معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

بين النكسة والطوفان.. قطع عقدة جوردية
05/06/2024

بين النكسة والطوفان.. قطع عقدة جوردية

بكل صدق ويقين وثقة، كان يوم الخامس من حزيران/ يونيو 1967، هو أصعب لحظات الأمة العربية كلها وأكثرها مرارة وبؤسًا وإحباطًا، فمن وسط التشرذم والانقسام والفتن والصراعات الداخلية انفجر الكيان فجأة ليعكس كلّ أسباب الوهن العربي إلى عوامل حفز وتقوية لنفسه، ووقعت الواقعة، وبعد 6 أيام فقط تخللتها سويعات قتال كانت عاصفة النار والدم قد شكلت وجه "الشرق الأوسط الأميركي"، لتأخذ "تل أبيب" نصف النصر ممثلًا في 4 أضعاف مساحتها الجغرافية إضافة إلى القدس الشريف، بينما تضمن واشنطن كسر –ما كان - المشروع القوميّ وقتذاك، وإلى الأبد.

إذا كان تعريف الهزيمة بأبسط المفردات وأدقها هي: تحطيم القوّة المسلحة للعدو وكسر إرادته، فما جرى في ما يعرف بـ "النكسة" - تلطيفًا - كان هزيمة ساحقة للأمة كلها، وقد حقق المخطّط الصهيوني كامل أهدافه، سواء بالحرب أم بعدها، وحتّى بالرغم من الوقفة الباهتة في تشرين 73، فقد خرجت مصر بإرادتها من الصراع وقبلت عصر الخضوع للأميركي، ومقابل سيناء منزوعة السيادة باعت القاهرة، هذا بالضبط ما جرى، بينما كان يظن الكيان إنه سينفرد بسورية ولبنان، والأردن منذ أعلن الملك حسين موقفه المعروف، ثمّ سيحقق في النهاية مطلب استمراره ورخاءه الموعود الممثل بالاتّصال مع ثروات الخليج.

من المثير للعجب أن كلّ العالم العربي الواسع لم يقدم نظريّة أمنٍ قومي جامعة لدوله وشعوبه، قبل استراتيجية "وحدة الساحات"، وكانت مواجهة الكيان وأميركا معه وقبله، تجرى بشكل الاحتمالات العشوائية. في ميادين القتال مثلًا كان يتجمّع العرب؛ لأنهم رأوا الخطر محدقًا وقريبًا جدًا، لكن لأن العلاقات معقّدة والأهداف ضبابية، ثمّ فتت وحدتهم الصراعات الجانبية. في النكسة مثلًا، كان التيار القوميّ العربي يواجه تيار الرجعية، وكلاهما كان ظاهرًا يعادي الكيان، لكن الحقيقة أن الأنظمة الملكية – السعودية بالذات - كانت ترتب من وراء الجميع مع واشنطن و"تل أبيب" لتمكينهما من إلحاق أعمق أذى ممكن بالأنظمة التقدمية.

هذا ليس تحليلًا، إنه تصريح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في حوار أجراه معه الإعلامي الصهيوني غيفري غولدبيرغ، لمجلة "ذي أتلانتيك"، في نيسان/ إبريل 2018، حين قال نصًا: "عملنا بجهد في المملكة السعودية في سبيل المصلحة الأميركية، واجهنا المد الهائل بعد انتصار الثورة الإسلامية في طهران، وواجهنا قبل ذلك عبد الناصر في مصر، ووقفنا ضدّ الإيديولوجيا الشيوعية للاتحاد السوفياتي، وناصرنا المجاهدين في أفغانستان بالمال والسلاح، وكذلك فعلت الولايات المتحدة، ثمّ وقفنا بقوة ضدّ أيديولوجيا الثورة في إيران، والتي كانت أيضًا تعادي مصالح واشنطن".

بين النكسة والطوفان.. قطع عقدة جوردية

هذا المخطّط كان يسير طبيعيًا في مجراه، لا تعترضه سدود ولا جنادل، وحتّى مع "تجمد" الوضع في ما يخص جبهة لبنان بعد التحرير في 2000 والانتصار في 2006، فإن تحقيق أحلام الكيان كان قريبًا جدًا أو واقعًا، قبل ساعة واحدة من انطلاق "طوفان الأقصى" المبارك، في السابع من تشرين الأول الماضي.

لم يذهب طرف عربي، قبل المقاومة الإسلامية في لبنان، إلى جرأة وحسم قطع "عقدة جوردية"*، كما فعلها حزب الله في يوم الثالث من حزيران بتحويل مدن شمال فلسطين المحتلة إلى جهنم صغرى، نحن كنّا نصنع العقد لأنفسنا، ثمّ نراكم الجديد منها على القديم، كانت لدينا كلّ الأسباب؛ كي نصوّر الكيان التافه على أنّه العصا الغليظة لواشنطن في المنطقة، وعقب "النكسة"، أثقل هزيمة عسكرية عربية في العصر الحديث على الإطلاق، حيث ساعات قليلة من تبخر جيوش عربية جرارة، أثبت الكيان أن السلاح الأميركي في اليد الصهيونية قادر على فرض إرادته على مئات الملايين من العرب، وفي غياب عقيدة أمن قومي جامعة لدى المحاربين، كانت الهزيمة مدوية وشاملة وفي الأعماق، وكان السقوط العربي هائلًا أليمًا، ولا يظل العقل، حتّى بعد مرور كلّ هذه السنوات، عاجزًا على استيعابه.

هذه ليست لحظة ألم أو بكاء على أطلال الماضي الكئيب، لكنّها مناسبة جيدة لتجديد البيعة للمقاومة ولخيار البندقية ولفلسفة التراكم الجهادي، لم يبدأ "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول 2023، بل بدأ حين بزعت قوة نورانية جديدة على الأرض، ترفع شعار "التحرير" هدفًا وليس حلمًا، بدأ في العام 2000 حين اضطرّ الكيان لأول مرة في تاريخه إلى الانسحاب تحت النار من الجنوب، ثمّ تكرّرت في العام 2006، حين فشل خيار الهجوم الكاسح للكيان، أيضًا لأول مرة، لينزع المجاهدون مخالبه ويبطلون أثر سمّه، أما في العام 2023، لم يعد سقوط الكيان نبوءة أو ضربًا من الخيال، إنه الحقيقة في مواجهة جبهات مشتعلة بالنار والدم، تصرخ طالبة حق الثأر، وهي ستناله لا محالة.

* العقدة الغوردية هي أسطورة تتعلق بالإسكندر الأكبر، ويستخدم المصطلح عادة للدلالة على مشكلة صعبة الحل يتم حلها بعمل جريء.

مصر

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات