معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

"الهدهد".. الثأر التاريخي
22/06/2024

"الهدهد".. الثأر التاريخي

يحلو للكثيرين من المعلّقين على خطابات الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، حتى من البعيدين عن تبني خيار المقاومة، ختام قراءاتهم لإطلالاته بأن السيد ومهما اختلفوا معه يتمتع بـ "الصدق"، حتى إعلام العدو في ما يبدو يثق كثيرًا في الخطاب السياسي للسيد، أكثر مما يثق بحكومته ووزرائه، لكن بالنسبة لنا، نحن عشاق المقاومة وسيدنا، يمكن لنا أن نقول كلامًا غيره بعد خطاب تاريخي – بكل جلال هذه الكلمة - في التاسع عشر من حزيران، وربطًا بكل خطابات سماحة السيد منذ اندلاع "طوفان الأقصى"، وأولها كان في الثالث من تشرين الثاني الماضي.

الصدق كما نعرفه عند سماحة السيد ليس صدق الوعد، ولا صدق الكلمة، الصدق عند السيد هو قيمة متكاملة كما هو في الجزء الأعمق من قلب إيمان الإنسان، الصدق هنا كقيمة هو التزام ديني وسياسي ووطني وإنساني. الصدق هنا يتوسع ويتعمق بحيث يكون هو مسؤولية العهد والوعد والشخصية، وفوق ما يمثله لنا السيد كونه القائد في أشرف –وأهم- معركة نخوضها منذ 1948، وربما قبل ذلك بكثير، فإن حرصه على نقل هذه المفاهيم لنا وتبيانها واتصالها الدائم مع عمله الجهادي الأكبر، هو أعز ما يقدمه رجل لأمته، المثل والقدوة وقوة التغيير الإنساني للجمهور الواسع الذي لم يعرف يومًا الصدق مختلطًا مع العمل السياسي.

يكاد الإنسان يجزم أن معركة "طوفان الأقصى" بالنسبة للأمة العربية، ولأطهر أبنائها في محور المقاومة، هي عملية "بعث" أو إعادة ميلاد لهذه الأمة وقدراتها وحضارتها وكينونتها، وهذه اللحظة أكبر كثيرًا من حشرها في مواجهة عسكرية مع كيان العدو التافه، بل هي تستدعي واحدة من لحظات الصدام المبكر في العصر الحديث بين العرب والغرب، في العام 1798، حطت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في الإسكندرية، ثم زحفت جيوشه وخاضت ما تعرف بـ"معركة إمبابة". يروي المؤرخون أن فارسًا مملوكيًا شق الصفوف فجأة طالبًا فارسًا مبارزًا من الجيش الفرنسي، فلم يكن نصيبه أكثر من طلقة واحدة أسقطته عن جواده المطهَّم بالحلي والأساور، كانت هذه فقط بداية عصر.

وبعد دخول الاستعمار الأوروبي إلى الدول العربية، واحدة تلو أخرى، جاء فصل جديد بعنوان "الرعب القادم من السماء"، وشهدت ليبيا في 5 آذار/ مارس 1912، أول عملية قصف جوي بالطائرات في التاريخ، وفي كتاب "قواعد استخدام الطائرات في الحروب"، فاخر الإيطالي جوليو دوهى، قائد أول وحدة قاذفات جوية فى العالم، بخبراته الواسعة في مبادئ استهداف وترويع القرى والمدنيين العزل باستخدام سلاح الجو، وتباهى بقدراته على إخضاعهم وشل مقاومتهم، عبر النشر الواسع لهذا الإرهاب الجديد، كان ذلك فصلًا جديدًا أيضًا، تكامل مع جريمة بريطانية مماثلة، لكنها أوسع، في العراق، حيث مثل سلاح الجو دور رأس حربة الاحتلال البريطاني هناك لدعم العرش الهاشمي، أو ما كان يعرف بـ "حكومة الطائرات".

ثم جاءت لحظة زرع كيان العدو السرطاني، وهي من بنات أفكار نابليون بالذات الذي مر في حملته ببلاد مصر والشام، وعرف أن السيطرة الغربية على هذا العالم مضمونة إذا ما أتيح لها زرع حد فاصل –في فلسطين بالذات- يكون قاطعًا لاتصاله مانعًا لاجتماعه، وإسفنجة تمتص على الدوام طاقاته وتبددها.

تبنى الكيان قبل إعلانه كل إستراتيجية التفوق الغربي، فهو دائمًا في وضع عسكري يضمن له سبق كل الدول العربية مجتمعة، في سلاحه دفاعًا وهجومًا، أضيف إليه أن الكيان نشأ بعناصر جاهزة للعمل، إذ لم يكن على الوكالة اليهودية سوى إرسال أفراد الفيلق اليهودي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية، وحصل على خبرات هائلة منها، ثم توريد النواقص من الأسلحة والضباط إلى الكيان، لتكون حرب 1948 الفاجعة العربية سقوطًا شاملًا دونما قتال!

هكذا ووفقًا لتصور عام فإن الجغرافيا كانت الأرضية التي شهدت كل هذه التطورات وفصول الصدام بين العرب والغرب، وكان التاريخ هو الخلفية التي جرت أمامها الوقائع الجديدة، وفي كل الأحوال فإن العالم العربي لم يستطع أن يجاري المستعمر الأوروبي حين نزل ينهش الأطراف، أو المستوطن الصهيوني حين جاء يستهدف القلب، كان العربي عاريًا من كل أدوات العصر، وأولها بالطبع سلاحه.. هذا يمكن قوله قبل خطاب سماحة السيد اليوم، كان يمكن أن يكون صحيحًا تمامًا قبل اليوم.

سيتوقف المشهد العربي كثيرًا أمام تلك الفقرة من خطاب سماحة السيد، عليه وله أن يتوقف: "قاتلنا بجزء من سلاحنا حتّى الآن وحصلنا على أسلحة جديدة ستظهر في الميدان وطورنا أسلحتنا واستخدمنا أسلحة جديدة في هذه المعركة ولدينا عدد كبير وفير من المُسيّرات لأننا نصنعها، ولدينا القدرة البشرية الكافية والمتحفّزة، وعدد المقاتلين في المقاومة تجاوز الـ 100 ألف مقاتل بكثير، وفي لبنان لدينا فوق حاجة الجبهة حتّى في أسوأ ظروف الحرب".

لدينا طرف قال من قبل إننا نملك الدم والسيف، واليوم رأينا الدم والسيف عين اليقين، لم تعد السماء تلقي بالموت فوق رؤوسنا فقط، بل أصبحت ميدانًا مفتوحًا تغطيه المقاومة وبكفاءة مذهلة وقدرات متعاظمة ومفاجئة، لم يعد الصهيوني يقاتل وفي يده التكنولوجيا الفضلى، بل عاد إلى زمن "المنجنيق"، بينما يقاتل رجال الله بالذكاء الاصطناعي والتشويش الإلكتروني، وكل مفردات العلم والتقنية. إن أكرم وأنبل أبناء الأمة قد استطاعوا ببساطة أن يتعلموا كل شيء، وهم أيضًا لم ينسوا أهم شيء "الثأر".

في هذه اللحظة بالذات، وفي يوم تأبين وتذكار القائد الشهيد طالب عبد الله "أبي طالب"، فإن الأسطورة التي كان يقوم عليها كيان العدو بأسرها راحت تتهاوى، مثل بناء تصدع بنيانه وتضعضعت أساساته، هذا الكيان المسخ أمام بأس رجال الله، بعد عملية "الهدهد" وقبل عملية "الهدهد"، سيصل حتمًا إلى اللحظة الحرجة لتسارع تساقط الطوابق في طرفة عين، ولن يظل باقيًا إلا الأنقاض والركام والخراب، والكثير جدًا من الدماء.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات