل من بعيد على اشاعة الفوضى وتخريب هذه الحدود من دون اصطدام مباشر، وذلك عبر سياسات العقوبات والحصار وسياسات حافة الهاوية.
الفارق بين اوباما وترامب تكتيكي، بينما الاستراتيجية متقاربة وتكاد تكون واحدة، والمتابع للملف السوري يلحظ تشابهات كبيرة، ومصدر التشابه هنا ليس حزبيا ولا شخصيا ولا فكريا، فالهوة بينهما بعيدة، وانما وضع جيواستراتيجي دولي يفرض هذه الاستراتيجية على أمريكا بعيداً عن الصور الظاهرة للتناطح والتخبط والحمق والعشوائية.
أهداف أمريكا التي لا تتخلي عنها هي:
أولا: حماية العدو الاسرائيلي، وهو ما يفسر على سبيل المثال، ما قاله مصدر مطلع إن الجيش الأمريكي يعتزم إقامة قاعدة عسكرية جديدة في محافظة أربيل في كردستان العراق، وهو ما يؤكد أنها لن تتخلى عن قطع التواصل السوري ـ العراقي لخطورته على العدو الاسرائيلي.
ثانيا: زعزعة المحيط الروسي وخلق بؤر للفوضى في أوروبا لقطع التواصل الأوروبي ـ الروسي لخطورته على مكانة امريكا في القارة وبالتالي في اوراسيا، وهو ما يفسر كمثل، دعمها لتأسيس جيش كوسوفو على عكس رغبة الناتو.
ثالثاً: التفوق النوعي وهو ما يفسر نفوذ شركات مثل لوكهيد مارتن وبوينج على البيت الابيض، والذي يرغب في تعيين وزير حرب جديد وهو باتريك شاناهان القائم الحالي باعمال وزارة الحرب، من هذه المؤسسات، حيث كان مسؤولا تنفيذيا في بوينج، وهيمنة هذه الشركات على ترامب، هي حديث المحللين الامريكيين.
ان النظر لسياسات امريكا عبر الظاهر هو خلل تحليلي يقود الى أخطاء في إعداد استراتيجيات مضادة، بينما محاولة تأمل ما وراء السطور وجوهر السياسات يقود بكل يقين الى الحيطة والاعداد السليم لمواجهة تبعات النقلات الاستراتيجية، وقد يرحل ترامب بعد انجاز مهمته المربكة التي تشبه قنابل الدخان التي تطلق أثناء الانسحاب والتوجه لجبهات أخرى.
كل ما علينا هو مواجهة الفوضى المتوقعة بالاقليم عبر استراتيجيات تناسب الأوضاع المترتبة على دمار الاستراتيجية السابقة وأطلالها وفلولها.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024