آراء وتحليلات
لماذا الغضب الغربي على قانون محاربة الانحلال الأخلاقي في العراق؟
عكست ردود الأفعال الأميركية والأوروبية الأخيرة حول تصويت مجلس النواب العراقي على التعديل الأول لقانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي، حقيقة وخطورة الأجندات والمشاريع والأهداف التي يراد تمريرها وتحقيقها في العراق، بوسائل وأساليب ناعمة، وعكست كذلك القدر الكبير من ازدواجية وتناقض المفاهيم والنظريات والاطروحات الغربية بشأن حقوق الإنسان والحريات العامة، إذا ما تم إسقاطها على الكثير من السلوكيات والممارسات العملية التي تنتهجها الحكومات الغربية حتّى في بلدانها.
وهنا لا بد أن نتوقف وننبه إلى جملة قضايا مهمة، من شأنها توضيح الصورة الكلية لحقيقة وجوهر ردود الأفعال هذه، بمختلف ملامحها ومعالمها وخطوطها وألوانها.
ولعل القضية الأولى تتمثل في أن الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ومجمل القوى الغربية، تعمل على فرض قيمها الثقافية والفكرية المنحرفة على المجتمعات الإسلامية الشرقية، تحت شعارات ويافطات الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، وما إلى ذلك من تلك المفاهيم البراقة الخادعة. وهي من خلال ذلك تستهدف أمرين، الأول هو تعزيز هيمنتها ونفوذها وسطوتها على تلك المجتمعات، والأمر الثاني يتمثل ببث وترويج السلوكيات والثقافات الشاذة البعيدة كلّ البعد عن مبادئ الدين وأعراف المجتمع. وكلا الأمرين يلتقيان عند نقطة واحدة وهدف محوري واحد.
والقضية الثانية، تتمثل في التناقض الواضح والصارخ في مواقف وردود الأفعال الغربية حيال الكثير مما يجري في بلدان العالم الإسلامي من أحداث ووقائع سياسية وغير سياسية. ناهيك عن التناقض الواضح والصارخ في مواقفها وردود أفعالها إزاء ما يحصل في ساحاتها وميادينها مقارنة مع ما يحصل في ساحات وميادين أخرى. فهي تنتفض وتثور وتحشد منابرها السياسية والإعلامية على قانون صادر عن أعلى سلطة تشريعية في العراق، يهدف إلى الحفاظ على القيم والمبادئ الإسلامية والأعراف والتقاليد الاجتماعية السليمة للمجتمع، بينما هي في ذات الوقت تستخدم كلّ الأدوات والوسائل القمعية لمواجهة آلاف الطلبة الجامعيين في جامعاتها، لا لشيء الا لأنهم عبروا عن تعاطفهم مع الشعب الفلسطيني، ورفضهم لجرائم الكيان الصهيوني، وادانتهم لمواقف حكوماتهم المتخاذلة والمهادنة لذلك الكيان.
أما القضية الثالثة فإنها ترتبط بمفهوم السيادة، فالولايات المتحدة الأميركية ومن يدور في فلكها، ترفض المساس بقيمها الثقافية، وهي تحارب الحجاب الإسلامي وتضيّق الخناق على أبناء الجاليات المسلمة لديها في ما يتعلق بحرية ممارساتهم لشعائرهم وطقوسهم الدينية المختلفة، وفي ذلك هناك كمّ هائل من المصاديق والأمثلة من الولايات المتحدة نفسها ومن فرنسا وبريطانيا وغيرها، بيد أنها تسمح لنفسها أن تتدخل بطرق وأساليب فجّة وغير حضارية في خصوصيات الشعوب والمجتمعات الأخرى، بحجج وذرائع ومبررات واهية. وما قاله كبار الساسة وكبريات المؤسسات السياسية والإعلامية هناك حول قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي في العراق، يثبت ذلك.
وهذه المواقف وردود الأفعال الغربية "الغريبة"، لا يمكن تبويبها وتصنيفها إلا تحت عنوان التدخل السافر وغير المقبول في الشؤون الداخلية، ولعل مثل هذا التدخل يفوق في خطورته التدخل في القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية المختلفة. لأنه متى ما تفكك المجتمع أخلاقيًا وقيميًا، انهار سياسيًّا وأمنيًا واقتصاديًا بكلّ يسر وسهولة.
في حين تتمثل القضية الرابعة بأنه من المثير والملفت والمضحك في الأمر، أن القوى الغربية، فضلًا عن كونها تريد بكلّ وقاحة وصلافة، بث الفساد والتحلل والانحراف الأخلاقي في المجتمع العراقي، بعدما نشرت فيه كلّ مظاهر وظواهر الفساد السياسي والمالي والاداري في ظلّ الاحتلال والهيمنة العسكرية المباشرة طيلة أعوام طويلة، فإنها تحذر من أن تشريع قانون مكافحة الفساد والشذوذ الجنسي وأي قوانين أخرى مماثلة ومشابهة له، سيتسبب في تأخر وعرقلة النموّ الاقتصادي وتراجع فرص الاستثمار، وكأنها تريد أن تقول للعراقيين، "ازدهاركم الاقتصادي ورفاهيتكم ترتبط بقبولكم وتقبلكم للفساد والانحلال الأخلاقي وتخليكم عن دينكم وقيمكم واعرافكم".
القضية الخامسة هي أنه على السياسي العراقي والمواطن العراقي، وكذلك السياسي والمواطن المسلم في أي مكان وأي بلد، أن يفهم ويدرك حقيقة أنه يواجه حربًا ناعمة، مساحاتها وميادينها مفتوحة، تمتد إلى عمق البيوت والمدارس والأسواق وحتّى أماكن العبادة، ومؤسسات صنع القرار، ومفاصل إدارة شؤون الدولة والمجتمع، وأن محور الاستهداف فيها هو المنظومة القيمية الأخلاقية، قبل المنظومات السياسية والأمنية والاقتصادية والعلمية، والتهاون في الخضوع والقبول بأملاءات الغرب، يعني الانزلاق نحو التحلل والانهيار، وهذا واضح إلى أقصى الحدود من خلال الترويج والتشجيع بكلّ الوسائل والأساليب على المثلية والشذوذ والمجون والانفتاح العشوائي الفوضوي، ودعم وتمويل كلّ من يساهم في الترويج والتسويق لذلك من منظمات مجتمع مدني موجهة، ووسائل اعلام مضللة، ونشاطات وفعاليات مجتمعية مبتذلة.
ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 حتّى الآن، يمكن للمتابع والمراقب تسجيل وتوثيق كمّ هائل مما قامت به الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية مختلفة، من حملات تشويه وتفكيك وتحريف للمجتمع العراقي تحت شتّى العناوين والمسميات الناعمة. ولا شك أن مواقفها وردود أفعالها الغاضبة حول قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، رغم انشغالها بمشاكلها وأزماتها الداخلية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي راحت تتسع وتتنامى يومًا بعد آخر. وطبيعي أن تظاهرات الطلبة الجامعيين واحتجاجاتهم الشجاعة والجريئة في الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة بالتأكيد!
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
07/11/2024
كم ستنبت الأرض منك!
07/11/2024