آراء وتحليلات
تركيا في مواجهة التحولات الداخلية المصيرية
سركيس أبوزيد
أخطأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عندما ضغط باتجاه إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول التي جرت في نھاية آذار الماضي وخسر فيھا مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم لمصلحة مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو بفارق ضئيل. أردوعان لم يتقبل الخسارة في اسطنبول، وھو الذي أعلن أن "من يفز باسطنبول يفز بتركيا"، لذلك قرر إعادة الانتخابات، وهو بالتأكيد أخطأ في تقدير الأمور لأنه وضع نفسه في زاوية صعبة قد تهدد مصيره السياسي مستقبلاً.
فالانتخابات المعادة قد حصلت، وخرج منھا أكرم إمام أوغلو بانتصار واضح وبفارق كبير تعدى الـ 700 ألف صوت، وھذا الفوز يكتسب أھمية قصوى لسببين على الأقل:
1ـ ما تمثله اسطنبول من مركز ثقل ورمزية. فھي معقل حزب العدالة والتنمية، والمدينة التي قاتل فيھا أردوغان حتى النفس الأخير، ويميّزھا ليس فقط ثقلھا السياسي، وإنما خصوصا ثقلھا الاقتصادي والتجاري وحجم ميزانيتھا ورؤوس الأموال التي تعيش فيھا. يُضاف الى ذلك أن لإسطنبول قيمة رمزية كبيرة، فھي تعد أكبر المدن في تركيا، وإحدى أكبر المدن في العالم من حيث عدد السكان، وعُرفت تاريخيا بأسماء بيزنطة والقسطنطينية والآستانة، وكانت عاصمة لعدد من الدول والإمبراطوريات عبر تاريخھا الطويل، بحكم موقعھا الجغرافي المركزي المميّز.
2ـ ما شكلته معركة إسطنبول من ضربة سياسية موجعة لأردوغان، الى حد أنھا أعلنت بداية العد العكسي للحقبة الأردوغانية، وفي المقابل، تعلن عن ولادة نجم سياسي جديد سيكون المنافس الجديد لأردوغان في المستقبل وھو أكرم إمام أوغلو.
لذلك يُولي أردوغان أھمية خاصة لإسطنبول لأنھا "المدينة المعقل" التي شھدت لمعان نجمه في بداية مشواره السياسي، ومن رئاسة بلديتھا تدرّج صعودا الى رئاسة الحكومة ورئاسة الجمھورية. والآن تفلت إسطنبول من يده وتشھد ولادة إمام أوغلو من الوجوه الجديدة الصاعدة، والذي ينتمي الى جيل الشباب نسبيا، بعكس قيادة حزب الشعب الجمھوري الذي ينتمي إليه ويتزعمه كمال كليتشدار أوغلو البالغ من العمر 71 سنة.
إمام أوغلو يتحدر من أسرة محافظة متدينة لھا تاريخ طويل في العمل السياسي، فوالده حسن إمام أوغلو ھو مؤسس فرع حزب "الوطن الأم"، الذي تزعمه رئيس وزراء تركيا الراحل تورغوت أوزال، وھو لم ينخرط في العمل السياسي حتى عام 2008 عندما انضم إلى حزب الشعب الجمھوري. بعدھا بعام فقط، أي عام 2009، انتزع رئاسة بلدية حي بيليكدوزو في الشطر الأوروبي من إسطنبول من حزب العدالة والتنمية.
وبعكس خطاب أردوغان، الحماسي والصدامي، اتسم خطاب إمام أوغلو بالھدوء والمنطقية والود، حيث نجح في اجتذاب تأييد الأكراد أيضاً، وركّز على احتياجات الناس والأزمة الاقتصادية الخانقة ، مُبرزا عجز الحكومة عن التوصل إلى حلول لھا.
فقد أعلنت مؤخراً الحكومة التركية عن حزمة إصلاحات ھيكلية جديدة أطلقتها في أيلول الفائت، حسب وزير الخزانة والمالية التركي، الذي تعھد قبل الانتخابات المحلية التي شھدتھا تركيا في 31 آذار الماضي، بأن تدخل البلاد فترة إصلاحات اقتصادية بعد الانتخابات، واعدا بأن تعود أسواق الأسھم والسندات إلى طبيعتھا أيضاً.
لكن المعطيات أظهرت أن تركيا تعاني أزمة حادة منذ آب الفائت، من مظاھرھا:
ـ انكماش الاقتصاد الذي سجل نسبة 4% في العام الفائت ودخل مرحلة الركود للمرة الأولى منذ 10 سنوات.
ـ تدني سعر الليرة التركية الى مستوى قياسي غير مسبوق وسط تذبذب في وفرة النقد الأجنبي في الأسواق الرسمية.
ـ استمرار معدل التضخم في اتجاه الصعود.
ـ تسجيل البطالة أعلى مستوياتھا في 10 أعوام، مسجلة 14.7% خلال يناير بزيادة نسبتھا 3.9% على أساس سنوي.
ـ تراجع مؤشر البورصة بسبب أزمة الليرة وضعف الثقة بالاقتصاد، واستمرار تدخلات الرئيس التركي في السياسات الاقتصادية والنقدية في البلاد، الأمر الذي أعاق الطلب المحلي وفرض ضغوطا على الشركات التركية المثقلة بديون متراكمة بلغت حوالي 315 مليار دولار.
هذا الأمر انعكس سلباً على المستثمرين الأجانب الذين أداروا ظھورھم لتركيا بشكل متزايد، فأحجموا عن ضخ الأموال في القطاع العقاري التركي، ما أدى إلى دفع الأسعار الى التراجع بشكل حاد، كما أن الكثير من المشاريع العقارية داخل تركيا توقفت نتيجة الكساد الذي عانى منه الاقتصاد التركي.
وفي ھذا المجال، يكشف مستثمرون عن بواعث قلق من قبل المستثمرين السعوديين والخليجيين في الوقت الحالي، نظرا الى الأحداث السياسية المتسارعة داخليا وخارجيا. وكان الاستثمار السعودي والخليجي في تركيا بشكل عام بلغ ذروته بين عامي 2015 و 2016، حيث برز المستثمرون السعوديون كأكبر نسبة مستثمرين من دول الخليج العربي في تركيا، وثاني أكبر مستثمر أجنبي بعد العراق، بينما الكويت نافست روسيا على المرتبة الثالثة، وقطر في السابعة، والبحرين في العاشرة، ليحصد المستثمرون العرب عموماً مراتب متقدمة في صدارة أكثر 10 دول أجنبية تستثمر في عقارات تركيا، حيث كان سعر الدولار يساوي 3 ليرات تركية في آب 2015. ھذه الأزمة التي تشھدھا السوق العقارية، دفعت الحكومة التركية الى إعطاء المزيد من التسھيلات أمام الأجانب حيث عملت على تخفيض القيمة المادية المطلوبة للحصول على الجنسية مقابل شراء عقار، في محاولة منھا لدعم القطاع ومنعه من الدخول في مرحلة الركود.
في النهاية نجد أن تركيا دخلت في أتون مظلم وكثرت التكهنات حول المصير، حيث كان أبرزها خسارة أردوغان أسطنبول معقله الأقوى على مستوى البلاد.
من الواضح أن تركيا تشهد تحولات داخلية مهمة، وهي أمام اختبار صعب عندما يحين موعد الاستحقاق الرئاسي، فعلى الرغم من أن إمام أوغلو لم يكن ينافس في انتخابات برلمانية أو رئاسية، فإنه قدم نفسه على الساحة كمنافس مستقبلي للرئيس أردوغان، ما دفع كثيرين من السياسيين والمراقبين إلى النظر إليه كمنافس محتمل يصلح لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة في 2023.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024