آراء وتحليلات
القارة السمراء.. ثروات تثير لعاب الدول الكبرى
محمد نادر العمري
على الرغم من أن القارة الإفريقية تعد ثاني قارات العالم مساحة وتتجاوز مساحتها ثلاثين مليون كيلومتر مربع، وتضم 54 دولة، تختلف خصائص بعضها عن بعض، من حيث التركيبة الديموغرافية والخلفيات الحضارية التاريخية، وخصائصها الجغرافية الهامة، حيث يطل بعضها على أبرز بحار ومحيطات العالم، والتي تشكّل عامل ربط للممرات الاقتصادية الدولية بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، وعدد سكان القارة المقدر بمليار ونصف وفق تقديرات الربع الأول من العام 2024م، وتنوع اقتصادها المكون من المجالات الزراعية والحيوانية والطاقوية والمعادن النفيسة والسياحة وغيرها.
إلا أن كلّ هذه الخصائص والمميزات لم تجعل من القارة السوداء قوة إقليمية ودولية فاعلة ضمن النسق الدولي ومسار العلاقات الدولية، بل تحولت إلى رقعة جغرافية تعج بالنزاعات والصراعات المتغذية من قوى خارجية، هيأت لها الظروف الذاتية والموضوعية للانفجار في أي لحظة، طمعًا بالتدخل في شؤونها والمساهمة في إدارة أمورها، والسعي لتوسيع نفوذ القوى الكبرى التقليدية وغير التقليدية على هذه الرقعة الجغرافية التي تتوسط العالم عسكرياً وقتصادياً وسياسياً وثقافياً، حيث تتوزع 23 قاعدة عسكرية أجنبية في القرن الإفريقي الذي يتكون من أربع دول فقط هي الصومال وأثيوبيا وجيبوتي وإريتيريا. سبع قواعد تشغلها القوات الأميركية والفرنسية والإيطالية والإسبانية و"الإسرائيلية" والصينية واليابانية في جيبوتي التي لا تتجاوز مساحتها 23 ألف كم2، وبالكاد يصل عدد سكانها إلى مليون نسمة، واقتصادها هش وضعيف يعتمد على المساعدات الخارجية، إلا أنها تطل على الجانب الغربي لـ"مضيق باب المندب"، الذي يشكّل أحد أكثر الممرات الملاحية نشاطًا في العالم، والمقدر بنحو 11% من التجارة العالمية، ويعد بمثابة حلقة وصل بين إفريقيا والشرق الأوسط، ويربط أوروبا بشرق آسيا.
هذه السمات وغيرها دفعت العديد من القوى المؤثرة والفاعلة في النظام الدولي نحو التسابق بغية توسيع نفوذها في هذه القارة مستغلة العديد من العوامل المهيأة لذلك والتي تدور أبرزها حول جملة من النقاط الآتية:
أولًا - صحيح أن معظم الدول الإفريقية نالت استقلالها من الاحتلال الفرنسي والبريطاني والبرتغالي والبلجيكي في الفترة الممتدة من نهاية عقد الخمسينيات حتّى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أن معظم هذه الدول ولا سيما الشطر الغربي والجنوبي من القارة كانت ترتبط بمعاهدات واتفاقيات مع الدول الاستعمارية، جعلها مقيدة السلوك والمواقف والقدرات من ناحية، ومن ناحية ثانية منحت هذه الاتفاقات الدول الغربية ولا سيما فرنسا خاصية انتقاء الإدارات الحاكمة مهما كان شكلها عسكرية أو مدنية، تدين بالولاء لها وتساعدها على إدارة البلاد وفق مصالحها.
ثانيًا - انتشار النزاعات الحدودية والعرقية والإثنية بشكل كبير جدًا داخل القارة الإفريقية والعمل على تغذيتها من قبل القوى الكبرى، حيث شهدت أكثر من 18 دولة إفريقية حروبًا أهلية أو انقلابات خلال العقود الثلاثة السابقة، أدت لحالة اضطراب وعدم استقرار، كما جرى على سبيل المثال لا الحصر في الصومال ونيجيريا ومالي، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، واتسعت رقعة النزاعات الإقليمية بسبب الخلاف على ترسيم الحدود أو التدخل في الشؤون الداخلية أو لأسباب أخرى في كلّ من أنغولا وناميبيا، وتشاد وزيمبابوي، ورواندا وأوغندا، والنزاع الحدودي الذي وصل إلى درجة الحرب بين أريتريا وأثيوبيا بالإضافة لما عرفه السودان من انفصال جنوبه عن شماله، والنزاع المستمر على الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي.
كلّ هذه النزاعات والحروب والصراعات الداخلية والإقليمية أدت إلى إضعاف تلك الدول التي شهدت تراجعًا في مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية، وارتفعت فيها مستويات انتشار العصبية والتطرّف والجهل، مما ساهم في سهولة استقطاب أحد أطراف النزاعات أو جميع أطرافها من قبل الدول الخارجية، لدعمها عسكريًا مقابل حصول هذه الدول على امتيازات سياسية وعسكرية واقتصادية أرخت بتداعياتها على الواقع المتردي للدول الإفريقية. كما أن هذه الصراعات والنزاعات وما نجم عنها من تداعيات على مختلف الأصعدة ساهمت في تأمين الأرضية الصالحة لانتشار الإهاب كفكر يعتمد على العنصرية والجهل، والممارسة المتمثلة بنبذ الآخر ونشر الكراهية، إضافة إلى التدخل الخارجي الذي أسهم في تغذية العناصر السابقة وإغداق ساحات الصراع بالسلاح، وهو ما أدى لانتشار أكثر من 22 فصيلًا إرهابيًا في القارة السمراء أبرزهم: "داعش"، "القاعدة"، "بوكو حرام"، "الحركة الشبابية" وغيرها من التنظيمات التي قامت بقتل 23 ألف شخص عام 2023م نتيجة أعمالها الإرهابية، أي بزيادة وقدرها 20% عن العام 2022م، وهو ما يعكس ارتفاع وتيرة انتشار العنف داخل القارة.
ثالثًا - صحيح أن إجمالي الثروة القابلة للاستثمار الموجودة حاليًا في القارة الإفريقية تقدر بنحو 2.5 تريليون دولار أميركي، وفق تقرير الثروة في إفريقيا 2024 الذي نشرته شركة استشارات الثروة الدولية Henley & Partners، وصحيح أنها تمتلك نحو ثلث ثروات العالم المعدنية، ونحو نصف احتياطي الذهب في العالم، والذي يتركز في السودان وغانا وزامبيا ونيجيريا وزيمبابوي ومصر، ونحو 12 إلى 15% من احتياطي النفط العالمي، و8% من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، ونحو 65% من مساحة الأرض الزراعية الصالحة للزراعة في العالم. إلا أن هذه القارة متمثلة بأنظمتها السياسية القائمة، لا تمتلك الإرادة السياسية التي تدفعها نحو استثمار هذه الإمكانات لصالح دولها وشعوبها، وتفتقر إلى إدارات تقنية كفوءة لاستثمار هذه الإمكانات، نتيجة ضعف التنمية البشرية والتي بلغت ذروتها في بعض الدول إلى ما يزيد عن 82% في النيجر وتجاوزت 75% في بوركينافسو، وقرابة 64% في غامبيا. ووفقاً لتقرير البنك الدولي لعام 2022، صنفت القارة الإفريقية موطنًا لأكثر من 60٪ من فقراء العالم المدقعين، ومن المتوقع أن يرتفع هذا المعدل إلى نحو 90٪ في عام 2030م، وارتفعت نسبة الجوع والانعدام الغذائي في إفريقيا إلى نحو 20% في عام 2023م، أي بمقدار 230 مليونًا يعانون من سوء التغذية في القارة، وفق برنامج الغذاء العالمي.
هذه البيانات وغيرها تجعلنا أمام حقيقة أفرزتها مراحل تطوّر تاريخ العلاقات الدولية، مفادها أن عناصر القوّة الجيوبوليتيكية من جغرافية وثروات وديموغرافية تحتاج لإرادة سياسية لتوظيفها لمصالح الشعوب، وإن أغنى قارات العالم هي أكثر القارات التي أثارت لعاب الدول الكبرى لاقتسامها.
الاستعمارأفريقياالغربالعالم الغربي
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
23/11/2024
لماذا تعرقل واشنطن و"تل أبيب" تسليح العراق؟
21/11/2024