آراء وتحليلات
"طوفان الأقصى" ومسار تشكّل القوّة المستقبليّة لجبهة المقاومة العالميّة (1 / 2)
شكّلت عملية "طوفان الأقصى" وما استتبعها من حرب الهيمنة العالميّة الغربيّة على غزّة بيدٍ "إسرائيليّة" نقطة انعطاف في تفاعل الرأي العام مع القضية الفلسطينيّة التي أخذت تتصدّر القضايا الإنسانيّة وتستحوذ على الاهتمام العالميّ، فأطلق آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي مصطلح "جبهة المقاومة" في رسالته الهامّة بتاريخ 30 أيّار 2024، التي وجّهها إلى الطلّاب في جامعات الولايات المتّحدة الأميركيّة الذين حَثّتهُم ضمائرهم الحيّة على الدّفاعِ عن نساء غزّةَ وأطفالِها المظلومين.
ثمّة سياق يحتوي على ظروف ولادة جبهة المقاومة العالميّة وآفاقها الواعدة، وفي هذا الإطار سيتناول هذا المقال ثلاث مسائل، وهي ممارسات العدوّ في غزّة، وصمود المقاومة، وعناصر المشهد الجديد. ويضاف تفصيل ضروري موجز حول التفاعل العالميّ الراهن والمسؤوليات تجاهه، على أن يستتبع بمقال آخر، يتناول بعض مرتكزات وعوامل تشكّل القوّة المستقبليّة لجبهة المقاومة العالميّة.
إرهاب الكيان وداعميه أمام مرأى العالم
بعد مضيّ 294 يومًا منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، لم تتوقّف مجريات الحرب غير المتماثلة التي تفنّنت فيها "إسرائيل" في تقديم أنموذج إرهاب ما يسمّى بالدولة مدعومةً بالذخيرة والتسليح الأميركي، بالتدمير المنهجيّ والإبادة الجماعيّة والتهجير القسريّ ومحاولات كيّ الوعيّ وإعادة الاحتلال والسيطرة على كامل غزّة أرضًا وسلطةً وشعبًا، والاستحواذ على ثرواتها النفطيّة وساحلها البحريّ، وعلى تماسها الجغرافيّ مع مصر، وإحكام الحصار على ما يتبقى من نبض الحياة فيها بالجوع والقهر والفتك. وقد بلغت حصيلة العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، إلى يوم أمس، 39,175 شهيدًا و90,403 مصابين، بينما سجّلت منظمة الصحة العالميّة نحو 14 ألف شخص قد يحتاجون إلى إجلاء من غزّة لتلقّي العلاج.
يمتد هذا الإجرام مع استمرار الضغط على الضفّة الغربيّة من أجل سلب إرادة القتال فيها وإيصالها إلى مصير أكثر بؤسًا واستسلامًا. وقد اعتقل العدوّ الإسرائيليّ أكثر من 9800 فلسطينيّ في الضفّة الغربيّة والقدس منذ عملية "طوفان الأقصى"، فضلًا عن الشهداء والجرحى والتدمير والتهجير فيهما وفي جبهات الإسناد لا سيّما الجبهة اللبنانيّة.
وثّقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" منذ أيّام جانبًا من وحشية قوات الاحتلال "الإسرائيلي" بحق الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال، وحلّلت 37 منشورًا وصورة للفلسطينيّين المحتجزين وأغلبهم من الرجال والفتية، في قطاع غزّة والضفّة الغربية معتبرةً الانتهاكات التي يتعرّض لها هؤلاء الأسرى - بمن فيهم الأطفال - من التعرية القسرية - غالبًا مجردين من ملابسهم باستثناء الداخلية منها، وفي بعض الحالات عراة - والتي يتبعها التقاط صور وفيديوهات ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام، "معاملة غير إنسانية واعتداء على كرامتهم الشخصية وشكلًا من أشكال العنف وجريمة حرب أيضًا".
بينما طالبت منظمة العفو الدولية الولايات المتحدة الأميركية، الأربعاء 24 تموز/يوليو 2024، بفرض حظر أسلحة على "إسرائيل"، محذرةً واشنطن من انتهاكات القانون الدولي عبر "التواطؤ في جرائم الحرب" التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني في قطاع غزّة، بعد أن حصلت "على أدلة وافرة من خبراء في جميع أنحاء العالم على أن الأسلحة الأميركية الصنع، تستخدمها الحكومة "الإسرائيلية"" في جرائم حرب، وعمليات قتل غير مشروعة"، و"انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدّولي وقانون حقوق الإنسان"، فضلًا عن "القانون والسياسة الأميركية" بتعريض حياة الآلاف من المدنيين في فلسطين للخطر كلّ يوم.
صمود المقاومة الفلسطينيّة وتبلور مشهد جديد
صمدت المقاومة الفلسطينيّة في مواجهتها للعدو الصهيو-غربي المدعوم من دول عربية، ونجحت في تقييد مشاريعه الكبرى بتصفية إرادة الشعوب وفرض الهيمنة والاحتلال والحصار والتطبيع، وأعادت حسابات الأعداء إلى اختلالها، وساندتها جبهات قريبة وبعيدة بمستويات وأشكال مختلفة، ضمن إطار جبهة المقاومة التي تتزامن فيها المواجهة ثمّ تتدرّج وتتوسّع بالتناسب مع تعدّدية الجهات وتنوّع الإسناد إنّما باجتماعها على هدف واحد عنوانه إيقاف الحرب على غزّة ومنع هزيمة حركة المقاومة الإسلاميّة حماس وسائر فصائل المقاومة الفلسطينيّة داخلها، وإعادة استثمار نتائج ما بعد الحرب بما يخدم كلّ مكوّن من مكوّنات جبهة المقاومة واستراتيجيّتها المشتركة العامّة وثلاثيّة الحماية والردع والتحرير.
أرسى الميدان - ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 - تفعيل مستويات متفاوتة من قدرات وخدمات جبهة المقاومة بمكوّناتها من دول وحركات في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وإيران وسوريّة. وانفتح في الوقت عينه على تفاعلات تجاوزت الجغرافيا السياسية في الامتداد والانتشار والتأثير للمحور المقاوم، إلى أفق جديد عبّرت عنه جنوب إفريقيا من خلال محاكمتها لقادة الكيان الغاصب، وكذلك ما شهده الغرب من التحرّكات الشعبيّة في جامعات وشوارع الولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا وبعض الدول الأوروبيّة، وما أثارته الأعمال الأدبيّة والأكاديميّة والمواقف الصلبة لنخب ثقافيّة تجاه مؤسّساتها، إضافة إلى ما شهدته المنطقة العربيّة والإسلاميّة من ردود أفعال، ومن موجة قديمة جديدة عنوانها مقاطعة البضائع الأميركيّة و"الإسرائيليّة" والشركات الداعمة للكيان الإجرامي في نشأته وموقعه ووظيفته.
لقد أصبح المشهد يتكوّن من:
1. دول وحركات مقاومة ناشطة تعتمد على إمكانيّاتها وقدراتها وقناعاتها الذاتيّة وتستقلّ ببرامجها ضمن أقطارها مدعومة من إيران ومستفيدة من تجربة وإمكانيّات حزب الله بشكل أساسيّ.
2. دول وحركات مقاومة تتفاعل وتتساند بتكامل في ما بينها، وفق إمكانيات وخصوصيّات متمايزة، في خدمة استحقاقات مصيريّة لأحد مكوّناتها أو أكثر، فتتداعى لنصرته بالإسناد المناسب، مما يعزّز الروابط ويحول دون تفكيك الساحات، وتحديدًا، على ضوء ما يرجّح من انتصار جبهة المقاومة وما سيرشح من النتائج لعملية "طوفان الأقصى" وما تلاها.
3. تفاعلات عالميّة مقصودة ضمن امتدادات دول وحركات جبهة المقاومة وعلاقاتها وأنشطتها الخارجيّة المفيدة أو المؤثّرة ضمن أنحاء مختلفة من العالم.
4. فضاء عالميّ وإقليميّ ومحليّ معولم وعابر في الجغرافيا واللغات والأعراق والإثنيّات والخلفيات الثقافيّة والفكريّة والدينيّة والسياسيّة، متنوّع المستويات والطبقات، خارج أطر التنسيق والتناغم التقليديّة بين دول وحركات جبهة المقاومة، ومشتركه المركزيّ هو إنسانيّ عام.
5. الفراغ الذي سيتركه تلاشي قوّة الهيمنة الأميركيّة تباعًا في المنطقة، وما سيقوده سقوط النموذج الغربيّ في مختبر غزّة لناحية مفاهيم الحريّة وحقوق الإنسان والديموقراطيّة، ولناحية تراجع أنماط القيادة الغربيّة في مواصفاتها وأدائها، ولناحية المرئيّ من فظاعة الموقف الغربي اللاإنساني والممارسات العدوانيّة في دعم إرهاب الدولة وحرب الإبادة الجماعيّة، والسجل الغربيّ الحافل بازدواجيّة المعايير، ولناحية ما سيطفو من أخبار متفرّقة عن الجريمة والعنف الممارس داخل مجتمعات غربيّة لا سيّما في الولايات المتّحدة الأميركيّة؛ ومن شأن ذلك أن تتسع دوائر الفراغ، وتنشط الاضطرابات المرتقبة لملئه، واستيعاب التقهقر في القطبيّة الأحاديّة ونموذجها العالميّ المهيمِن وسلوكها السياسيّ والاقتصاديّ والأمني والثقافيّ.
التفاعل العالميّ نحو أفق واعد
تلقّف جمع من الشباب في بلجيكا نداء الإمام الخامنئي وأصداء الأحداث الجارية في غزّة وجوارها، عبر رسالة مفتوحة بعثوا بها إلى سماحته، بتاريخ الثلاثاء 23 تموز/يوليو 2024 عبّروا فيها عن تقديرهم لخطابه المتضامن مع طلاب الجامعات الأميركيّة المحتجّين نصرة لأهل غزّة؛ قائلين لسماحته: "إن جهودكم المضنية في سياق الفهم المتبادل والعدالة والتضامن قبال التحدّيات المعقّدة التي نواجهها وآلية التعاطي معها، تحظى بأهمية رئيسيّة، لذلك نحن قرّرنا أن نعمق من فهمنا حول الإسلام". وأعربوا عن تطلّعهم إلى استمرار هذا التبادل المثمر لروح الحوار والتعاون البناء. ومع بدء مراسم جلسة الكونغرس الأميركي التي ألقى فيها رئيس وزراء كيان العدوّ بنيامين نتنياهو خطابه بتاريخ الأربعاء 24 تموز/يوليو 2024 تحرّك المتظاهرون الأميركيّون وغيرهم أمام الكونغرس يحملون نعوشًا رمزية ملفوفة بالعلم الفلسطيني، بينما تناولهم نتنياهو نفسه بالخطاب قائلًا: " كثير من المتظاهرين ضدّ "إسرائيل" اختاروا أن يقفوا مع الشر ومع حماس ويحب أن يشعروا بالعار"، واتهمهم بمعاداة السامية وأنهم أصبحوا لعبة في يد إيران ويريدون تدمير الولايات المتّحدة أيضًا، ويرفضون التمييز بين "دولة إسرائيل" الديمقراطيّة وحماس "الإرهابية" ويردّدون شعار من البحر إلى النهر لكنّهم لا يدركون معنى ذلك. متّهمًا إيران بأنّها تموّلهم خارج الكونغرس".
عندما يصبح المتظاهرون موضع عناية الإمام الخامنئي وتقديره لهم بالثناء على يقظتهم ولو برسالة تقيم حجّة وتدحض باطلًا، ويتلقّفونها مستجيبين إلى أعماق مضمونها، ويستأنفون نشاطهم بهمّة وإصرار، وعندما يصبحون موضوعًا لانهمام نتنياهو في اللعب على تناقضات الداخل الأميركيّ وفي توجيهه الرأي العام بالنفاق والأكاذيب، والتحريض عليهم لثنيهم بشتمهم واتهامهم وتوبيخهم الحاد، فإن هذا التقابل في الخطاب بكلّ أسلوبه ومقاربته وقيمه ومضمونه وأغراضه إنما يشير إلى تفاعل عالميّ يتّجه نحو أفق واعد.
وعليه، إنّ هذا الأمر يعيد إنتاج المسؤوليّات وكذلك نمطيّة الفكر والخطاب والعمل على أساس تفعيل نداءات الإمام الخامنئي وطروحاته تجاه قضية فلسطين في الأوساط الغربيّة والأميركيّة منها على نحو خاص، وتكوين مستويين من الدور تجاه الوعيّ الإنسانيّ العام، وتجاه ضرورة انبثاق وعي عربي وإسلاميّ جديد في نظرته لذاته ما بعد طوفان الأقصى واستثماره لنتائج الفعل المقاوم والمظلوميّة الكبرى، بالتوازي والتوازن المناسبين والمتناسبين، ومواجهته للوقائع الجديدة واستشرافه للتحدّيات المستقبليّة، وأيضًا في علاقته مع الوعي الإنسانيّ العام ومستلزمات توفير بِنية حوار وتواصل ناجعة ومحتوى خطاب ملائم ومؤثّر.
الإمام الخامنئيطوفان الأقصىجبهة المقاومة
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024