آراء وتحليلات
واشنطن وهوس الحروب الساخنة والباردة
محمد محمود مرتضى
يبدو من التاريخ أن إفريقيا لم تكن على قمة أولويات طرفي الحرب الباردة ( الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة)، لكنها، بلا شك، كانت مسرحًا لسياسة الاحتواء والحرب بالوكالة. فقد كان كل طرف مستعدا للتدخل اذا ما سنحت له الفرصة لذلك؛ وهكذا فإنه عندما انسحبت الولايات المتحدة وبريطانيا من مشروع بناء السد العالي في مصر، حصلت الاخيرة على شحنة أسلحة من تشيكوسلوفاكيا. اعتبرت موسكو، آنذاك، أنها فرصة لكسب الأصدقاء في إفريقيا؛ فاستحوذت عام 1956م على برنامج بناء السد العالي وتنفيذه. كما أن موسكو نفسها أقامت علاقات وثيقة مع غينيا في ظل حكم الرئيس سيكوتوري الذي تحدَّى رغبات فرنسا الديغولية، واختار الاستقلال التام عام 1958م.
ورغم تصنيف واشنطن لنشاط الاتحاد السوفياتي يومها على أنه خطير جدا، الا أن واشنطن ترى الحراك الصيني أشد خطورة بالنسبة إليها. وتستدعي هذه النظرة القول إننا أمام حرب باردة جديدة بين بكين وواشنطن مسرحها أفريقيا.
كانت كل من الصين والولايات المتحدة تستعمل أدوات مختلفة في حربهما الباردة هذه؛ ففيما تستعرض أمريكا عضلاتها، وتنشئ القيادة العسكرية الإفريقية "أفريكوم"، وتقيم قواعد عسكرية في الدول الإفريقية، كما هو الحال في جيبوتي والنيجر، تتبنى الصين استراتيجيات التنمية كهجوم في حربها الناعمة، فتعمد لبناء الطرق والجسور والمباني الحكومية للأفارقة، وهو ما دفَع البعض لوصف هذه الدبلوماسية بالهجوم الصيني الناعم على إفريقيا.
بَيْدَ أنَّ استراتيجية الصينية قد تغيَّرت لا سيما مع تبنِّي قيادتها لمشروع طريق الحرير الجديد الذي يهدف إلى ربط إفريقيا وآسيا وأوروبا.
فوفقاً لتقرير معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام الصادر عام 2018م؛ فإن كلاًّ من الولايات المتحدة والصين يستحوذ على نصف الإنفاق العسكري العالمي تقريبًا. مع ملاحظة عودة سباق التسلح بشكل ملحوظ ؛ حيث بلغ معدل الإنفاق العسكري الأمريكي 649 مليار دولار في عام 2018م، كما ارتفع معدل إنفاق الصين العسكري بنسبة 5 ٪ لتصل إلى 250 مليار دولار في عام 2018م.
ونضيف الى ما تقدم، تجاوز الصين للولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري لإفريقيا؛ حيث بلغت الصادرات الصينية إلى إفريقيا حوالي 103 مليارات دولار في عام 2015م، بينما بلغت الصادرات الأمريكية إلى إفريقيا 27 مليار دولار فقط.
ويضاف الى ذلك اعتماد كثير من الدول الإفريقية على الصين في الحصول على أغلب إيراداتها. فعلى سبيل المثال يحصل جنوب السودان على 95% من عائداته بالعملة الصعبة من صادراته النفطية إلى الصين، كما أن 60% من صادرات أنجولا تأتي من النفط والمعادن المصدرة إلى بكين. وفي الوقت نفسه، تحصل الصين على 45% من صادرات زيمبابوي من الماس والمعادن الأخرى.
من الواضح أن الصين تُكثِّف من وجودها في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا؛ ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الإعلان عن توقيع اتفاقيتين مع كينيا، بقيمة إجمالية قدرها 590 مليون يورو (قروض ميسرة وشراكات بين القطاعين العام والخاص). وطبقًا لهذا الاتفاق تقوم شركة الاتصالات العملاقة هواوي ببناء مركز بيانات في "مدينة التكنولوجيا" الجديدة في كونزا التي تبعد 70كم عن نيروبي، ويمكن من خلال هذه النقطة فهم أحد عوامل الهجمة الامريكية على هذه الشركة الصينية.
وعلى أي حال، فمن الواضح أن جيبوتي، التي تحتل موقعا استراتيجيا بالغ الأهمية عند مدخل البحر الأحمر تشكل العمود الفقري في خطة الصين لطريق الحرير الجديد، وربما يتحدد من خلالها مستقبلاً طبيعة الصراع الدولي في هذه الحرب الباردة الجديدة. اذ من المعلوم أن الجزء البحري من الحزام والطريق يهدف إلى ربط المناطق الساحلية للصين وأوروبا عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي. وهنا تكمن أهمية ميناء جيبوتي؛ التي تقع على خليج عدن والبحر الأحمر.
لا شك أن معالم الحرب الباردة الجديدة ضد الصين في العالم بشكل عام وفي أفريقيا بشكل خاص، قد ظهرت في أروقة السياسة الأمريكية والغربية، الا أن واشنطن المهووسة بالحروب، الساخنة منها والباردة، تشعل هذه الحروب على أكثر من جبهة، من العراق الى سوريا فليبيا، ومن الصين الى روسيا الى ايران، وهي لم تستثن الحليف الاوروبي منها، حيث تسعى لشق الصف الاوروبي عبر دعم الانفصال البريطاني عن الاتحاد الاوروبي.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024