آراء وتحليلات
"ترامب" بين التهديد بالحرب والإملاء المهين؟
يشكّل الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" أنموذجًا لهشاشة التجربة الغربيّة في إنتاج قياداتها، واستعادة للصورة الهزليّة التي تليق بالولايات المتحدة الأميركيّة العائمة على نظريات الاضطهاد منذ النِشأة والقضاء على الهنود الحمر وعلى امتداد سيرورتها في سلسلة الحروب التي خاضتها والقواعد الأميركيّة التي نشرتها في العالم. إذ إنّ "ترامب" العائد، بعد فوضاه في جائحة كورونا وتهديده الداخل الأميركي بالفتنة والحرب الداخلية إثر خسارته الانتخابات الرئاسيّة في الدورة السابقة وإطلاقه العنان لهمجيّة أنصاره في اقتحام الكونغرس، وإن اختلف عن أسلافه في بعض المواصفات والسياسات؛ فهو لا يعبّر عن استثناء في الإدارة الأميركيّة أو عن حالٍ شخصيّة بحتة، إنما يُعدّ تجليًا لديناميّات الدولة العميقة وموازين قواها وإفرازاتها الواقعيّة التي تشترك بين "الجمهوريّين" و"الديموقراطيّين" في أهم الأهداف، وتتناوب على السبل المؤديّة إليها، ولا سيّما في ما يتّصل بمنطقة غرب آسيا أو ما يعرف بمنطقة الشرق الأوسط.
"أميركا أوّلًا" توسّع لا انكفاء
يُشهر "ترامب" أجندته القديمة- الجديدة في استئنافه لمساره السابق، يتمحور في "أميركًا أولًا". وهو إذ ينتهج استراتيجيّة مكافحة الهجرة ورفع الضرائب، فإنّ مشروعه ليس بالمعنى الانكفائيّ الذي روّج له بعض الواهمين؛ بل يصب ضمن مساعي الهيمنة والتوسّع، تترجمه أشكال عدّة من الاستكبار والطغيان والممارسات العدوانيّة في النهب والاغتيال والإملاء المهين على الدول والشعوب، وإن دارت مدار السطوة الأميركيّة.
إذ حينما يطرح "ترامب" هذا المسعى التوسّعي لـ"أميركا أوّلًا" متحفزًّا إلى ضمّ غرينلاند وكندا وقناة بنما والمكسيك، يلاقيه بعقيدته الجازمة بأنّ "إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها" بهدف ولادة "شرق أوسط جديد" الذي يرتكز على فرض "صفقة القرن" وترتيبات "الاتفاقات الإبراهيميّة" المزعومة. وكان من مقدّمات ذلك الاعتراف الأميركيّ بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل" وسحبها من أي مفاوضات، وما يستدعيه من إيجاد دولة خالصة لليهود في فلسطين المحتلة، فإنّ الأجندة الأميركية-"الإسرائيليّة" تفضي إلى ثلاث عمليّات موازية من خلال إقامة مستعمرات جديدة لاستيعاب مليون ونصف يهوديّ، وتهجير ثم توطين ثلاثة ملايين فلسطينيّ في الأردن ومصر ولبنان، والسيطرة على مساحات جديدة كما حصل في سورية.
في هذا الإطار يصرّح ترامب بكلّ صلف وعنجهيّة: "ربما أعطي أجزاءً من غزّة لدول أخرى في الشرق الأوسط، وهناك دول في الشرق الأوسط ستستقبل الفلسطينيّين بعد أن تتحدث معي".
في سبيل ذلك؛ يوفّر "ترامب" سيناريوهاته الماليّة لمصلحة مآربه الاقتصاديّة، فيتخذ خطواته المتّسقة من قطع التمويل عن منظّمة الأونروا الخاصة باللّاجئين الفلسطينيّين وبعض المنظّمات الدوليّة الأخرى التي تقدّم الخدمات، ومحفّزًا أو ممليًا على دول وجمعيات أخرى المضي وفقًا لبرنامجه هذا بوقف الدعم. ومن جانب آخر يعمد إلى توفير شبكة التمويل الدوليّة لمخطّطاته، بابتزاز كلّ من اليابان والسعوديّة وكوريا الجنوبية وكندا والاتحاد الأوروبيّ، وبشكل رئيس ألمانيا، بدواعي الحماية والتعاون. هذا إضافة إلى الأعمال العسكريّة والأمنيّة والسياسيّة المتضافرة للاستيلاء على آبار الغاز والنفط في المتوسّط، وتعزيز النهب لثروات جنوب إفريقيا من مدخلية الاتهام بانتهاكها الجسيم لحقوق الإنسان.
في هذا السياق؛ يأتي خطابه في فرض "السلام" من خلال "القوّة" استمدادًا من الاستراتيجيّات المتقدّم ذكرها، واستنادًا إلى إغراق الساحة والرأي العام بالترويج للانتصار "الإسرائيلي" في غزّة ولبنان ولهزيمة حركة المقاومة الإسلاميّة حماس وحزب الله، مع تلويح؛ بل تصريح بالعدوان على الجمهورية الإسلامية في جزء من مشروع القضاء على المقاومة أو إخضاعها وإضعافها إلى القدر الذي لا تعيق معه ما هو مرسوم في العقل الأميركيّ.
تمهيدات جيوسياسيّة وتغييرات ديموغرافيّة
تبدو المساعي الأميركيّة- "الإسرائيليّة" التوسّعيّة الخطيرة جدّيّة، وقد سبقت شروع "ترامب" بممارسة صلاحياته تمهيدات "جيوسياسيّة" وتغييرات ديموغرافيّة، فرست على جملة من الوقائع، أبرزها:
1. إيقاف مؤقّت للحرب والإبادة العدوانيّة بيد "إسرائيليّة" على غزّة ولبنان من دون توقّف الاعتداءات على لبنان وفلسطين وسورية.
2. إحداث الانقلاب المدبّر في سورية على هويّتها وموقعها ودورها مع لوازم ذلك وتفاعلاته وتداعياته الاستراتيجيّة داخلها، وعلى دول الجوار والمسرح الإقليميّ والدوليّ الأوسع.
3. ضرب القدرات العسكريّة السوريّة والتوسّع برًّا داخلها واحتلال قمم استراتيجيّة جديدة فيها، وضرب خطوط الإمداد والأنفاق والمنشآت المرتبطة بالمقاومة اللبنانيّة داخلها.
4. إعادة إنتاج السلطة في لبنان على الهوى الأميركيّ بالمقدار المتاح، وبما يكفل آليات ضبط الحدود وبسط السلطة الأميركيّة عليها.
العين على إيران والسبيل هو المقاومة
يبني "ترامب" طموحاته على تلك الوقائع من منظاره، فهو يستأنفها بإبداء إعجابه برئيس وزراء العدو "الإسرائيليّ" بتذكار "البيجر الذهبي" واصفًا تلك العملية الإجراميّة بأنها "عملية عظيمة"، في دلالة على النهج المزمع في استئناف الأعمال العداونيّة لخدمة الهيمنة الأميركيّة. وهو يعمد إلى تكريس تلك الوقائع وفقًا للمخيّلة الأميركيّة -"الإسرائيليّة" وتوظيفها، من خلال التصريحات الممارسات الاستفزازيّة، كما حصل مع نائب المبعوث الأميركي للشرق الأوسط "مورغان أورتاغوس" التي انتهكت السيادة والشرف اللبنانيّين عبر تدخّلها السافر وتظهيرها أن الأمر يعود إلى إدارتها في نزع السلاح وإعادة إنتاج القرارات في السلطة اللبنانيّة.
في سياق متصل، يدّعي "ترامب" أنه مستعد لإجراء محادثات مع الرئيس الإيراني ملفتًا إلى عدد كبير من الدول التي ترغب بالسلام في "الشرق الأوسط" غامزًا من قناة إيران، بحسب زعمه ومسعاه إلى بلوغ مقصده.. لكنها دعوى فارغة إلا من الإملاء المهين، فما يلبث إلّا أن يلقي اتهاماته بأن إيران قريبة جدًّا من امتلاك سلاح نوويّ حتى يسارع إلى توقيع مذكرة تمنعها من ذلك، ويكمل هزليته بادعاء الحق في منع بيع النفط الإيراني إلى دول أخرى، ثم يشرع بتهديداته النرجسيّة بقوله: "إذا ردّت إيران وحاولت قتلي فسنقضي عليها"، ويبادر إلى الكشف عن نيّته باتخاذ أمر تنفيذيّ بفرض ضغوط قصوى على إيران، عساه يتعايش معها.
إزاء ذلك؛ وأمام هذا الشره الأميركي للدماء أو العقاب المهين، لا يسع قوى المقاومة إلّا التوجّه إلى صيانة الأمن القومي المقاوم لجبهة المقاومة وإعلائه على كل المعايير الأخرى، وجعله مفتاح حماية المصالح الوطنيّة المحليّة، لا الخضوع إلى إكراهات الوقائع المحليّة والانكفاء إلى الخصوصيات والتمايزات والانشغال بتبعات جولات القتال السابقة فحسب.
إذ بعد الملاحم البطوليّة المظفّرة والصبر الهائل لأبناء غزّة، وبعد معركة "أولي البأس" التي كشفت عن صمود إعجازيّ كبير للمقاومين في لبنان وعن تقدّم في يقظة وشجاعة المجتمع اللبنانيّ المقاوم، وبعد عمليات الإسناد المؤثّرة للعراق ولبنان وإيران، وبعض التضحيات الهائلة، فإن العدوان كلّما ازداد فتح الأفق لعصر المقاومة من جديد بولادة أشد تصميمًا وضراوة، ولا يمكن إغفال أن حماقة الأعداء سترتد عليهم مزيدًا من التمزّق في تجمّعاتهم التي سيطروا عليها باضطهاد السكان الأصليّين في أميركا وكيان العدو المؤقّت، فلا سبيل إلا بالمقاومة والمقاومة فقط.
الولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامب
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
13/02/2025
"ترامب" بين التهديد بالحرب والإملاء المهين؟
12/02/2025
أين وصل الصراع بين ترامب والدولة العميقة؟
التغطية الإخبارية
فلسطين المحتلة| غارة جوية صهيونية تستهدف أرضًا شرقي مخيم البريج وسط قطاع غزّة
فلسطين المحتلة| قوات الاحتلال تقتحم قرية بورين جنوب نابلس
فلسطين المحتلة| استشهاد طفل برصاص الاحتلال شمال مخيم البريج وسط قطاع غزة
فلسطين المحتلة| قوات الاحتلال تقتحم قاعةً تؤوي نازحين في بلدة كفر اللبد شرق طولكرم
جيش العدوّ: رصد إطلاق صاروخ من قطاع غزّة حيث سقط عند حدود القطاع
مقالات مرتبطة
![كاتب صهيوني: ترامب ونتنياهو يفكران خارج الصندوق لكنها أفكارٌ سيئة‎](uploaded/essaysimages/small/lvl220250213025237429.jpg)
كاتب صهيوني: ترامب ونتنياهو يفكران خارج الصندوق لكنها أفكارٌ سيئة
![ترامب يخاطر بتحالفات أميركا العربية](uploaded/essaysimages/small/lvl220250212062315360.jpg)
ترامب يخاطر بتحالفات أميركا العربية
![أين وصل الصراع بين ترامب والدولة العميقة؟](uploaded/essaysimages/small/lvl220250212010827183.jpg)
أين وصل الصراع بين ترامب والدولة العميقة؟
!["هآرتس" عن صفقة الأسرى: مصلحة ترامب قد تتفوّق على نتنياهو](uploaded/essaysimages/small/lvl22025021211503827.jpg)
"هآرتس" عن صفقة الأسرى: مصلحة ترامب قد تتفوّق على نتنياهو
![أورتاغوس عائدة لضمان بقاء الاحتلال](uploaded/essaysimages/small/lvl220250212081744898.jpg)
أورتاغوس عائدة لضمان بقاء الاحتلال
!["لا للتطهير العرقي".. أكثر من 350 حاخامًا يُدينون خطّة ترامب بشأن غزّة](uploaded/essaysimages/small/lvl220250213062157600.jpg)
"لا للتطهير العرقي".. أكثر من 350 حاخامًا يُدينون خطّة ترامب بشأن غزّة
!["هآرتس": صندوق القمامة هو المكان المناسب لخطة ترامب بشأن غزة ](uploaded/essaysimages/small/lvl220250213013243861.jpg)
"هآرتس": صندوق القمامة هو المكان المناسب لخطة ترامب بشأن غزة
![مسؤول سابق في "الموساد": خطة ترامب بشأن غزة زلّة لسان من تاجر عقارات فاشل](uploaded/essaysimages/small/lvl220250213103102248.jpg)
مسؤول سابق في "الموساد": خطة ترامب بشأن غزة زلّة لسان من تاجر عقارات فاشل
![العدو يدرس خياراته: استئناف الحرب ليس محتوماً](uploaded/essaysimages/small/lvl220250213073916888.jpg)