معركة أولي البأس

آراء وتحليلات

مشروع بايدن: حتّى لا يكرر التاريخ نفسه مجددًا
14/03/2024

مشروع بايدن: حتّى لا يكرر التاريخ نفسه مجددًا

حيّان نيّوف

في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وبعد ما يزيد عن أربعين يومًا من طوفان الأقصى، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" مقالًا بتوقيع الرئيس الأميركي جو بايدن جاء فيه ما نصّه: "لا ينبغي أن يكون هدفنا ببساطة هو وقف الحرب اليوم، بل يجب أن يكون إنهاؤها إلى الأبد، وكسر دائرة العنف المتواصل، وبناء شيء أقوى في غزّة وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط، حتّى لا يستمر التاريخ في إعادة نفسه".

شكّل ذلك الاعتراف الأكثر وضوحًا وصراحةً من قبل واشنطن وعلى لسان رئيسها بايدن حول الأهداف والنوايا الأميركية الخبيثة لهذه الحرب الوحشية التي تقودها واشنطن وتنفذها "إسرائيل" في قطاع غزّة.

إذًا، حرب الإبادة الممنهجة في غزّة هي حرب أميركية أولًا، وقرار استمرارها أو توقفها بيد واشنطن، وأهدافها المعلنة وغير المعلنة هي أهداف أميركية قبل أن تكون إسرائيلية، والمسؤولية الأخلاقية والإنسانية والقانونية عن نتائجها تقع على عاتق واشنطن بالدرجة الأولى، وهو ما عبّر عنه سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه بالأمس عندما قال بكلّ وضوح إن "واشنطن تستطيع إيقاف الحرب بجرّة قلم".

انطلاقًا من هذه المسلّمة فإنه من العبث قراءة المشهد الحالي إلا من زاوية الأهداف والمخطّطات الأميركية في المنطقة وحتّى في العالم، وتأثير الصراع ونتائجه على واشنطن ونفوذها ومكانتها.

وحول المشهد الحالي، ووفقًا للأهداف الأميركية والنتائج المؤثرة في النفوذ الأميركي، فإنه يمكن لنا اختصار المشهد بنقطتين:

الأولى؛ متعلّقة بالمخطّط الأميركي والذي تمت ترجمته من خلال ميناء بايدن قبالة سواحل غزّة والممر البحري القبرصي الإسرائيلي.

والثانية؛ معادلات الاشتباك وقواعد الردع والنتاىج الجيوسياسية المهمّة لمحور المقاومة على حساب النفوذ الأميركي في الإقليم.

كنا تحدثنا في مقالنا السابق بعنوان "ميناء بايدن: مشروع خبيث بغطاء إنساني" حول العديد من الخلفيات والأهداف التي ترمي لها واشنطن من وراء هذا المشروع كواحدة من المكاسب التي تسعى لتحقيقها قبل وقف المعركة انسجامًا مع ما قاله بايدن في الـ"واشنطن بوست"، وبقي لنا أن نوضح الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية لهذا المشروع.

في هذا الجانب لا بد لنا من العودة إلى الوراء قليلًا عندما أعلنت واشنطن وبعيد وصول بايدن للبيت الأبيض عن سحب دعمها لمشروع خط الغاز الإسرائيلي "إيست ميد" لنقل الغاز من حيفا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، ثمّ جرى بعد ذلك إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط والذي ضم إلى جانب واشنطن كلًا من "إسرائيل" ومصر والأردن وسطلة رام الله واليونان وقبرص والإمارات العربية المتحدة.

وكان الهدف من هذا المنتدى هو نقل الغاز من الكيان الصهيوني ودول إقليمية أخرى إلى مصر لتسييله أو من دون تسييل ومن ثمّ إعادة تصديره لأوروبا كبديل للغاز الروسي، وكانت إدارة بايدن تعتقد بأن استبدال المشروع الإسرائيلي "إيست ميد" بالمشروع الإقليمي "منتدى غاز شرق المتوسط" سيكون أكثر نجاحا على اعتبار أن محور المقاومة لن يجعله هدفا له على عكس مشروع "إيست ميد" الذي يمكن للمقاومة اللبنانية ان تستهدفه بسهولة، وذلك باعتبار أن مصر هي أحد المؤسسين له ومركز التجميع الرئيسي فيه، وأن محور المقاومة لن يدخل في اشتباك مع مصر، والأمر ذاته ينطبق على روسيا التي تسعى لاستقطاب مصر وبالتالي لن تعمل ضدّ هذا المشروع.

غير أن إحدى العقبات التي ظلت واشنطن (على الأقل) تعتقد بأنها ما زالت تقف بوجه هذا المشروع الجيوسياسي الاقتصادي الطاقوي كانت المقاومة الفلسطينية في غزّة تحديدًا على اعتبار أنها تملك هامشًا ونفوذًا لاستهداف خطوطه المتجهة نحو مصر أولًا وعبر المتوسط إلى أوروبا ثانيًا، وأنها أي المقاومة الفلسطينية تمتلك الحق القانوني لفعل ذلك على اعتبار أن جزءًا كبيرًا من الغاز الذي يجري نقله عبر هذا المشروع هو غاز فلسطيني بالأصالة قد جرى استخراجه وسرقته من قبل الكيان الصهيوني.

إن واشنطن التي ضغطت باتّجاه انشاء هذا المنتدى وألحقته بإنشاء تحالف إقليمي للدفاع الجوي لحمايته من مسيرات وصواريخ المقاومة، كانت تسعى لتحويله إلى نظام إقليمي متكامل سياسيًّا واقتصاديا وعسكريا تحت رعايتها وربطه بالاتحاد الأوروبي بعد فصله عن روسيا، وكذلك ربطه بآسيا وتحديدًا الهند عبر الممر الهندي الأوروبي لمواجهة الصين.

غير ان "طوفان الأقصى" الذي انطلق من غزّة أوشك أن يدفن الأحلام الأميركية، وهو ما بدا واضحًا من التصريحات المتكرّرة لبايدن التي قال فيها بأن ما قامت به حركة حماس يهدف لمنع اندماج "إسرائيل" في المنطقة.

ولذلك كان الهدف الأميركي قبل الإسرائيلي هو تدمير غزّة بالكامل واللجوء إلى الإبادة الجماعية وتصفية المقاومة الفلسطينية في غزّة وخلق واقع جديد فيها يتلاءم مع أهداف واشنطن والعودة لإحياء مخطّطها، وهو بالتحديد ما عناه بايدن في مقاله بالواشنطن بوست عندما قال "بناء شيء أقوى في غزّة وفي الشرق الأوسط حتّى لا يستمر التاريخ بإعادة نفسه".

لأجل ذلك كان لا بد من استمرار العدوان حتّى بلوغ هذه الأهداف، وما بين السياسة والمراوغة والتجويع والحصار وآلة العدوان العسكرية التي استمرت لأكثر من خمسة أشهر بقرار أميركي، خرجت واشنطن لتعلن عن مينائها البحري قبالة سواحل غزّة، وعن ممر بحري من قبرص إلى الكيان الصهيوني، وتحت دوافع إنسانية كانت هي من تسببت بها ودفعت باتّجاهها، والهدف من كلّ ذلك كان بعث الحياة مجدّدًا في مشروعها الإقليمي الاستراتيجي "منتدى غاز شرق المتوسط" بعد أن دفعت باتّجاه مصالحة وتشبيك تركي مصري قبيل إعلان بايدن عن مينائه وعن الممر البحري، وهو ما ترجمته زيارة اردوغان للقاهرة ولقائه بالرئيس السيسي بعد سنوات من القطيعة وتقاذف التهم والتصريحات النارية بين الجانبين، خاصة بأن أنقرة كانت تعارض منتدى غاز شرق المتوسط لعدم تضمينها به، وأبدت استعدادها لتكون بديلا عن مصر في تصدير الغاز الإسرائيلي والإقليمي لأوروبا.

تعتقد واشنطن بأن القاعدة البحرية قبالة سواحل غزّة والممر البحري من لارنكا إلى اسدود، وخاصة بعد التشبيك التركي المصري، سيكون كفيلًا بتأمين تشاطؤ طاقوي "تركي إسرائيلي مصري" لاحقًا بما يخدم مشروعها الأساسي، وأعلنت عن مهلة من 30 إلى 60 يومًا لإنجازه.

واستعدادًا لتلك المدة تعمل واشنطن على خطين متوازيين، أحدهما التصعيد العسكري سواء بشكل مباشر أو عبر وكيلتها "إسرائيل" لحرف الأنظار عن إتمام المشروع، وثانيهما تمثل بالتحرك السياسي عبر التضخيم الإعلامي لسفن المساعدات، وعبر عودة الحديث عن الحل السياسي.

من الواضح بأن واشنطن ستستمر بسياسات المراوغة بهدف تجيير الوقت لصالح إنجاز هذا الهدف الاستراتيجي "منتدى غاز شرق المتوسط"، وخاصة بعد أن تمكّنت من سحب تركيا لتكون أحد أضلاع هذا المشروع، ثمّ لاحقًا ربما تكون السعودية، قبل أن تعلن أي واشنطن عن موافقتها على وقف دائم لإطلاق النار وعن استعدادها لتقديم التنازلات.

يبقى لنا التذكير بما تحاول واشنطن تجاهله أو القفز الفاشل فوقه، ونقصد الواقع الجديد الذي فرضه طوفان الأقصى عبر وحدة الساحات وجبهات الإسناد، في اليمن والعراق وفي لبنان وسورية وفلسطين، وصولا إلى طهران، ولعلّ تكثيف المقاومة العراقية لاستهدافاتها للعمق الصهيوني ولشواطئ وموانئ الكيان الصهيوني يمثل واحدة من أكثر الرسائل قوة عن استعداد محور المقاومة لإفشال المخطّط الأميركي مجددًا.

لعل ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منذ حوالي شهر تقريبًا كان الأكثر تعبيرا عن المشهد في الشرق الأوسط حيث قال "إن الأوضاع في الشرق الاوسط في تصاعد وتزداد حدة ولا تقترب من نهايتها، وتداعياتها ليست في غزّة والضفّة فقط ولكن في سورية والعراق والبحر الأحمر ربما".
   

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات