آراء وتحليلات
مستقبل صفقة وقف إطلاق النار وسط معضلة العدوّ المركبة
نظرًا لما أحدثه طوفان الأقصى من زلزال كبير عصف بأوضاع ومعادلات كانت تغري الكيان "الإسرائيلي" وأميركا وأنظمة المنطقة بالمزيد من التجاوز والتصفية والاستهانة، غير القائمة على دراسة دقيقة، بمحور المقاومة ووحدة الساحات، فإن هذا الزلزال شكل ارتباكًا ومعضلة كبرى لاستراتيجيات المعسكر الصهيو - أميركي، تظهر جلية الآن وتتجلى مشاهدها في ما نراه من تخبط وعجز عن اتّخاذ القرار وعدم القدرة على التصعيد أو التهدئة.
وهذا المشهد المتخبط والذي أفرز صورًا غير معتادة ولا معقولة في السياسة الدولية، مثل طرح الرئيس الأميركي لصفقة يقول إنها "إسرائيلية" ويطالب "إسرائيل" بالموافقة عليها، أو تصريحات لنتنياهو بأنه مستعد لصفقة تحرر الأسرى ثمّ يعاود القتال والعدوان على من يتفاوض معهم، وغيرها من الصور العبثية التي تشكّل هذا المشهد، هو دليل دامغ على معضلات كبرى تؤشر إلى اقتراب سقوط هذا الكيان وسقوط الهيمنة الأميركية على المنطقة، كما تنذر أيضًا باحتمالات غير عقلانية قد تنطوي على مخاطر انزلاقات كبرى.
أولًا: معضلة نتنياهو
يقف نتنياهو في موقف غير مسبوق لأي زعيم صهيوني، فهو في معضلة مركبة قادت إلى شيخوخة كيان مهترئ لا يعيش إلا على فجوة القوّة والردع وتواطؤ وخيانة الأنظمة الرسمية والمساعدات الخارجية، وتحديدًا الأميركية، سواء في السلاح أو الاقتصاد، أو توفير الغطاء السياسي والقانوني للعدوان وجرائم الحرب. وهذه الشيخوخة تمثلت في الانكشاف الاستراتيجي وتقلص فجوة القوّة وخلق معادلات لتوازن الردع، وهو ما أدى إلى جرائم فاضحة صعّبت من مهمّة توفر الغطاء السياسي والقانوني، بل أدت إلى تضرر الأميركي الذي يوفر له هذا الغطاء.
ولعل أهم النقاط التي توضح هذه المعضلة وهذه الشيخوخة تتمثل في هذه الملفات:
1 - أزمة الخروج من مأزق الأهداف المعلنة في الحرب، والتي تتقلص وتنخفض لهجتها يومًا بعد يوم، بداية من سحق المقاومة والقضاء على حماس، وصولًا إلى تفكيك قدرات حماس وضمان عدم تكرار هجماتها.
وهذا الملف الشائك والحبل الذي وضعه نتنياهو على رقبته ويلتف عليها يومًا بعد يوم، هو ملف مركب، حيث يشمل المعارك الراهنة وإثبات قدرته على تفكيك قدرة حماس عسكريًّا وتحرير أسراه، كما يشمل مستقبل غزّة وقدرته على الحيلولة دون وجود مستقبل لحماس.
وفي كلا الأمرين لا يستطيع تقديم صورة نصر أو دليل مقنع على نجاح، حيث تستعيد المقاومة مواقعها وتقتل يوميًّا جنود العدوّ وتفتك بدباباته، وتحتفظ بعشرات الأسرى أحياء، ولم يستطع تحرير أسراه إلا بمجزرة كبرى وعملية فاشلة حررت أربعة فقط، وقتله للعديد من أسراه في قصفه للمدنيين في غزّة.كما يشكّل مستقبل غزّة قضايا خلافية وشائكة وانقسامات داخلية صهيونية وصل مستواها للخلاف بينه وبين جيشه ووزير حربه.
ولعل الكابوس الأكبر الذي تتحدث عنه الأوساط الأمنية والعسكرية الصهيونية والأميركية يتعلق بالأنفاق وفشل الصهاينة وأميركا في اكتشافها، وهو ما يخرج بمشكلات العدوّ من النطاق العسكري والأمني إلى نطاق سياسي وصدامي مع مصر وإحراجها باحتلاله المعابر وانتهاكه لـ"كامب ديفيد" وما يمكن أن يشكله ذلك على المدى الطويل من انزلاقات مهما كان التهاون المصري والصمت المدان.
2 - التعاطي مع ائتلاف حكومي يسيطر عليه اليمين ويشغل فيه حزب بن غفير وسموتريتش معًا 14 مقعدًا وهو ما يعطي هذين المهووسين ورقة إسقاط الائتلاف الحائز على 64 مقعدًا ويكفيه فقدان أربعة مقاعد فقط ليسقط حيث يجب أن يتمتع بعدد لا يقل عن 61 مقعدًا وسط تربّص المعارضة وحلفاء الأمس بنتنياهو وسعيهم لإسقاطه.
وهنا يخشى نتنياهو من أي صفقة يعترض عليها بن غفير وسموتريتش ولا يملك إلا التجاوب معهما في التنكيل بالضفّة ورفض أي دور لسلطة فلسطينية، وبالتالي هو محروم حتّى من حلول تحفظ ماء الوجه أو تنزله من الشجرة، ومجبر على سياسات تفقده المزيد من الشعبية وتعمق الانقسام بالمجتمع الصهيوني بل وحتّى تعصف بين مكونات الائتلاف على غرار المشادات بين بن غفير ورئيس حزب "شاس" ارييه درعي وغيرها من الخلافات.
3 - شبح الانقسامات وانهيار الدولة والمجتمع عموديًّا بين مكوناته غير المتجانسة تاريخيًّا، وأفقيًّا بين الأحزاب والمكونات السياسية المتناحرة.
ثانيًا: معضلة أميركا
على الجانب الأميركي، فإن أميركا ليست أفضل حالًا، فقد تآكل ردعها وفقدت القدرة على إدارة الصراع بالأمر المباشر، وتدهورت مصداقيتها وسمعتها للحضيض، ناهيك عن مشكلات وأزمات داخلية برزت في صورة انقسامات للمرة الأولى في تاريخها حول "إسرائيل".
ويمكن رصد هذه النقاط كما يلي:
1 - الانتخابات وما تمثله "إسرائيل" من وزن في العوامل الانتخابية، وما تمثله جرائم الكيان المكشوفة من تناقضات مع العناوين المؤسسة للحزب الديمقراطي وصعوبة الاتفاق المعلن على الممارسات، وكذلك صعوبة التخلي عن الكيان لاعتبارات الدولة العميقة التي تشكّل القرار الاستراتيجي الأعلى لأي من الحزبين الحاكمين.
2 - تراجع القوّة الناعمة التي قامت على الترويج للديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان والسيف الأميركي المصلت على الخصوم بالاتهامات بالديكتاتورية والفاشية والإرهاب.
3 - ضرورة الاحتفاظ بالقوّة الخشنة وسمعة أميركا القائمة على حماية الحلفاء، حيث تمارس أميركا هيمنتها بدعوى حماية أمن الحلفاء سواء في أوروبا أو الخليج أو في المحيط الروسي والصيني، وهو ما يورط أميركا في انزلاقات وحرج بالغ تفيد التقارير العسكرية والاقتصادية بعدم استعداد أميركا لها وتعارضه مع أولوياتها.
ثالثًا: تأثير هذه المعضلات على مستقبل وقف إطلاق النار
لا تملك أميركا إلا التظاهر بالسعي لوقف إطلاق النار وحلحلة الأمور لتحتفظ بدورها ونفوذها المعتاد في إدارة الصراع في المنطقة، كما لا يملك نتنياهو إلا التظاهر أيضًا بالتجاوب مع أميركا لعدم تصدير خلاف علني - حتّى شكليًّا - ولاحتواء بعض الغضب والاحتقان الداخلي الشعبي والاتهامات بالفشل وعدم الاعتناء بالأسرى وحياتهم، وكذلك مزايدات المعارضة.
ولا شك أن نتنياهو يسعى لكسب الوقت ومحاولات تخريب أي صفقة قبل الحصول على حد أدنى من صورة نصر، ويريد تصوير أي صفقة على أنها تنازل واستسلام من حماس، ولذلك يطلق تصريحات مستفزة، ويبدو أنه يريد إنقاذ حكومته حتّى عطلة "الكنيست" الصيفية ليكسب عدة شهور على أمل أو وهم أن تتغير فيها التوازنات.
وقد قدمت المعارضة طلبًا بإلغاء عطلة "الكنيست"، على أمل إسقاط حكومة نتنياهو، فيما يصر نتنياهو على عدم إلغاء العطلة رهانًا على أن تنتهي الدورة الصيفية للكنيست "الإسرائيلي" رسميًا في 28 تموز/يوليو الجاري وبعدها سيدخل "الكنيست" إجازة صيفية مدتها ثلاثة أشهر.
وتشكّل العطلة فرصة لنتنياهو لإطالة أمد الحرب، حيث يمكن له أن يستغل الجدول التشريعي، إلى جانب مشروع قانون التجنيد الذي أصدرت المحكمة أمرًا بحله بنهاية الجلسة، لتأخير أي إجراء حاسم، وسيمكنه ذلك من البقاء في السلطة وتجنب الانتخابات حتّى نهاية تشرين الأول/أكتوبر المقبل على الأقل. وإذا نجت حكومة نتنياهو حتّى أواخر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، فلن تكون الانتخابات ممكنة إلا بعد مرور 90 يومًا على الأقل. وتتيح هذه الجدولة الزمنية تجنب مواعيد مهمّة على جدول نتنياهو، بما في ذلك الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل وتنصيب الإدارة الجديدة في كانون الثاني/يناير 2025.
فهل يراهن نتنياهو على الوقت؟ وماذا سيكسب من الوقت غير مزيد من قتلاه في غزّة ومزيد من الانزلاقات في لبنان الذي تعهدت مقاومته بالاستمرار في الإسناد إلى أن تقرر حماس أنها انتصرت ويتوقف القتال؟
ربما تقود هذه المعضلات وتأثيراتها على وقف إطلاق النار إلى خيارات غير عقلانية، وحماقات كبرى، وهو ما عبر عنه الأمين العام سماحة السيد نصر الله وهو يستبعد خيار الحرب الكبرى، بأن المقاومة استعدت لأسوأ السيناريوهات وجميع الاحتمالات.
غزةبنيامين نتنياهوالحكومة الاسرائيلية
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024