آراء وتحليلات
سورية بعد الأسد تواجه فوضى الهوية وخطر التقسيم.. حذارِ الأخطبوط "الإسرائيلي"
تكثر التحليلات والسيناريوهات حول مستقبل سورية بعد الانهيار السريع للنظام السابق وبسط الفصائل المسلّحة بزعامة أبي محمد الجولاني (أحمد الشرع) سيطرتها على معظم المحافظات السورية الرئيسية؛ وأفضلها أن هذا البلد، بما يمثّل من موقع جيوسياسي محوري في ما يسمّى منطقة الشرق الأوسط وما امتاز به من ثبات في شكل النظام دام لأكثر من خمسين عاماً تحت حكم آل الأسد، آيل إلى التقسيم الحتمي وتنازع السيطرة فيه بين مجموعة من القوى القاهرة التي تفرض وجودها العسكري والسياسي، ويساعدها في ذلك غياب أي سلطة مركزية مستقرة وضبابية الرؤى المتعدّدة حول شكل النظام الجديد الحاكم.
ولعلّ ما جرى خلال أحد عشر يوماً فقط من التطوّرات المتدحرجة دفع المراقبين للقول، إنه واحد من أسرع الأنظمة تغيّراً عبر التاريخ، سواء جاء هذا التغيير تحت مسمّى زلزال أو انقلاب أو استسلام أو تسليم لمقادير السلطة في البلاد، فلم يشهد اجتياح الفصائل المسلّحة للمحافظات السورية وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني أي تصدّ معتدّ به وصولاً إلى العاصمة دمشق، حتى بدأت تتكشّف تفاصيل المسألة ميدانياً من خلال الاجتياح السريع الذي نفّذه الاحتلال الصهيوني لمحافظات جنوب سورية وتوغّل قواته إلى الجبال والمرتفعات المطلّة على العاصمة السورية وعلى بعد كيلومترات قليلة من طريق دمشق – بيروت الدولية.
وتأسيساً على المستجدّ الإسرائيلي يرسم المراقبون آفاقاً قاتمة للمرحلة المقبلة ارتباطاً بأجندة الأهداف التي تعلنها القوى المتصارعة على الأرض السورية، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستثمر دعمه للفصائل المسلّحة لتحقيق طموحه المعلن في بسط نفوذه المباشر على كامل سورية باعتبارها أرضاً تركية باستثناء الجنوب، ويضمن بذلك التخلّص من العبء الذي يشكّله اللاجئون السوريون لديه بإعادتهم إلى بلادهم، وكذلك طرد الأكراد إلى أبعد مسافة ممكنة من الحدود التركية، ونقل الأزمة إلى دول الجوار.
وتتقاطع دولة قطر مع تركيا وتدعمها في هذا المسعى سياسياً ومالياً، سعياً لإنفاذ دور سياسي فاعل لها تزاحم به فعالية الدور السعودي أولاً، وثانياً لمدّ خط أنابيب النفط والغاز عبر سورية إلى أوروبا، ولئن كانت الدوحة تحرص على عدم إبراز دورها في الساحة السورية من خلال إطلاق المواقف المعتدلة، إلا أنها في الواقع تدفع الأمور باتجاه إرساء نظام سوري حليف لها من خلال تبنّي الدعم الكامل للفصائل المسلّحة التي تعتنق فكر الإخوان المسلمين، وتشترك بذلك الاتجاه مع تركيا خصوصاً أن أردوغان بات يعدّ نفسه الزعيم المطلق لهذا التيار، وبذلك تفتح الفرضيات احتمالات إضافية تتّصل بهوية النظام الجديد في سورية، فهل سيكون نظاماً يتّبع نظرية الخلافة أو السلطنة، أم إسلامياً متشدّداً أم إسلامياً معتدلاً أم نظاماً مدنياً؟!
في المقابل يتموضع الأكراد في شمال شرق سورية تحت مظلة قوات سورية الديمقراطية (قسد) بدعم أمريكي – سعودي مباشر، وهم كانوا قد أعلنوا مسبقاً عن الكانتون المستقل الذي يسيطرون عليه في مناطق شرق الفرات، ولا يبدي هؤلاء استعداداً للقبول بالانضواء تحت الحكم الجديد والانصياع لسلطة الجولاني – التركي، ولئن نجح القرار الأمريكي مؤقتاً في فرض نوع من الهدنة العسكرية بين الفريقين بعد المعارك التي اندلعت في دير الزور، إلا أن المرجّح تدحرج الأمور باتجاه صدام حتمي تفرضه طبيعة الإجراءات التي سيتّخذها النظام السوري الجديد الساعي إلى بسط هيمنته على كامل الأرض السورية، وفي أحسن الأحوال قد يفضي هذا الصدام إلى الإقرار بهذا الوجود الكردي، والذي يحظى بامتدادات له في باقي المحافظات السورية، بما يعني تكريساً للتقسيم. ولا بد من الالتفات هنا إلى مخاطر أخرى تهدّد بنشوب حروب داخلية مردّها إلى أن الجولاني لا يمتاز بالوصاية على كامل الفصائل التي شاركت في "تحرير سورية"، حيث إن هناك العديد من "الحركات" و"الجبهات" التي تقاطعت مع "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة) في العداء للنظام السوري، ولكنها لا تسير بالضرورة في السياقات التي يرسمها المخطّط الأمريكي لمستقبل سورية، وما تزال على توجهاتها التي تنسجم بشكل وبآخر مع تنظيم "داعش" المتمركز حالياً في البادية السورية.
ويبقى الخطر الأكبر الذي يتهدّد الكيان السوري في وجود الاحتلال الذي بادر إلى تدمير القدرات العسكرية بشكل شبه شامل بذريعة عدم السماح لأي نظام مجاور بامتلاك المقوّمات التي قد تشكّل خطراً على الأمن الإسرائيلي، وقد مهّد لذلك بضمّ هضبة الجولان واجتياح المحافظات الجنوبية ذات الغالبية الدرزية بما يؤشر إلى مخطّط خبيث يهدف إلى اقتطاع هذه المناطق وإعلانها كانتوناً طائفياً بحماية ورعاية إسرائيلية، وهو بذلك يمعن في تفتيت الأرض السورية وتحويلها إلى كيان هشّ غير قادر على حماية حدوده أو امتلاك قراره السيادي والحرّ وفق ما دأبت قوى المعارضة السورية على ترداده مراراً وتكراراً.
ولا يمكن إغفال الخطر المباشر الذي يمثّله تمدّد الاحتلال في سورية على لبنان، نظراً للارتباط العضوي للأمن بين البلدين فضلاً عن عوامل الشراكة في التاريخ والجغرافيا والانصهار الديمغرافي وما يمثّله البلدان من شريان اقتصادي متبادل لا يمكن الاستغناء عنه في أي حال من الأحوال، مع الأخذ بالحسبان ما لدى العدو من أهداف توسعية وأطماع اقتصادية يسعى تاريخياً لتحقيقها تحت مسمّى "إسرائيل الكبرى"، وهو المشروع الذي أعاد رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو نبشه وأعلن عزمه على تنفيذه وفق ما أسماه "تغيير الشرق الأوسط".
وأمام ما سبق من عرض عام للقوى المتنازعة في "سورية الجديدة"، ومع غياب أي تصوّر واضح للجهات الكبرى الفاعلة بشأن المستقبل السوري (الولايات المتحدة، أوروبا، "إسرائيل"، السعودية، قطر، الإمارات)، فإن البلاد قادمة على فوضى كبيرة تختلط بها السياسة بالحرب، وتتصارع فيها المصالح الداخلية والخارجية، ولا شيء جدّياً حتى الآن يوحي باستقرار قريب، وسرعان ما ستزول السكرة وتأتي الفكرة ليجد الشعب السوري نفسه أمام استحقاقات مصيرية لن يكون النظام الجديد قادراً على مواجهتها أو معالجة تداعياتها، طالما أنه لم يحسم هويته أو سياسته إزاء القضايا الكبرى، وفي مقدمتها الموقف حيال الكيان الصهيوني، خصوصاً أن ما رشح من مواقف للجولاني يدفع إلى التوجّس من صيغة تطبيعية تشجّع الأخطبوط الإسرائيلي على تحقيق أهدافه التوسعيّة، والتي لن تتوقف عند حدود سورية فقط.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
15/12/2024