آراء وتحليلات
" لكم لبنانكم ولي لبناني"
"لكم لبنانكم، ولي لبناني".. عنوان لنصّ أدبي درسناه في المدرسة لجبران خليل جبران، تصوّر يا عزيزي! يرتدي الطالب هندامه الذي استغرق الكثير من جهد والده لشرائه، وتكبّد عناء أقساط المدرسة والنقل ومستلزمات الدراسة، في زمنٍ عرفنا فيه المعنى الحقيقي لـ"ربّيته كلّ شبر بنذر"، يرتدي هذا الطالب ما أمكن والداه من شرائه لتدفئته في صقيع المدارس الرسمية، يتحيّن توقف "الإسرائيلي" عن طلعاته الجوّية لتجربة سلاحه فينا، ويحضر إلى الصفّ ليتعلّم "لكم لبنانكم ولي لبناني"، إنها الفدرالية المستشرسة التي يمكنها أن تقنع هذا الطالب أن لبنان جبران الجميل موجود في الضفّة الثانية من هذا الوطن، بينما يعاني هو ما يعانيه مع الـ"لكم"، من التفرقة والبؤس والنعرات. علمًا أن هذه الـ"لكم" سيستشعرها طرفا خطوط التماس، أو على الأقل سيستشعرها أحدهما بينما يقبض الطرف الآخر على رفعة الـ"لي لبناني" الجميل الذي لا يليق بالآخرين، هذا اللبنان المنعزل، المحايد في زمن الاستعمار.
قد يعتبر البعض هذا ظلمًا للأدب الجبراني، ربما كانت نيته جميلة كسهول لبنانه، إلا أننا في لبناننا لم يترك لنا "الإسرائيلي" الكثير من السهول والجبال لنتأملها ونشاركه نيته تلك. فمعظم قرانا صودرت من المحتلّ بجبالها وبئرها وضحكات الأطفال فيها، وبقيت منها صور يحاول أن يصفها لنا من نجا من حسرة يوم التهجير.
لن أحاكم جبران على انقسامات المتصرفيات التي نقلها إلينا، والنزعة الأميركية غير المتجانسة مع مطالب التحرر في نصّه، ذلك بحثه مختلف، فربما صدق في حلمه الجميل بلبنانه على غرار الجمهورية الفاضلة لأفلاطون، لكنّه للأسف كان لغير زماننا، واستحضره الفرنسي لاحقًا في مناهجنا قصرًا، بما يشبه الوطن الذي اقتطعه له من بلاد الشام، مقابل بريطانيا التي حمّلت فلسطين وعد بلفورها. وبقينا نحفظ ما يمليه علينا النص من صور جميلة دون أن يلتفت إلى العشوائيات التي سكنها النازحون من قراهم في الجنوب والبقاع الغربي. ربما كان ليكون النص أجمل لو لم يكن العدوّ رابضًا فوق صدورنا، أو ربما لم نكن لنحتاج لهذا النص لو لم يكن المستعمر يُنشئ مستوطناته الإنعزالية فينا، وكان لبناننا وطنًا واحدًا.
وسؤال كان يراودني يومها، أين لبنانه الرائع ذاك؟ من أي لبنان هو؟ ألم يطله قصف العدو؟ ألا يوجد في لبنانه مقابر جماعية تركها حزب "الكتائب" خلفه؟ أجل، هو كان في زمن حروب إنقسامية مختلفة تتناسب ومخطّطات محتلّ آخر.
هذا الإنقسام الذي رسم لنا لبنانين في مخيلتنا رغم إرادة الكاتب الحسنة، أنتج ما نراه اليوم على الشاشات وفي الكثير من خطابات السياسيين بتوجهات مختلفة. ليس جبران هو المسؤول قطعًا، المسكين كان يريد أن يدعو الآخرين للإلتحاق بلبنانه الجميل المسالم بدل الصراعات، لكنّه لم ينتبه أنه حتّى في زمنه، لم يكن يسمح الأبونا بدخول أبناء المشيخة إلى لبنانه والعكس صحيح.
إن وجهة النظر الفيدرالية التي بدأت في زمن المتصرفية وانعكست في نص جبران، هي نفسها جعلت أحدهم منذ فترة قليلة يتحدّث عن فئة لبنانية كبيرة ويقول "لا يشبهوننا، فليذهبوا"، تمامًا كما فعل "الكتائبي" في مجازره، ومعه وريثه "القوّاتي". هو نهج وفكر، قد تتغيّر ملامحه وهويته، فبدل المتصرفيتين هو ال، 10452 كلم مربع، وبدل المير والأب، يمكن أن تتنوّع الهويات إلا أن المستعمر واحد.
....
بالأمس كانت فئة كبيرة من اللبنانيين تستذكر في إعلامها الخاص على صفحات التواصل الاجتماعي ذكرياتها أيام التحرير عام 2000، بينما غابت فئة أخرى عن المشهد تمامًا كأن الأمر لا يعنيها، أو قد يعنيها بشكل سلبي.
أما الإعلام التقليدي من قنوات تلفزيونية وإذاعية، أيضًا، انقسمت، وهنا لن أسمّي ليس خوفًا بل رجاءً بأن لا تتّسع رقعة الفرقة أكثر، فالخيط المتبقي دقيق جدًّا. تكفيك جولة على الإعلام اللبناني لتجد أن إعلام المقاومة فقط من يحتفل بهذه الذكرى وكأنه المستفيد الوحيد من التحرير، بينما تتحوّل الذكرى إلى تقرير إخباري مدته أقل من ثلاث دقائق، عند من يمسكون العصا في المنتصف، فيأخذون الشرف من هذا والمال من ذاك. في حين تبقى القنوات التابعة للخليج ومرفقاته غائبة عن المشهد.
وأما جماعة الرقص بالعصا تجدهم لا يرمون التحرير بحجر، لكنّهم يرمون المقاومة بالتقصير. فيدمجون تهم الفساد والوضع الاقتصادي المتردّي، حتّى أكاد أظنّ، لولا رشدي، أن المقاومة هي المسؤولة عن مجاعة الصومال.
الإعلام لم يكن الوحيد في مشهدية الخطابين، فالسياسة في لبنان كذلك، إذ إن الموقف الحكومي الرسمي من هذا الانتصار كان عبارة عن مذكرة تقضي بإقفال الدوائر الرسمية، دون موقف أو خطاب يتبنى المناسبة أو يليق بهذا الإنجاز. وبقيت التصريحات فردية، وأيضًا بما يليق باللبنانَين والخطابَين.ففي هذا البلد، ما زالت يدُ لمستعمر تُمسك بسياسة الحكّام منذ نشأتهم الأولى.
قد يسأل عاقل، أيُعقل أن لا يحتفي مواطن بتحرير وطنه من العدو؟ قطعًا لا يُعقل، ولكن يجب بالبداية أن يكون مواطنًا في الدرجة الأولى، وفي الدرجة الثانية أن يعتبر "الإسرائيلي" عدوًا. إذ لا يُمكن أن يحتفي من يتبع لتنظيم استعان رئيسه بـ"الإسرائيلي" نفسه ليصل إلى الحكم، ويحتفي باندحار معينه عن الأرض. وليس من الطبيعي أن يشارك من يعتبر أن لبنانه لا يشبه لبنان من يحتفلون بالنصر نصرهم. ولا يُعقل أن تطلب من مُصاب بعقدة ستوكهولم أن ينظر إلى الأميركي على أنه ناهب الثروات، وهو يراه فاتحًا يريد أن يمنحه الديمقراطية! ولا أن يخرج مسؤول نصّبه مُستعمر ليهاجم واليه أو مفوّضه السامي في المنطقة.
ولكن تعالى أيها المتصرّفي الفكر والمُستَعمَرُ لأخبرك عن لبناني الواحد الذي تحرّر.
في صباح اليوم الخامس والعشرين من أيار 2000، استفاق الوطن على خبط أقدام أبنائه الذين غرّبهم المحتلّ، يهرولون إلى قراهم، كلّ قراهم، الشيعية والسنية والمسيحية والدرزية، وعلينا أن نذكر هذا التصنيف لأنه من كنه الشحن الخطابي الإعلامي منذ عيد الاستقلال تحت لواء المستعمر ودستوره الفرنسي، ولكن لم يكن كذلك في تحرير ال 2000، فالكل كان مقاومًا جنوبيا، من أقصى الشمال إلى البقاع والجنوب، الكلّ عاد.
في هذا اليوم، خرج من القرى المحاذية للقرى المحتلّة، الكثير من الرجال والنساء والأطفال، بمسار يُشبه اتّباع نبي أشرق في الجنوب فاجتذبهم إليه. كان الجنوب قيامة، صاحت في كلّ من غفى حلم العودة في نفوسهم، أن أقبِلوا إلي، واعمروني بحبّكم، لقد دُحر المحتلّ.
كان الجميع هناك، وأمّهات الشهداء كانت تعبر القرى، تجني من جنبات الدرب عطر أبنائها وثمار تضحياتهم. حتّى الدّمع كان يومها رقراقًا جميلًا فرِحا.
وبعد طول غياب، استطاع ابن عيترون وعيتا ومارون الراس وبرعشيت وميس والخيام والجبين، ويارين وراميا.. أن يروا لبنانًا يشبه الذي حدّثنا عنه جبران، لكنّه اللبنان الموحّد، لم يفرّ عنه سوى العملاء. الجميع كانوا وطنًا واحدًا هناك، خطابًا واحدًا حيث ماتت فدرالية المتصرفية، وإنعزالية ديغول، حتّى أن العيون هناك كانت تنظر إلى البعيد، تأمل بمحو حدود سايكس بيكو. الوحيدون الذين انقسموا يومها هم أعوان العدوّ الصهيوني، لجؤوا إليه فأقفل بوابات احتلاله في وجوههم، وشاهدناهم لاحقًا يأوون إلى مزابل كيانه الغاصب تمامًا كما يراهم. لم يكن في لبناني لبنانان، بل كان وطنا واحدًا بوجه عدوِ وعملائه.
تحرير 2000 لم يقتلع العدوّ "الإسرائيلي" فقط، بل سحق فكرة قسمة الاستعمار، وأعاد لنا لبناننا بجباله وسهوله وكلّ صور الجمال والعز فيه.
المقاومة لم تتغزّل بالجنوب المحتل وطبيعته، ولم تنظم الشعر لتمجيد جبل صافي، لعلّه يتمكّن الكثير من أبنائها من الإلتحاق بمدارس الدولة التي مُنعت عن طائفة كبيرة من هذا البلد بفعل دساتير الاستعمار وتهجير المحتلّ، لكنّهم كتبوا انتصارات وما زالوا يكتبون خطاب الوحدة لـ"أشرف الناس"، وأعادوا للوطن شرف النصر والوحدة، لتتكسّر على هامشه أحلام سايكس بيكو ووعود بلفور، ويبقى لبناننا وطنًا يليق بشرفائه ويطرد مرتزقة الاستعمار من مستقبله.
في لبنان الواحد الذي أعرفه، لنا أدبيات الـ"نحن" لا الوطنَين والخطابين، قالها شيخنا منذ الانطلاقة المقاومة الموحّدة "نحن هزِئنا بالاحتلال"، ولم يكن لنا آخر سوى العدوّ ومن آزره. وكنّا في النصر أيضًا نحن، بكلّ طوائفنا ومناطقنا، كنا نشبه ذاك النصر الجامع لكل الشرفاء، على أمل أن يأتي ذاك اليوم الذي يصبح فيه الخطاب الإعلامي والسياسي حرّا كتحرير 2000 ليستحقّ وسام المواطَنة.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024